إذا دخلت من الباب الشرقي لدمشق ومشيت لمسافة قصيرة، وقطعت حارة الزيتون وتوجهّت قليلاً إلى الأمام ستأتيك حديقة صغيرة ملأى بالشباب الذين يغنون والعشاق الذين يحاولون التواري عن النظر، وبعض "الاختيارية" كما يحلو لأهل الشام مناداة كبار السن بهذا الاسم التركي القديم، وهذه الحديقة لا تزال تحتفظ باسم "القشلة" منذ أكثر من مئة عام نسبة إلى ثكنة عسكرية عثمانية كانت في موقعها اليوم، اتجه نحو اليسار وأدخل أحد الأزقة الضيقة ليأخذك الشارع الصغير بين البيوت الشامية العتيقة والتي تحسب أن أغلبها سينهار بعد قليل، حسناً أنت الآن في قلب حارة اليهود!
منذ عدّة سنوات قررت أن استأجر غرفة صغيرة هناك كي أحولها لمرسم أستطيع الرسم فيه دون أن أشتت نفسي، ولكنها ما لبثت أن تحوّلت لغرفة للسكن واللقاءات والسهر وحلّ المشاكل.. ومرسم بالطبع!
كان مرسمي عبارة عن "دكّان" يتشارك الحائط مع كنيس مهجور، بحثت عن اسمه طويلاً ولم أجده، لكنّي سمعت مرّة بإسم له غير رسمي، كنيس "إم البنات" كما ينطقه الشَّوَام ، أمّا الذي نطق الإسم أمامي فكان جاري اليهودي الستيني "موشيه"!
موشيه... يا له من اسم "كليشيه" فجّ ليهودي، لكن موشيه أو موسى كما يناديه أهل الحارة من الفلسطينيين الذين سكنوا المنطقة بعد تهجيرهم من بلادهم وقرار الحكومات السوريّة المتعاقبة أن تسكنهم بيوت اليهود الذين هَجَروا البلد، لحسن الحظّ لم يكن كما تصوره الأفلام العربية والروايات العالمية بأنفٍ معقوف وظهرٍ محنيّ، كان الرجل سميناً وبشاربٍ مصبوغٍ بعناية وقوّي البنية .
كنت أحبّ التحدّث إلى "الخواجة" موشيه كلّما صادفته ، أسأله عن حياته وحيداً وعن بيته وذكرياته عن حارته التي لم تعد كما كان يعرفها في صغره ويؤكد لي كلّ مرة بلهجته الدمشقيّة العتيقة: هي الحارة كانت جنّة، لا تشوفها هيك مهرهرة (متداعية) اليوم.. كانت كلها نارنج وكبّاد، شايف هداك البيت، سجرة (شجرة باللهجة العامية) الكبّاد فيه عمرها فوق المية سنة .. بيت أهلي هداك..
كنتُ أفهم ما يقوله "الخواجة" دون أن ينطقه، لم يكن الرجل يريد السفر، لم يعرف سوى "الشام" وطناً له.. وهذا ليس حميميّاً كما يبدو وقعه، ولكنّه كان يبرر ذلك بأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية حتى يسافر!
كان موشيه يحب جيرانه من المسلمين والمسيحيين والفلسطينيين وكانوا يحبونه كذلك.. كان شامياً عتيقاً لا يحلم بتلك الأرض التي أطلقوا عليها اسم "أرض الميعاد"، كان بيت أهله الدمشقيّ أرض ميعاده الحقيقيّة.
لم يكن موشيه يسكن في بيت أهله القديم الذي لا يزال واقفاً بعد ثلاثة قرون من بنائه على يد جده الأكبر ، وهو أقرب للقصر وإن أصبح اليوم مكبّاً للنفايات، إذ عقد الرجل صفقة مع السلطات كي تسمح له بترك البيت والانتقال للسكن في بيت عمه المهجور الذي كان يعتبر أحدث من بيت أهله، حيث لم يكن مسموحاً لليهود بترميم بيوتهم وقصورهم!
وعن عمه هذا يقول لي إنه كان صديقاً لفخري بيك البارودي، الزعيم الوطني والسياسي الدمشقي الكبير والمثير للجدل، وبحسب موشيه فإن البارودي كان يسهر في هذا البيت نفسه وهو المعروف بحبّه "للسهر والبسط" يستمع لغناء الست "رحلو شطاح" ويتغزّل بجمالها حتى الصباح.
كانت ذاكرة "الخواجة" موشيه منجماً بالنسبة لي، وكان هو يعرف هذا جيداً لكنّه كان مهتماً بالحديث عن نفسه أكثر، إذ أنه بلا أصدقاء منذ زمنٍ طويل وذلك ما جعله يحكي لي حكاياته على حلقات متباعدة كلّما سنحت لنا الفرصة بذلك .
لم يتزوج موشيه لأنه لم يعد هناك صبايا في حارة اليهود منذ عقود ، فبقي وحيداً ولم يبق أحد من عائلته القريبة كذلك:
كلهن ماتوا ...واللي ما مات ، متنا نحن بذاكرته !
كنت كثيراً ما اسأله لماذا لم تسافر مع الذين سافروا؟ وكان يجيبني أن الطريق إلى أمريكا طويل.. وأنا ما بعرف أحكي انجليزي .
ذهبتُ معه مرّة إلى كنيس الفرنج، وهو الكنيس الوحيد الذي يفتح أبوابه حتى اليوم للمصليّن في أيام السبت، كان المكان مهيباً ومخيفاً بنفس الوقت بالنسبة لي، رجلان أو ثلاثة وإمرأة هم كل من بقي ليصلي هناك، أصغرهم كان موشيه، وأكبرهم خيّاط تسعيني ماهر لا يزال يفتح محلّه في القشلة ويعمل بنفس أدوات الخياطة القديمة.
في كنيس الفرنج أراني موشيه بلهفة شديدة "السفاريم" القديمة وهي بضع لفائف من الجلد قديمة، كتبت عليها الأسفار وأجزاء من التوراة مغلفة بصفائح من الذهب والفضة، وأجلسني على كرسي الهيكل الخشبي المتآكل مع الزمن، وقطف لي ليموناً من الشجر المعمّر للكنيس وقال إن الليمون هدية "يهوه" وهو يضحك.
في المرّة الأخيرة التي رأيت فيها موشيه ذهبت كي أودعه قبل أن أسافر. قال لي:
منيح إنك مسافر .. لا تضل عصيان متلي هون!
كنتُ أفهم ما يقوله "الخواجة" دون أن ينطقه، لم يكن الرجل يريد السفر، لم يعرف سوى "الشام" وطناً له، وهذا ليس حميميّاً كما يبدو وقعه ولكنّه كان يبرر ذلك بأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية حتى يسافر!
كان موشيه يحب جيرانه من المسلمين والمسيحيين والفلسطينيين وكانوا يحبونه كذلك، كان يحب النارنج والكبّاد والليمون، كان شامياً عتيقاً لا يحلم بتلك الأرض التي أطلقوا عليها اسم "أرض الميعاد"، كانت أرض ميعاده الحقيقيّة، بيت أهله وشجرة الكبّاد المعمّرة التي غرستها جدته في أرض الديار عندما ولد عمه الأكبر.
اليوم لا أعرف إن بقي "الخواجة" حيّاً أم مات، لكني لا أزال أسمع صوته كلّما تذكرت دمشق ومرسمي الصغير في حارة اليهود!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع