أن تكون ضدّ المكان، تطويّ التراب، وتتسّع حتى تملأ الكون
لا قداسة كصفةٍ خالصةٍ في "الأشياء" و"الأشخاص"، ونركّز على استخدام "لا" النافية للجنس، لأنها تنفي كلّ صفة جوهريّة، فأيّ تصوّرٍ عن قيمةٍ خفيّةٍ تعلو ولا يُعلى عليها، ليس إلّا تكويناً ثقافياً، وهنا يظهر شخص المتصوّف، الذي لا ينفي فقط الصفات ومعانيها وتقلّباتها، بل ينفي المادي أيضاً سواء كان حدود جسده أم غرضاً موجوداً في العالم، وحتى لو صُنّفت المقدسات الخمس، أفعالاً وأشخاصاً في جملةٍ واحدة، فظهورها وترتيبها هذا ثقافي أيضاً، وخَرْقُ هذا الترتيب يتحرّك بين الهرطقة، والكفر والتصوّف والشعر والفنّ، كلّها مجرّد إعادة تعريف وخلق تصوّرٍ جديدٍ لما هو قائم.
حتى لو صُنّفت المقدسات الخمس، أفعالاً وأشخاصاً في جملةٍ واحدة، فظهورها وترتيبها هذا ثقافي، وخَرْقُ هذا الترتيب يتحرّك بين الهرطقة، والكفر والتصوّف والشعر والفنّ.
أبرز أشكال النفي هذه، وكَسْرِ الألفة التي يمارسها المتصوّف تتجلّى في علاقته مع المكان، وكأنه يطفو ضمن عالمٍ لا تتطابق صفاته مع حقيقته، فالأخيرة (الحقيقة) ليست إلا افتراضاً نضعه نحن ونسلّم به، ليأتي النفي المكانيّ هنا، كإعادة إنتاجٍ للحقيقة اللغويّة، وهذا ما يتجلّى في الحجّ، وطقسه الذي أعاد بعض غلاة الصوفيّة نفيه، كأبو مغيث الحلّاج، الذي يُقال إنه حُكم عليه بالقتل كونه جعل من غرفةٍ في بيته حَرماً و من حجرٍ في وسطها كعبة، إذ نُسب له:
"إن الإنسان إذا أراد الحجَّ ولم يمكنه ذلك، له أن يفرد في داره مكاناً مطهراً ينصب فيه ما يُشبه الكعبة، فيطوف حوله كما لو كان في مكة، ثم يجمع ثلاثين يتيماً ويكرمهم بالطعام ويخدمهم بنفسه ويغسل أيديهم ويكسو كلاً منهم قميصاً ويدفع إليهم سبعة دارهم، كانت له ثواب حجّة بأكملها ".
يرى "الرحمن الرحيم" كما يصف نفسه بأن الحجّ بالنيّة، هو لا ينفي الطقس بل يُعيد تعريفه، جاعلاً من المكان مفهوماً هشّاً، وتكويناً رمزياً لا تضبطه حدود ماديّة، وكما الطقس لا منطقي أو إعادة لتقاليد قديمة، فهذه "الأماكن" ليست إلا أسماء أطلقت على أشياء، يمكن الحفاظ على الاسم ونسبه لمكانٍ آخر، هي تصوّر يمكن التلاعب به وتحريره من قيوده الماديّة وإثباتها في مكانٍ آخر ننسب له ذات الرمزيّة.
"إن الإنسان إذا أراد الحجَّ ولم يمكنه ذلك، له أن يفرد في داره مكاناً مطهراً ينصب فيه ما يُشبه الكعبة، فيطوف حوله كما لو كان في مكة" منسوب للحلاج
"الأماكن" ليست إلا أسماء أطلقت على أشياء، فهل يمكن الحفاظ على الاسم ونسبه لمكانٍ آخر؟ وهل يمكن أن نحجّ في بيوتنا؟ هذا ما زعمه الحلاج
يُقال إن الحلاج كان يظهر في عدّة أماكن، حتى أثناء صلبه يقال أنه تنقّل في الأماكن، ويقال أنه كان لديه أن يذهب للأهواز بلمح البصر، ويصيد السمك ويعود ليطعم من يزوره.
