يعاني كثيرٌ من المختلفين في المغرب، المنفتحين على الأفكار والثقافات والأديان الأخرى، من عدم تقبّل المجتمع لهم، ,وتبلغ المعاناة ذروتها كل عام في شهر رمضان، حيث يصعب على غير الصائمين أن يأكلوا ويشربوا علناً، أو حتى يطالبوا بذلك.
قبل أيام أعلن نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) عن وقفةٍ احتجاجيّة في أشهر الساحات العموميّة بمدينة الدار البيضاء، التي تُعتبر القلب النابض للمغرب، للمطالبة بحقهم في الإفطار العلني، وإلغاء الفصل"222" من القانون الجنائي، القاضي بمعاقبة المجاهرين بالإفطار، والذي ينصُّ على أن "كلّ من عُرِفَ باعتناقه الدين الإسلامي، وجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكانٍ عمومي، دون عذرٍ شرعي، يُعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وغرامةٍ ماليّة من 12 إلى 120 درهماً".
وعندما حان يوم الوقفة، نهار السابع من رمضان، شهدت ساحة مارشال في الدار البيضاء استنفاراً أمنياً، ولم يحضر سوى رجال الأمن بمختلف تشكيلاتهم.
يطرح غياب النشطاء هذا علامة استفهامٍ، يمكن أن تكون إجابته ما تعرّضت له الفتاة القاصر إيمان، التي لم تتجاوز 14 عاماً، من عنفٍ على يد سائق، بسبب تناول الطعام في النهار داخل الحافلة.
إيمان تتابع دراستها بالقسم التاسع إعدادي بجماعة المجاعرة في ضواحي وزان شمال المغرب، تحكي لـ"رصيف22" عن اعتداء تعرضت له يوم الجمعة 17 مايو 2019، وهي على متن حافلة مخصصة للنقل المدرسي، وكانت تتناول طعامها، فوجئت بالسائق ينهال عليها ضرباً وسباً.
ولاتزال إيمان تعيش تداعيات هذا الاعتداء، تقول إن السائق روّج لشائعات وسط المدرسة بكونها ملحدةً، ما تسبّب لها بمعاناةٍ نفسيّة لا تنتهي.
انقلبت حياة إيمان رأساً على عقب بسبب هذا الحادث، وأمست خائفةً من ردِّ فعل زملائها في الدراسة، تقول إنها "تعتقد بأن بعض الأشخاص يكنّون لها الحقد والكراهية، بسبب إفطارها لرمضان بشكلٍ علني".
حاولت إيمان أن توضح للجميع بأن لها "ظروف خاصة" تمنحها "رخصة شرعية للإفطار في رمضان"، ولكن لم يستمع لها أحد، وقدم والداها شكوى رسمية.
لم تعد إيمان تذهب للمدرسة، بسبب ما روّج له سائق الحافلة بأنها ملحدة، تقول: " لا أستطيع الذهاب إلى الإعداديّة بسبب الشائعات، إضافةً لمقاطعة التلاميذ لي، ونظرتهم، وكلامهم المستفزّ عني".
إفطار المغربي تحدي لـ "العقيدة"!
"يعتبر المغاربة المجاهرة بالإفطار لا تدخل في باب الحريات الفرديّة"، يقول علي الشعباني، باحث في علم الاجتماع بالمغرب، تصرّف السائق الذي اعتدى على إيمان.
ويضيف الشعباني، في حديثه لـ"رصيف22": "المغربي لا يقبل بأن يشاهد شخصاً يجهر بإفطاره نهار رمضان، فهذا السلوك يعتبره استفزازاً".
في المقابل،"من الممكن جداً أن يقبل المغربي التعايش مع نفس الشخص الذي يأكل نهار رمضان، لكن بدون أن يجاهر بذلك، كأن يأكل مثلاً مختبئاً في مكانٍ ما، إضافةً إلى أن المغاربة لا مشكلة عندهم بأن يروا الشخص الأجنبي يأكل نهار رمضان وبشكل علني، ولكنهم عنيفون مع الشخص الذي ينتمي إلى مجتمعهم".
