يحتفل الموحّدون الدروز في الخامس والعشرين من شهر نيسان/ أبريل من كلّ عام بزيارة النبي شعيب في حطين، كإحدى أهم المناسبات الدينيّة. هذا العام، طغى على الزيارة جوّ سياسي مشحون، سببه تشويه إحدى رموزنا المهمّة، العلم الدرزي، وإضافة النجمة السداسيّة إليه، في نطاق نهجٍ جديدٍ تتبعه القيادة الروحيّة للعرب الموحّدين في فلسطين، وهو التقرّب المتواطئ المستمر مع نتنياهو وحكومته.
أثار هذا التشويه غبطة الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين أيضاً، مستنكرين هذا العمل ومندّدين به، لكن، وبشكلٍ مغايرٍ تماماً، لم يلق هذا التشويه صدى حقيقيّاً في أوساط الشبيبة غير المتديّنة في الجولان، مجسّداً عدم اكتراث بأفعال القيادة الروحيّة للعرب الموحّدين في فلسطين، وكأن ما يحدث في صالات الطائفة ورموزها الدينيّة، ليس بالأمر الجلل.
الشرخ، الآخذ بالازدياد، بين شبيبة الجولان وهويّتنا الدرزيّة (على كافة مركباتها، الإثنيّة والدينيّة، ومن دون الإضافة عليها أو الإنقاص منها)، بلغ حدّ السيف.
إن هذا الشرخ، الآخذ بالازدياد، بين شبيبة الجولان وهويّتنا الدرزيّة (على كافة مركباتها، الإثنيّة والدينيّة، ومن دون الإضافة عليها أو الإنقاص منها)، بلغ حدّ السيف، وهو ما استدعاني لأكتب هذه السطور. سوف أقوم بعرض سببين، أراهما رئيسيين في ابتعادنا عن مركّبات هويّتنا الدرزيّة:
تواطؤ القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين مع إسرائيل
منذ نكبة العام 1948، أعلنت القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين اصطفافها بعكس التيار العربي، متّحدةً مع المستعمر الصهيوني، وعاملةً بشكلٍ مكثّفٍ وملموسٍ لانخراط الدروز الفلسطينيين في أجهزة الدولة الصهيونيّة، إذ أن التجنيد القسري المفروض على الشبيبة الدروز في فلسطين هو إحدى تجلّيات هذه السياسة، بالرغم من رفضه، مبدئيّاً، من قبل العديد من الشبان الدروز الفلسطينيّين (من أهم المبادرات مؤخراًً هي "ارفض. شعبك بيحميك"). استمرّ هذا النهج حتى بعد نكسة حزيران 1967، وبالرغم من احتلال اسرائيل للجولان السوري ووقوع أهله الدروز تحت شدّة الاحتلال ونظامه العسكري والعنصري، لم يؤثّر القرب الجغرافي، ولم تزرع العلاقة الطائفيّة بذور الصداقة بين الجولانيين ودروز الجليل والكرمل، بالأخصّ بسبب الشرخ السياسي العميق بين مبادئ القيادتين، وهذا، ما أنشأ ردّة فعلٍ أبعدت فيه شبيبة الجولان عن الهوية الدرزيّة، خوفاً من خسارة العلاقة القويّة بين الجولان وفلسطين من جهة، والجولان وسوريا من جهةٍ أخرى.
لا يمكن فصل الجولان عن سياقه السياسي في هذا المجال، إذ أن شبيبة الجولان غير المتديّنة، والتي لمست، على مدى سنواتٍ طويلةٍ، البعد السياسي للتحالف مع إسرائيل من قبل قيادةٍ روحيّةٍ هي الأقرب لنا جغرافيّاً، جعل من مهمّة الانخراط في المناسبات الدينيّة والسعي للاحتفاء بها أمراً بعيد المنال، وغير محبّذ، وفضّل الأغلبية الابتعاد عن هذا الخيط الدقيق، والالتفاف حول الهُويّة العربيّة والسوريّة. بالرغم من المميّزات الكبيرة التي تحتويها هويّتنا الدرزيّة، فإننا مثل من أصيب بنوبة هلعٍ من أداء القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين وقربها من إسرائيل، ليتجسّد ابتعادنا عن هوية اعتدنا الاعتزاز بها خوفاً بالأساس مما قد تلقيه من ظلالٍ على هويّتنا السورية. انعدام الاكتراث في أوساط شبيبة الجولان لتشويه العلم الدرزي وإضافة النجمة السداسيّة هو خير مثالٍ على هذا الابتعاد، وكأنما هذا عمل متوقّع ممن بادر بالقيام به.
سعي إسرائيل لتثبيت دورها كـ"حامية الدروز" في أحداث الثورة السوريّة
في تشرين الثاني 2017، شنّت جبهة النصرة هجوماً واسع النطاق على قرية "حضر" الدرزيّة الواقعة في الجزء الشرقي من خطِّ وقف إطلاق النار، بمحاذاة قرية مجدل شمس المحتلّة، سقط فيه العديد من القتلى والجرحى. أثار هذا الهجوم غضب العديد من أهالي الجولان المحتل ودروز فلسطين، في إشارة لعجز "الأقليّة الدرزيّة" عن حماية نفسها بنفسها في سوريا. كما دائماً، استغلّت اسرائيل تحالفها مع القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين، لتنشر بشكلٍ مكثّفٍ في وسائل إعلامها، بأنها مستعدّة للدفاع عن الدروز في سوريا وتقديم المساعدات لهم، محاولةً في ذلك إنشاء "وصاية" على سلامة الطائفة الدرزيّة، عائدةً بنا لادّعاءاتٍ نوستالجيّة، أنسبها هو الانتداب البريطاني والفرنسي. رفض أهالي "حضر" هذه المساعدة رفضاً مطلقاً وقاطعاً، كما رفضه أهالي الجولان المحتل وندّدوا به.
أنشأت هذه الادعاءات والأحداث بُعداً جديداً لعلاقة اسرائيل والدروز، يجتاز الحدود الجغرافيّة الحالية، وفيه مبدأ ترفضه الأسس السياسيّة في القرن الـ 21 وهو "الوصاية" القاطعة للحدود. إن الصورة التي ترسمها هذه الادعاءات، المشتركة بين إسرائيل والقيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين، هي صورة أقليّةٍ عاجزةٍ، يمكن فصلها عن الدولة السوريّة بسهولة، في مقابل تقديم الحماية والمعونة لها. إن هذا "التقزيم" للانتماء الموجود داخل شبيبة الجولان تجاه سوريا لم يجد آذاناً صاغيةً، وأضاف بدوره إلى البعد بيننا وبين هويّتنا الدرزيّة. استخدام إسرائيل لهويّتنا الدرزيّة كذريعةٍ للتدخّل وفرض "وصايتها" علينا رُفض رفضاً تامّاً، وضرب عرض الحائط بالعلاقة بيننا وبين القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين.
إن هذه "الوصاية"، التي بنتها اسرائيل على اليهود عامّة، تحاول تطبيقها الآن على الدروز أيضاً، لربما في سعيها المتواصل لإنشاء قاعدة "محبّين وأصدقاء" في الوطن العربي، لكن تجاهل إسرائيل انتماء الدروز القومي عاد ليلاحقها.
منذ النكبة، أعلنت القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين اصطفافها بعكس التيار العربي، وعاملةً بشكلٍ ملموسٍ لانخراط الدروز الفلسطينيين في أجهزة إسرائيل، إذ أن التجنيد القسري المفروض على الشبيبة الدروز الفلسطينيّين هو إحدى تجلّيات هذه السياسة.
لا يمكن فصل الجولان عن سياقه السياسي، إذ أن شبيبة الجولان، غير المتديّنة، والتي لمست البعد السياسي للتحالف مع إسرائيل من قبل قيادةٍ روحيّةٍ هي الأقرب لنا جغرافيّاً، جعل من مهمّة الانخراط في المناسبات الدينيّة أمراً بعيد المنال.
إن "الوصاية"، التي بنتها اسرائيل على اليهود عامّة، تحاول تطبيقها الآن على الدروز أيضاً، لربما في سعيها المتواصل لإنشاء قاعدة "محبّين وأصدقاء" في الوطن العربي، لكن تجاهل إسرائيل انتماء الدروز القومي عاد ليلاحقها.
تثبيت الواقع، وواجبنا الأخلاقي
الهوية الدرزيّة ليست مجرّد تعاليم دينيّة، إذ لا يمكن فصلها عن اللغة العربيّة، الثقافة العربيّة، والمركّب الإثني للدروز في الشرق الاوسط. من المُقلق الابتعاد عنها بسبب تسييسها من قبل جماعاتٍ ذات مصالح. إن المميّزات الثقافيّة والإثنيّة لهويّتنا الدرزيّة، مع الحفاظ على حرية الفرد الدينيّة، أعمق وأكبر من أن نتخلّى عنها، ولكن لا بدَّ لي من الإشارة لما يدفعنا لهذا البعد. أرى أن من واجبنا الأخلاقي الأساسي، الحفاظ على عروبة هويّتنا الدرزيّة وثقافتنا العربيّة، لنقف سدًّا في وجه من يحاول طمس هذا الانتماء وإنشاء واقعٍ جديدٍ، دخيلٍ ومتطفّل على هويّتنا الدرزيّة. رفض وجود النجمة السداسّية على رموزنا الدينيّة ليس فقط حفاًظا على قدسيّة الدين، بل أيضاً على عروبة المنتمين إليه.
يتجسّد ابتعادنا عن هوية اعتدنا الاعتزاز بها خوفاً بالأساس مما قد تلقيه من ظلالٍ على هويّتنا السورية.
إن مقاطعة القيادة الروحيّة للدروز في الجولان لنموِّ الحريّات الفرديّة في الجولان السوري المحتل، ولنموِّ المشهد الثقافي والفنّي الحر، هو نتيجة لواقعنا السياسي بالأساس - تماشياً مع تصور القيادة الروحيّة للموحّدين الدروز في فلسطين (تصوّر تمّ بناؤه بواسطة إسرائيل ومؤسّساتها، أساسه رجعي، كأن الدرزي هو ليس أكثر من فلّاحٍ ومطبخ، وينظر للمجتمع كمجتمع أبوي ليس لديه انتماء قومي بل فقط انتماء طائفي)، وخوفاً من الفشل الاجتماعي أمامهم، أصبحت مقاطعة المشاهد الثقافيّة على أسسٍ دينيّة أمراً وارداً، لتصبّ بذلك الوقود عن نارٍ مستعرةٍ أصلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...