هذه النزعة للتحرّر من التراب نراها في ظاهرة "طي المكان"، الكرامة التي تُنسب لبعض الأولياء والمتصوّفة كونهم من أصحاب الحظوة، يجوبون العالم ويتخلّلون حجارته بل ويحجّون مراراً في اليوم وكأن لا مسافة تقف بوجههم، إذ يُنسب إلى أبو العباس المرسي قوله: "لو فاتني الوقوف بعرفة سنة، ما عددت نفسي من المسلمين"، وكأنه كان بلمح البصر يحجّ، ويحضر في كلّ مكان وزمان، وعيه مهيمن في كلّ لحظة لا يحدّه التراب ولا المسافة. هذا التجاوز للتصوّر التقليدي للإدراك ليس إلا لعباً لغوياً، حذلقةٌ شعريّةٌ من نوع ما، وفي ذات الوقت تحرّرٌ من الأصل، نحو أشكال مختلفة من "العبادة" ربّما، أو التجلّي الشعري، أو حتى الفانتازم بكلّ أشكاله.
لا يقتصر طي المكان هذا وألعابه اللغويّة والرمزيّة على الأماكن المقدّسة، إذ يُقال إن الحلاج كان يظهر في عدّة أماكن، حتى أثناء صلبه يقال أنه تنقّل في الأماكن، ويقال أنه كان لديه أن يذهب للأهواز بلمح البصر، ويصيد السمك و يعود ليطعم من يزوره، ونقرأ قصّة عن واحدٍ دخل بيته فوجد وراء لوحة على الجدار: "بستان عظيم فيه صنوف الأشجار المثمرة والأزهار وفيه خزائن فيها أنواع الأطعمة والحوائج، ووجدت بركة ماء كبيرة مملوءة أسماكاً كباراً وصغاراً فخضتها واصطدت سمكة كبيرة حملتها وخرجت وإذ برجلي قد صار فيها الوحل والماء إلى ركبتي مثلما جاءنا الحلاج فلما خرجت ورآني الحلاج وبيدي السمكة لحقني فضربته بالسمكة وهربت منه".
"وقد كبر حتى ما بقي يسعه مكان"
حدود المكان هذه تتلاشى أيضاً على المستوى الذاتي، الكتلة التي يشغلها المتصوّف أو المُريد أو المهرطق قد تتغيّر لغوياً، الكلمات تعبّر عن الأعراض لا عن الجواهر، لتبدو أقرب إلى الشعر أو الهلوسة، لنرى أنفسنا أمام صورةٍ تستعيد التراث الشعري والرومانسي.
فالحلاج مثلاً نفى حدوده المكانيّة، وقيود جسده الذي يحتلّ مساحة محدّدة، وتلاعب بها حتى أثار الدهشة والرعب، فبعد أن اتُهمَ الحلاج المؤذن في الجامع بالكذب حين قال "الله أكبر" أثناء الآذان، اختبأ الحلاج في المدرسة وقفل عليه الناس هناك ليُحاكم، كونه كفر، وبعدها اتجه نحوه الناس مع الخليفة، وحين وصلوا "وجدوه قد خرج منها، وقد كبر حتى ما بقي يسعه مكان، فما قدر أحد أن يتقّدم إليه منهم، من الهيئة التي كانت عليه، فتركوه وساروا، فلما أصبح الصباح، أتوا إليه فوجدوه يبكي بكاًء شديداً" وتقول رواية أخرى أنه عاد طفلاً رضيعاً، وفي اليوم الثاني عاد كما هو.
الحلاج هنا يبدو في المتخيل الشعبيّ قادراً على الامتلاء وشغل المكان كله، ولو غابت الجدران مثلاً أن يملأ الكون كلّه، وجوده الماديّ هش، لا حجم ثابته له، وكأنه واحد من احتمالات الظهور، لا شكل مسبق له، هو متحوّل يختلف ويتمايز، ويعبر الزمان والمكان، حقيقة، يكمن وصفه بجسدٍ بلا أعضاء، لا نقاط ثابتة لتحدّد شكلاً ووظيفة مُسبقة له، هو الحق والشيطان في أيّ آن وفي كلّ مكان.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.