المغاربة لا مشكلة عندهم بأن يروا الشخص الأجنبي يأكل نهار رمضان وبشكل علني، ولكنهم عنيفون مع الشخص الذي ينتمي إلى مجتمعهم"
"الوهّابيّة هي السبب"
يرى محسن بن زكور، باحث في علم النفس الاجتماعي، أن العنف الذي يمارسه المغاربة على بني وطنهم طارئ حديثاً، مع صعود موجات "الصحوة الإسلامية" الحارة القادمة من السعودية في أواخر القرن الماضي.
يقول بن زكور: "بعض المغاربة تغيّرت مفاهيمهم بسبب الأفكار المتطرّفة، والنابعة أساساً من الفكر الوهّابي".
ويشرح بن زكور فكرته أكثر لـ "رصيف22": "المغاربة يتقبّلون حرية الآخر ويحترمونها، لكن بشرط أن يكون هذا الآخر أجنبيّاً، لكن عندما يطالب المغربي بالحرية الفرديّة، هنا سيصبح بعض المغاربة عنيفين، والسبب أن البعض يعتبر نفسه يملك سلطة الإرشاد، أو سلطة الوصاية على الآخر، وهذا لا شكّ أمرٌ خطير".
وتابع بن زكور حديثه، قائلا: " إن سلطة الوصاية تُخرج مفهوم النصيحة من الدين الإسلامي، وشتّان بين النصيحة والوصاية، فالأخيرة تجعل الطرف الآخر، قاصر الفهم، والوصي هو الذي يملك سلطة المعرفة، ومن هنا يأتي العنف".
إضافةً إلى ذلك، يعتقد بن زاكور، أن "هناك بعداً آخر يجعل بعض المغاربة عنيفين مع من يفطر رمضان، وهو ما يسمى بالبعد الاندفاعي، بمعنى أن بعض الأشخاص لا يفكّرون بعواقب أفعالهم، وهذه الانفعاليّة ليست في الدين فقط، بل في علاقات أخرى مثل الزواج والعمل والأسرة".
تحكي إيمان أن تصرّف السائق لقي ترحيباً من طرف مسؤوليه، بل البعض برّر سلوكه بالقول بأنها المخطئة.
عزيز الدروش، 32 سنة يسكن في الدار البيضاء ولا يعمل، يتبنى أيضاً تلك الأفكار، "البعد الاندفاعي"، و "الوصاية"، فعندما طلبنا منه رأيه فيما اقترفه السائق مع إيمان، شدّد لـ "رصيف22" على أن "تصرّف إيمان مستفزٌ، على الرغم من صغرها، فما كان عليها أن تفطر نهار رمضان، فهذا الأمر غير مقبول، والسائق بمثابة والدها، يجب عليه أن "يربّيها" كي لا تكرّر ما فعلته".
أما بخصوص المُطالبين بالإفطار نهار رمضان، فعلى الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها وتعاقبهم، "فنحن بلد مسلم، لن نقبل بمثل هذه التصرّفات" وفقاً لتعبيره.
يبرّر سعيد، وهو طالب جامعي يهوى القراءة والتأمل، هذه النقطة، قائلاً: "السائح أو الأجنبي، لا يشكّل خطراً بالنسبة للمغاربة طالما هو خارج نسق الجماعة، وكتلتها المتجانسة (المسلمين) فهو يظل غريباً (بْرَانِي) في نظرهم، وبالتالي لن يؤثّر على أخلاقيّات المغاربة بالحدّة التي سيؤثّر عليها ابن البلد، خصوصا إن كان مسلماً سابقاً وغَيَّرَ معتقداته أو قناعاته الوجوديّة".
أما بالنسبة للتعنيف الممارس ضدّ المُفطرين المغاربة فقط، يعتقد سعيد، الذي رفض ذكر اسمه العائلي، "أن أُسَاس المعضلة يرجع للنصوص الدينيّة الجامدة، والقروسطيّة، إذ ما زالت جاثمة ومتجذّرة في ذهنيّات معظم المغاربة، لذلك نجد نسبةً منهم تمارس الوصاية على من يختلفون معهم، هنا يعتقد المغربي أن ابن بلده من المفروض أن يكون مسلماً وغير ذلك فهو ضرب من العصيان".
