الطبيب دافيد وازان، القابلة إيفون بسيّس، المحامي كلود سيتبون، إيشوا غويلة حوري، هذه أسماء مواطنين تونسيين يهود خُطّت بالأبيض على لوحات معدنية زرقاء ورفعت الأسبوع الماضي في أربعة شوارع في مدينة سوسة الساحلية التونسية، تكريمًا لهم على ما قدموه لبلادهم: تونس.
وسط احتفالات والتقاط صور تذكارية مع أبناء وأحفاد تلك الشخصيات، دشنت بلدية سوسة قبل أيام قليلة هذه الشوارع داعية إلى جانب سكان المدينة شخصياتٍ ثقافية ومؤرخين وأفراد أُسرِ المكرمين حضر بعضهم من فرنسا ودول أخرى، للاحتفاء بالتعايش وللدلالة على أن شعار “التعايش الحضاري” الذي ترفعه مدينة سوسة هو حقيقة وواقع وليس فقط تظاهرة على هامش مهرجان التراث الذي تقيمه المدينة بين شهري أبريل ومايو.
يقول ماكس فيكتور بسيّس ابن القابلة إيفون بسيّس لحظة كشف الستار عن اسم والدته على أحد الشوارع في سوسة إن والدته عملت قابلة لأكثر من 30 عاماً إبان الاستعمار الفرنسي، فكانت تخرج من بيتها رغم حظر التجوال في الليل فتستقل عربتها وتحمل “بطاقة السماح بالمرور” التي تطلبها قوات الاستعمار الفرنسي، لتزور نساء حوامل على وشك الوضع، فأنقذت حياة العشرات منهن.
إيفون بسيس كانت من بين 100 ألف يهودي تونسي عاشوا في تونس حتى ستينيات القرن الماضي، من بينهم 6000 في سوسة. وفي غياب إحصاءات رسمية عن عددهم، ترجح مصادر ألا يتجاوز عدد يهود تونس اليوم ألفاً و 500 مواطن معظمهم يعيشون في جزيرة جربة جنوب شرقي البلاد، والبقية في قابس (جنوب) وجرجيس (جنوب) ونابل (شمال شرق) ولم يتبقَ في سوسة سوى 23 يهودياً تونسياً الآن.
أما إيشوا غويلة حوري الذي تكرمه بلدية سوسة فقد منح البلدية حديقة شارل نيكول ومبنى خاصاً بفاقدي السمع. ومن بين اليهود المتميزين في سوسة كذلك، الطبيب هنري بوجناح الذي كان يعالج الفقراء مجاناً وقد يحمل شارعٌ اسمَه في الفترة القادمة كذلك.
يهود تونس.. من أهلِ ذمة إلى مواطنين كاملين
كانت الجالية اليهودية في تونس حتى عام 1857 تخضع لنظام أهل الذمة أي غير المسلمين ( أصحاب الكتاب من اليهوديين والمسيحيين) الذين أجبروا لفترات طويلة على دفع الجزية للمسلمين. وفي 10 سبتمبر/ أيلول 1857 أقرّ محمد باشا باي تونس آنذاك (الباي هو اسم حاكم تونس قبل الاستقلال) اتفاقية تعترف بالمساواة بين جميع المعتقدات على أرض تونس. لكن أصعب فترة عاشها يهود تونس كانت بين عامي 1942 و1943 حين وصلت تونس المستعمرة من قبل الفرنسيين حينذاك مجموعاتٌ إيطالية ألمانية فاشية نازية بعد سيطرة النظام النازي على جزء من فرنسا بين عامي 1940 و1944.
دليل التعايش: وزير يهودي
حين رُفع الستار عن اللافتات التي تحمل أسماء المواطنين التونسيين اليهود في بعض شوارع سوسة، كان وزير السياحة التونسي رونيه طرابلسي حاضراً، وهو مواطن تونسي يعتنق اليهودية، أصبح في نوفمبر الماضي أول وزير يهودي في الحكومة التونسية منذ الاستقلال عام 1956 بعد ألبير بسيس وأندريه باروش اللذين توليا حقائب في حكومة الطاهر بن عمار عام 1955 (حكومة الحكم الذاتي) ثم حكومة الحبيب بورقيبة عام 1956.
عند حضوره حفل تدشين تلك الشوارع التي تحمل أسماء يهود، قال رونيه طرابلسي بفخر: “العيش المشترك هو أنا..أنا وزير تونسي من ديانة يهودية، وهذا دليل على العيش المشترك في تونس”.
عند حضوره تدشين شوارع تحمل أسماء مواطنين يهود، قال الوزير التونسي رونيه طرابلسي: “العيش المشترك هو أنا..أنا وزير تونسي من ديانة يهودية، وهذا دليل على العيش المشترك في تونس”.
بين (1598 و 1610) توالت هجرات اليهود الأندلسيين إلى تونس وعرفوا بـ"السيفيراديم" وحل يهود آخرون من مدينة ليفورنو الايطالية المعروفة عند التونسيين باسم “القرنة”، حينذاك سُموا بيهود القرانة، ولا تزال “القرانة” قائمة في تونس ومقرها المدينة العتيقة حيث سوق الأقمشة. القصة أكبر من مجرد شوارع بأسماء يهودية.
تاريخ اليهود في تونس
تُعرّف الموسوعة التونسية اليهود بأنهم من أقدم السكان في البلاد التونسية والشمال الإفريقي بوجه عام. وجود اليهود في تونس سابق لحلول الفينيقيين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد حيث أسسوا أوتيكا لجلب النحاس من المناطق الإيبيرية. وتَذكُر التوراة اسم “ترشيش" التي يعتبر البعض أن المقصود بها مدينة تونس البربرية.
غير أن المؤرخين يختلفون بشأن تاريخ وجود اليهود في تونس فهناك من يرجح وجودهم منذ القرن السادس قبل الميلاد، بعد السبي البابلي في سنة 586 قبل الميلاد، بسبب وجود كنيس "الغريبة” المقام في جزيرة جربة جنوب تونس والذي يعتبر أقدم كنيس يهودي في أفريقيا.
وبحسب الموسوعة التونسية كذلك، تقول المصادر الأثرية والتاريخية إن الحضور اليهودي في تونس يعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد، حيث عثر القسّ ديلاتر (Delattre) على آثار في قمرت (ضواحي تونس العاصمة) في أواخر القرن التاسع عشر وكنيس نارو في حمام الأنف ضواحي تونس الجنوبية.
انتقد ترتليانوس حضور اليهود متهماً إياهم بالتواطؤ مع السلطات الرومانية للتنكيل بالمسيحيين، فيما تقول مصادر إن اليهود بشّروا بدياناتهم لدى سكان تونس الأصليين أي البربر.
وعند قدوم البيزنطيين إلى تونس خاصة في عهد الإمبراطور جوستنيان (527 - 565) تعرض اليهود إلى القمع بعد أن أصدر أوامر تجبرهم على اعتناق المسيحية، حينذاك تحولت المعابد اليهودية إلى كنائس ومنعوا من ممارسة طقوسهم الدينية. فيما تقول مصادر أخرى إن اليهود في تونس تمتعوا بالأمان بعد انتشار الإسلام في شمال أفريقيا.
وفور دخول الإسلام أرض تونس، ظهرت مجموعة من اليهود التجار والحرفيين تزامناً مع توطينهم إثر قدوم عقبة بن نافع، وموسى بن نصير. وأقام اليهود في القيروان (وسط تونس) وكان لهم نشاط تجاري هام مع يهود مصر في القاهرة و الإسكندرية.
لكن اليهود وعلى إثر الزحف الهلالي في منتصف القرن الحادي عشر تعرضوا للقمع والملاحقات حتى القرن 13 رغم الحماية التي حصلوا عليها في بدايات القرن الحادي عشر من الوليّ الصالح محرز بن خلف.
وفي عهد عثمان داي (1598 - 1610) توالت هجرات اليهود الأندلسيين إلى تونس وعرفوا باسم "السيفيراديم" (نسبة إلى يهود إسبانيا)، كما حلّ يهود آخرون قادمين من مدينة ليفورنو الايطالية المعروفة لدى التونسيين باسم “القرنة”، حينذاك سُموا بيهود القرانة، ولا تزال “القرانة” قائمة إلى اليوم في تونس ومقرها وسط المدينة العتيقة حيث سوق الأقمشة، وتعرف بسوق القرانة.
لكن يهود القرانة اعتبروا أنفسهم إيطاليين. وفور اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 وصدور قوانين بمنح اليهود المواطنة الفرنسية سنة 1792، سعى يهود القرانة في تونس إلى الحصول على الجنسية الفرنسية أو على حماية القنصليات الأوروبية ومنها الإيطالية. لكن حاكم تونس بقي يعاملهم معاملة الرعايا حتى بعد دخول المستعمر الفرنسي.
وإثر إعدام اليهودي باتو سفاز عام 1857 بتهمة شتم الرسول محمد، بدأت فرنسا وإنجلترا بممارسة ضغوط على تونس وظهر “عهد الأمان” تحت حكم الصادق باي واعتُبر أوّل دستور في البلاد، تعهّد فيه باي تونس بحماية جميع السكان بما في ذلك المسيحيين واليهود وحماية ممتلكاتهم.
وحين أصدر الباي محمّد الصادق عام 1861 دستور تونس وكان أول دستور في العالم العربي والإسلامي اقترح تعيين يهود مستشارين في المجلس الكبير أي البرلمان لكن المقترح سبّب خلافاً كبيراً بين المصلح أحمد بن أبي الضياف الذي ساند الاقتراح وأمير الأمراء الجنرال حسين صديق خير الدين باشا وأمين سره الذي عارض المقترح واعتبر يهود الڨرنة ممثلي المصالح الأجنبية لا مصالح تونس.
وفي عام 1881، تدخلت فرنسا في تونس بذريعة حماية اليهود.
ورغم هجرتهم الواسعة من تونس في 1948 بعد احتلال فلسطين و1967 بعد النكسة، إلا أن مئات اليهود يواصلون زيارة تونس في شهر مايو من كل عام للحج إلى كنيس الغريبة في جربة جنوب البلاد، ويتزامن حج الغريبة هذا العام مع شهر رمضان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...