"وحُبّه لِيّا يا قلبي كان حبّ امتلاك"، هكذا غنّت جنات متباكيةً على حبيبٍ غدر بها، وتكتشف أن حبّه لها كان غير حقيقي، لأنه كان "حب امتلاك". هذه التيمة من الحب شائعة في مجتمعاتنا، حيث لا يقوم على تكافؤ العلاقة، بل على استبداد أو استغلال من طرفٍ يرى أن الآخر ضمن مقتنياته.
من يحبّ بهذا الشكل، يعتبر ذاته هي الذات الوحيدة الموجودة في العالم، ويبدو الآخر بالنسبة له وكأنه ضمن أدواته التي يستعملها ويتمتّع بها ويسيطر عليها، فهذا الآخر أو هذه الأخرى، مجرّد حيازة، يدافع عنها أو يحميها من باب الملكيّة، على طريقة الفيلسوف الألماني ماكس شتيرنر، وما ذكره في كتابه "الأوحد وملكيّته"، فتبكي الحبيبة أو يبكي الحبيب عند الفراق، لا حزناً على شريكه بل حزناً على نفسه/ا التي ستفقد شيئاً تملكه.
ولكن من يمتلك من؟ هل القوي هو من يمتلك الضعيف دائماً؟ ولماذا يُحكَم على حبِّ التملّك بأنه غير مكتملٍ أو غير حقيقي؟ وفي المقابل: كيف ينجح الحبّ في ظلّ رغبة كلا الطرفين بممارسة حريّته الكاملة في تملّك الآخر، والتي تتعارض مع حرية الآخر ورغبته أيضاً في التملّك؟ وهل هناك حلّ سحري لتلك المعضلة؟
تغنّي أم كلثوم في "الحب كده": ويعجبني خضوعي إليه، وأسامحه وهو ظالمني"، لماذا يُحكَم على حبِّ التملّك بأنه غير مكتملٍ أو غير حقيقي؟
إذا وصل الحبيبان "معاً" إلى قمّة الحب أو مرحلة "فناء الفناء"، توصّلا معاً إلى قمّة الحرية في العلاقة، حيث يصير المحبوب هو المحبّ، فلن يقيّد محبوبه لأنه لن يقيّد نفسه، وهنا تُحلّ معضلة "الحرية والتملّك"، فهل نستطيع القول بأن حلّ معضلة الحب، هو المزيد من الحب؟
الضعيف يملك القوي أحياناً
في الغالب يتحدّث الفلاسفة عن امتلاك القوي للضعيف، فالقوّة تتيح لمالكها شراء أو "اغتصاب" ما يشاء، ولكن المسألة قد تكون عكس ذلك، قد تكون تملّكاً من الضعيف للقوي، كما تشير سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الآخر – the second sex"، حيث تعتبر أن المرأة في المجتمعات المتديّنة خاضعة للذكور منذ طفولتها، على الأقل مادياً، ومنغلقة داخل العالم المتقزّم للمؤنث، وبالتالي فإن اتحادها بالرجل هو وسيلتها للهيمنة، ولذلك تستسلم للحب، وبعد أن تقع في الحب، تصبح لديها رغبة كبيرة في "امتلاك الرجل"، لأن امتلاكها له هو امتلاك لقوّتها المفتقدة.
المعنى الدقيق لرأي دي بوفوار هو أن الحبّ عن ضعف، قد يتحوّل لرغبة في تملّك المحبوب، للاستقواء به، بصرف النظر عن كون المُحبّ رجلاً أم امرأة، فكم من إناث أقوى من الرجال وأكثر هيمنة، وإن كان الشائع هو العكس.
واعتبر الفيلسوف الروماني تيتوس لوكريتيوس كارس (55 : 99 ق.م)، أن لحبّ الامتلاك لذّة ولكنها مُهلكة، حيث يقول في كتابه "عن طبيعة الأشياء – On the nature of things":
إن الحب هو الحالة الوحيدة التي كلّما زادت فيها رغبتنا في امتلاك الآخر، احترقت قلوبنا برغبة مُهلكة؛ حيث يخلق العاشق وهماً يحبه، بأن حبيبه هو من يمتلك مفتاح جنّته، وأنه الوحيد الذي يضمن له سعادةً مستقرّة، وهو أمر يشكّل تكاسلاً ميتافيزيقياً، خوفاً من تحمّل المسؤوليّة التي تولدها الحرية.
حريتي أم خضوعي.. أيهما الحب؟
وصلنا بالمسألة إلى إشكالية الحريّة، فمن يملك حريّة الآخر كاملةً يتملّكه كليّة، ولكنه في المقابل يتحمّل مسؤوليته، وفقا للوكريتيوس. ولكن، هل هذا حب؟ "ودا حب إيه! دا اللي من غير أي حرية"، كما يقول عبد الرحمن الأبنودي، ويغنّى محمد منير في "يونس".
وفي الأغنية يتحدّث الأبنودي عن يونس أحد أبطال السيرة الهلاليّة الشعبيّة، الذي أحبّته عزيزة بنت سلطان تونس، وهو سجين لديها -بحسب السيرة الهلاليّة- فرفض يونس هذا الحب، لأن الحب الحقيقي لا يجيده إلا الحرّ، وهو مقيّد، وقد كان سيحبها لو التقاها في ظروف أخرى:
على النقيض من الأبنودي يقول بيرم التونسي، وتغنّي أم كلثوم في "الحب كده": ويعجبني خضوعي إليه، وأسامحه وهو ظالمني:
وما يقوله بيرم يتجه إليه إريك فروم في كتابه "فنّ الحب"، حيث يقول: ربما كان جمال الحب – حتى في أبسط صوره – ماثلاً في هذا الخضوع المتبادل الذي يحفّز الكائنين المحبّين لأن يتقبّل كلّ منهما حياته من الآخر، ولذّته ومتعته من الآخر، وكأنما هذا الآخر هو الذي يُظهرني إلى عالم الوجود، ويُكسبني كل مالي من قيمة، فالحب هو عملية خلقٍ متبادلة لموجودين مترابطين يشعر كلّ منهما بأنه في حاجة إلى الآخر.
ولكن فلسفة الخضوع تتعارض مع جوهر الحريّة، المستمدّة من القيمة الذاتيّة للفرد، إذ كيف أستمدّ قيمتي من آخر؟ وهو ما استنكره الفيلسوف الوجودي الشهير جان بول سارتر في كتابه "الوجود والعدم"، حيث يرى أن مشكلة الحب هي مشكلة صراع بين حريتين.
ويعتبر سارتر أن نقطة البداية في الاتصال بين اثنين، هي رؤية الآخر، ويقول: إن نظرة الغير إليّ إنما تُشعرني بأن لي طبيعة خارجيّة يراها الآخرون كما يرون سائر الأشياء، وكأنني في نظرهم مجرّد موضوع يحكمون عليه من وجهة نظرهم الخاصّة؛ ففي نظرة الآخرين لي إنكارٌ ضمني لحقيقتي الباطنيّة التي لا أملك أن أُظهرها للخارج، لأنها ليست شيئاً يمكن أن أجسّمه في موضوع.
فلسفة سارتر العدميّة جعلته يرى أن مجرّد شعوره بنظر الآخرين إليه ينقله إلى الشعور بأنه أصبح مملوكاً لناظريه، ومعنى هذا أنه متورّط فيما سماه "الوجود من أجل الآخرين"، والعكس يحدث حين ينظر هو للآخرين، فيتحوّل الأمر إلى صراعٍ على من يمتلك الآخر، ويصبح الحب هنا مشروعاً يُراد به التأثير على حرية الآخر.
فالحب يفترض أن بإمكان حرية ما أن تظل ّقائمة دون أدنى تغيير أو تحوّل، حتى بعد أن تكون حرية أخرى قد تملّكتها وسيطرت عليها، وبهذا يحمل الحب في رأي سارتر بذور فنائه، لو حدث بين شخصين يقفان على نفس المستوى من الإحساس بالذات والتطلّع إلى الحرية.
كيف ينشأ حب بين حريّتين؟
بعد معضلة سارتر، كيف يضمن الطرفان حريّتهما الكاملة في ظلّ علاقة يفترض أنهما يمتزجان فيها ويصيران كالشيء الواحد؟ كيف يمكن لحرية أن تصبح موضوعاً لحرية أخرى؟ الإجابة قد نجدها لدى الوجوديّة، ولدى الصوفيّة، معاً! كما نبين فيما يلي.
حريته غاية حبّي
اتحاد حريّتين يلزمه الاحترام من الطرفين كي يستمرّ الاتحاد، ولكن، الاحترام يفرض على حريتنا بعض الحدود، ليدع للحرية الأخرى استقلالها، هذه القيود التي يفرضها الاحترام قد تعوق الذوبان والتلاشي وتلك الدرجات الملتهبة من العشق، بحسب ما ذكر الفيلسوف الوجودي لويس لافيل في كتابه "Del’Acte".
لذلك يرى لافيل أن حباً لن يحدث إلا بتماس والتحام بين حريتي الطرفين، وللإبقاء على الحريتين، لابد أن حرية الآخر داعمة لحريتي، وحريتي داعمة لحريته، بل تصبح حريتي وسيلة لانطلاق حريّته وتخليصها من قيودها، والعكس، لأن هناك هوية حقيقيّة بين الحرية والحب: فمادامت حرية الآخر هي في الوقت نفسه غاية حبي، وما دامت حريتي الخاصّة تقترن بمولد هذا الحب له في نفسي، يتحقّق الحب ويكتسب مضمونه.
ويدعم ما يقوله لافيل أن القوّة يمكنها أن تظفر بأي شيء إلا الحب، فالحب لا يُقهر والمحبوب لا يؤخذ غلابا، بل يأت بحريته الكاملة وبحب حقيقي نابع من أعماق النفس، لا تحت تأثير رغبة غريزيّة من الداخل ينتهي الحب بانتهائها، ولا تحت تأثير قوةٍ جبريّةٍ من الخارج، تجعل العلاقة مجرّد إذعان وانصياع، كما يوضّح أستاذ الفلسفة زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الحب".
هذه الحرية تُكسب الحب خصوبةً، وتتجلّى هذه الخصوبة بوضوح في تغيير المحبّين، وكأن الاثنين يولدان معاً من جديد، ولعلّ هذا هو السرّ فيما نلاحظه عادةً من أن للحب دائماً صبغة خلّاقة أو طابعاً إبداعيّاً، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يحب دون أن يخلق شيئاً خارج ذاته، يقول إبراهيم.
الصوفية يحلون معضلة سارتر
قد يكون المتصوّفة قد وجدوا حلاً سحرياً وملتهباً لهذه المعضلة، فتوصّلوا إلى صيغة للحب، تضمن الذاتية المطلقة، وفي الوقت نفسه تضمن الذوبان المطلق في الآخر، وقد تبلورت في مصطلح "فناء الفناء" الذي توصّل إليه بعضهم، وهو مرحلة لاحقة على مرحلة الفناء أو الاتحاد بالذات الإلهيّة، حيث يقول ابن الفارض في تائيّته، عن فناء ذاته في ذات الله:
مازلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت
كذلك يقول الحلاج:
كلّما مسّك شيء مسّني ... فإذا أنت أنا في كل حال
وقبل شرح (فناء الفناء)، تلك المرحلة التي تتجاوز مرحلة "الفناء" التي أشرنا إليها، لابد من بيان أننا لا نستطيع تجريد هذه المعاني من صداها البشري، فنحصر المسألة على فناء المحب (الصوفي) في حبيبه (الله)، بل هي فناء المحبِّ في محبوبه عموماً، كما يرصد المفكّر اللبناني علي حرب، في كتابه "الحب والفناء: تأمّلات في المرأة والعشق والوجود".
حيث نلمس معنى الفناء فيما نُسب لقيس بن الملوّح، إذ ذكر الوشاة ليلى عنده بعد فراقهما، فقال: "ما افترقنا قط: أنا ليلى وليلى أنا، وكيف ينسى المرء نفسه؟".
وكذلك ما رُوي من أن ليلى همّت بضمِّ قيس إلى صدرها، فردّ عليها: إليك عني، إن الذي بي منك أشغلني عنكِ.
نفس المعنى قد نجد صداه في الشعر الحديث، فإذا كان مجنون ليلى لا يرى سواها، وينشغل عنها بها، فإن الشاعر الفرنسي بول إيلوار (تـ 1952م)، الذي لقب بمجنون غالا، لم يكن يسمع في العالم سوى صوت معشوقته وصداه، حيث يقول: أسمع أصداء صوتك في ضوضاء العالم كله.
ومن كلمات إسماعيل الحبروك، غنى عبد الحليم حافظ "مشغول"، حيث تتساءل المحبوبة (لبنى عبد العزيز) عن الموعد الذي ستلتقي فيه حبيبها (عبد الحليم)، فيردّ دائماً: مشغول، حتى ضاقت من رده: "مشغول، مشغول، مشغول"، فقال لها: "أنا مشغول عنك بيكي..."، فهو في كلّ الأحوال معها ويعيش بها وفيها، حتى حين ينشغل عنها.
نعود إلى "فناء الفناء" أو "الفناء عن الفناء"، أو ما يسمّى "صحو الجميع"، أو ما يسمّيها الفيلسوف الصوفي صدر الدين الشيرازي "البقاء بعد الفناء"، وفيها يستعاد الفرق بين الحبيب والمحبوب، فيتصوّر المحبوب أنه الحبيب نفسه، فيتصرّف كأنه هو، ويصبح الفناء هو قمّة الوجود والإحساس المطلق بالذات، وهنا نلمح ما قاله أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شاني. وقول الحلاج: أنا الحقّ. حسبما يرصد علي حرب.
فإذا وصل الحبيبان "معاً" إلى قمّة الحب أو مرحلة "فناء الفناء"، توصّلا معاً إلى قمّة الحرية في العلاقة، حيث يصير المحبوب هو المحبّ، فلن يقيّد محبوبه لأنه لن يقيّد نفسه، وهنا تُحلّ معضلة "الحرية والتملّك"، فهل نستطيع القول بأن حلّ معضلة الحب، هو المزيد من الحب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...