إذ أن "نسق الجماعة يتحكّم في ممارسات وسلوكيّات المغاربة، تفرض عليهم أن يحموا أخلاقيّاتها بأي ثمن حتى ولو كان ذلك بالعنف، والحديث النبوي "فإن لم تستطع فبيدك وهو أضعف الايمان" يُأَوَّلُ ويُوَظَّفُ في هذا السياق لشرعنة مثل هذه الممارسات".
ضرب السائق إيمان الفتاة القاصر، وسبها، وروج في مدرستها أنها ملحدة، وسط تضامن جماعي مع السائق باعتباره "يربيها مثل أبيها"
أما نور الدين عثمان، حقوقي مغربي، فيشدد على أن " إفطار رمضان من عدمه يبقى أمراً شخصيّاً، يدخل في باب الحريّة الشخصيّة للأفراد، وهو الأمر الذي تضمّنته جميع العهود والمواثيق والاتفاقيّات الدوليّة، وبالتالي فكلّ شخص يبقى له حرية إفطار رمضان من عدمه، لأن الأمر يتعلّق بالحق في الحرية والاختيار، وهذا الأمر نجد له سنداً في الدين الإسلامي الحنيف "لا إكراه في الدين".
لكن مسألة الإفطار العلني في رمضان، بحسب عثمان، "تبقى نقاشاً مجتمعيّاً حادّاً، وهو ليس بجديدٍ، يتعلّق أساساً بطبيعة المجتمعات المحافظة، فرغم مطالبة بعض فئات المجتمع، منها المنظّمات الحقوقيّة ذات المرجعيّة الكونيّة في مجال حقوق الإنسان، بإسقاط الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرّم الإفطار العلني، فإنه بالمقابل هناك فئات واسعة من المجتمع ترفض التخلّي عن هذا القانون تحت عدّة مبرّراتٍ فقهيّة".
الإفطار العلني للأجنبي "تسامح" و "تعايش"
تاريخيا، يتعايش المغاربة مع الأجانب، منذ القدم، لا مشكل عندهم في أن يشاهدوا سائحاً يشرب قنينة ماء نهار رمضان، أو سائحة أجنبية ترتدي لباساً لا يلائم جو رمضان، خاصة في مدن مثل أغادير وطنجة ومراكش، المليئة بمغريات الحياة للسياح والجاليات الأجنبية التي قررت البقاء فيها.
ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك، بشرب الكحول، في المناسبات الدينية، مثل رمضان، تُغلق الخمارات في وجه المغاربة، لكن للأجانب الحق في إقتناء الكحول وشربه، وذلك بمجرد أن يظهروا للبائع جواز سفرهم، لكن في مقابل ذلك، يمنع القانون على المغاربة التردد على الخمارات، أو شراء الكحول من المتاجر الخاصة.
ويعود السبب في ذلك لوجود الجالية اليهودية، ولموقع البلاد الجغرافي المطل على أوروبا، فقد كان الأجداد يتعايشون مع عادات وطقوس اليهودية، ويسمونهم:"اليهود المغاربة".
كما أن اليهود كانوا يقطنون في أحياء خاصة بهم، تدعى "الملاح"؛ فأغلب المدن العتيقة للمغرب تحمل اسم "الملاح"، كانوا يعيشون هناك بعاداتهم وثقافتهم ومعتقداتهم منذ قرون، والمغاربة لم يتقبلوا تقاليدهم وطقوسهم فقط، ولكن تأثروا بها مثل طقس"شعالة" الخاص بيوم عاشوراء، ويتمثل هذا الطقس بإشعال بعض الأطفال والشباب النار باستخدام أغصان الأشجار، على وقع ترديد أهازيج شعبية خاصة.
إضافة إلى الموقع الجغرافي للمغرب المجاور لدول مثل إسبانيا وفرنسا، جعلت بعض سكان تلك الدول الأوروبية يقيمون بالمغرب بصفة دائمة، ما ساهم في تقبل المغاربة لاختلافهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون