في أحد أزقة مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، تقودك الخطوات إلى منزل عائلة العيسوي. سبعة أفراد ضاقت عليهم جدران منزل هو أبعد ما يكون عن المنزل.
فعلى مساحة لا تتجاوز التسعين متراً، وتحت سقف مصنوع من الصفيح، وأرضية تخلو من البلاط، وأسلاك كهرباء خارجة من الجدران، تعاني العائلة الأمرّين، وتئن تحت وطأة فقر مدقع وجروح من الصعب أن تندمل.
بداية حكاية معاناة الأسرة تعود إلى عام 2004، عندما عايشت آلام فقدان ابنها هيثم، ذي الـ17 عاماً، خلال اجتياح القوات الإسرائيلية للمنطقة الوسطى من القطاع.
بعد وفاة هيثم، تبقّى للوالدين خمسة أبناء شبّوا في ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة. فالأسرة لا تمتلك أيّ مصدر ثابت للرزق. الأب عاطل عن العمل بعد أن ضاقت عليه سبل العيش طوال السنوات الماضية، جرّاء الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، وكذا حال جميع أبنائه الذين لم يجدوا أية فرصة دائمة للعمل، ومارسوا أعمالاً مؤقتة وتنقلوا بين مهن عدة في الصناعة وتركيب الجفصين.
لذلك، عندما هبت رياح مسيرات العودة وكسر الحصار، في 30 مارس 2018، كانت أسرة العيسوي في طليعة المتظاهرين للمطالبة بحقها في العودة إلى بلدتها الأصلية "قطرة" في الداخل الفلسطيني، وبكسر الحصار الذي حرمها العيش بحرية وكرامة.
آثر الأبناء الخمسة المشاركة في مسيرات العودة التي شكلت لهم بصيص أمل، لكن رصاص الجنود الإسرائيليين كان لهم بالمرصاد.
إصابات متلاحقة
كانت بداية الإصابات التي تعرّض لها أفراد الأسرة من نصيب عاطف (25 عاماً)، في اليوم الأول من مسيرات العودة، في 30 مارس 2018. لم تكن هذه إصابته الأولى فقد استهدفته القوات الإسرائيلية 12 مرة، منذ عام 2007، لكن الرصاصات الأخيرة استقرت في قدميه ويده اليمنى، لينتهي به المطاف مقعداً وعاجزاً عن الحركة على نحو تام.
يروي عاطف لرصيف22 أنه تواصل مع العديد من المؤسسات والجمعيات من أجل الحصول على العلاج ولكن ما من مجيب، ويقول إن كل ما تلقاه كان مجرد مساعدة مالية وحيدة بلغت مئة دولار أمريكي قدمتها له الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة، "لكنها لا تكفي لتغطية رسوم العلاج".
ويضيف: "حتى عندما سنحت لي الفرصة للحصول على تحويلة للعلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية، نتيجة إصابتي الخطرة، فإن الاحتلال رفض منحي التصريح اللازم للسفر، لأنني أحد المشاركين في المسيرات، وكانت الحجة: لأسباب أمنية".
بعد إصابة عاطف بنحو شهر، في 27 أبريل، اخترقت رصاصة بطن شقيقه أحمد الذي يكبره بثلاث سنوات، وأدت إلى تهتك في طحاله وفقدانه جزءاً من كبده.
يتحدث أحمد بمرارة عن حالته لرصيف22، ويؤكد أنه بالرغم من إصابة شقيقه عاطف الخطرة إلا أن ذلك لم يمنعه هو وبقية إخوته من المشاركة في المسيرات، رغم إدراكهم لخطورة الأوضاع.
ويعزو أحمد إصرارهم إلى فقدان الأمل في الحياة هو وأبناء جيله بأكمله، ويؤكد أن "حال الشباب العاطلين عن العمل هو ما دفعنا للمشاركة في مسيرات العودة لتحريك قضايانا أمام العالم، فإنْ جلسنا في البيوت سنموت ببطء".
خمسة مصابين
لم تقف الإصابات والإعاقات عند عاطف وأحمد فقط، وإنما تعدتهما أيضاً إلى مازن ومحمود ورائد، وما زاد الطين بلة هو إصابة والدتهم، لتجد العائلة نفسها في مهب معاناة أقسى.
فالابن الأصغر مازن (17 عاماً) فارق الحياة وعاد إليها. يروي لرصيف22 تفاصيل إصابته ويقول: "تم إطلاق النار على جسدي بشكل مباشر (في 13 مايو 2018)، ففقدت الوعي، وبعد أن استيقظت وجدت نفسي ملقى على سرير المستشفى".
خرجت أحشاؤه من جسده بسبب الرصاص الذي أصابه. يقول: "اعتقد الجميع أني فارقت الحياة، وتم الإعلان عن استشهادي، ومن ثم وضعوني في ثلاجة الموتى لمدة ساعتين، بعد ذلك جاء صديقي لوداعي، وفتح باب الثلاجة، ووجدني على قيد الحياة، بعدها تم نقلي إلى العناية المركزة، وبقيت هناك نحو شهر كامل بعد استئصال جزء كبير من كبدي والقولون".
لم تُعِق الرصاصات التي أصابتهم، واحداً تلو الآخر، أبناء أسرة العيسوي من التظاهر على الحدود الفاصلة بين قطاع غزة وإسرئيل للمطالبة بحق العودة. لا يخافون الموت ويقول أحدهم: "إذا جلسنا في البيوت سنموت ببطء"
"عندما أجلس تحت الشجر على مرمى حجر من بلادنا، تتغلل في نفسي رائحة ترابنا، وأتنفس الهواء الطلق الذي حُرمنا منه"... هذا ما تقوله أم رامي، الخمسينية المقيمة في قطاع غزة، ووالدة خمسة مصابين في مسيرات العودة
بعد شهر واحد من عودة الحياة إلى مازن، كانت والدته أم رامي على موعد مع الإصابة. أصابتها قنبلة غاز في رقبتها، في 22 يونيو 2018، أسفرت عن جرح كبير.
كل ذلك لم يحل دون مواصلة المشاركة في المسيرات، على العكاكيز والكراسي المتحركة.
ثم أتى الدور على محمود (26 عاماً) الذي أصيب بطلق ناري متفجر في قدمه اليمنى على الحدود الشرقية لمخيم جباليا، في 7 أكتوبر 2018، ما أدى إلى تهتك في العظام وقطع لأوتار وأعصاب.
يقول محمود لرصيف22: "نحن نلبي دعوات مسيرات العودة للمطالبة بهذا الحق، ونشارك ويخطر في بالنا احتمال الإصابة بأيّ أذى. بعد إصابتي، ذهبت إلى حدود قطاع غزة وفي قدمي اليمنى سيخ بلاتيني من إصابتي السابقة ومستمر في الذهاب حتى يومنا هذا".
ويضيف: "أطالب بحقي ولن أندم على المشاركة رغم إصابتي ولا أحد يقدر أن يمنعني من الذهاب إلى الحدود وعائلتي من كثرة عدد إصاباتنا أنا وإخوتي اعتادت في كل جمعة توقُّع سماع خبر استشهادنا أو إصابتنا".
ابتسامة أم رامي
على شفتي الخمسينية أم رامي، ترتسم ابتسامة وهي تقول: "كل شيء يهون في سبيل الوطن. عندما أجلس تحت الشجر على مرمى حجر من بلادنا، يتجاوز إحساسي الحدود وتتغلل في نفسي رائحة ترابنا، وأتنفس الهواء الطلق الذي حُرمنا منه. نحب أن نذهب ونرابط في تلك الأرض. حتى لو كان الأمر على حساب حياتي وحياة أولادي، لن أتردد يوماً في الذهاب".
آخر فرد من العائلة وقع ضحية لرصاص الإسرائيليين كان رائد (29 عاماً) الذي أصيب في قدميه في 12 أكتوبر 2018، ما أدى إلى تهتك في العظام وقطع في الشرايين، و"أقعده هو الآخر عاجزاً إلى جانب بقية إخوته"، تقول أم رامي.
في بيت أسرة العيسوي، لا تجد أمامك سوى شباب مقعدين لا حول لهم ولا قوة لكنهم يتسلحون بالإرادة على مواجهة إعاقاتهم بعكاكيز وكرسيين متحركين قدمتهما لهم جمعية أطباء بلا حدود كي تعينهم على الوقوف والتحرك، ويتلقون المساعدة من إخوتهم الستة المتزوجين والذي يعيشون في منازل منفصلة عن العائلة وسط ظروف اقتصادية وإنسانية صعبة.
يطلق الأب أبو رامي (54 عاماً) صرخة مدوية جراء "قلة توفير الإمكانيات اللازمة لعلاج أبنائي المصابين، وعدم تلقيهم الدعم حالهم حال الآلاف من مصابي مسيرات العودة"، ويقول لرصيف22: "أصبح الآن أفراد عائلتي العاجزون عن الحركة يعتمدون على تحصيل لقمة العيش من الصدقات المقدمة من أهل الخير".
يعاني أبو رامي من جلطة دماغية فقد على إثرها النظر في عينه اليمنى. يشكو قلة حيلته، ويلفت إلى أنهم يحاولون التواصل مع جمعيات ومؤسسات حقوق إنسان، لكن من دون جدوى، وذلك بعد أن "فقدنا الأمل من الجهات الداعية لمسيرات العودة، والتي لا تقدم لنا أي دعم سوى مطالبتنا بتسجيل أسمائنا في قوائم المصابين مع وعد بتقديم المساعدة لنا، بدون أن نحصل على أي دعم منهم لغاية الآن".
تدمع عينا أبو رامي وهو يقول: "أبنائي يحتاجون إلى علاج فوري مكثف في الخارج، ولا أحد ينظر إلينا أو يقدم أيّة معونة، حتى لو كانت بسيطة".
ويناشد مؤسسات حقوق الإنسان والقائمين على مسيرات العودة "أن يشعروا بنا، وأن يقدموا المساعدة لي ولأبنائي العاجزين الذين يحتاجون الكثير من الرعاية والاهتمام حتى يبقوا على قيد الحياة"، ويضيف: "نحن نحتاج إلى قلوب رحيمة".
وسط كل هذا الحزن والألم الناتج عن الفقر والإعاقات، تسمع أصوات أفراد العائلة وهم يتباهون بأن ما قدّموه للوطن هو جزء يسير، ويقولون إنهم إلى أن تتحقق أمانيهم في العودة ورفع الحصار والعيش بحرية وكرامة سيتجرعون بصبر كؤوس معاناتهم آملين أن يكون غدهم أفضل من يومهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...