شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا الحب في هذا الزمن الرديء؟

لماذا الحب في هذا الزمن الرديء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 13 فبراير 201909:21 م
لماذا الشعراء في هذا الزمن الرديء؟ هكذا سأل الشاعر هولدرلين أصدقاءه في المقطوعة السابعة من مرثية "الخبز والنبيذ"، وقد وَرَدَ السؤال كبلاغٍ للجموع عن وصول هولدرلين وجوقته متأخّرين إلى العالم.. مثلنا نحن تماماً، "نحن" الواصلون إلى الدنيا في أرذل الحقبة المتخمة بجراح ما بعد الحرب العظمى الثانية وما تلاها من خراب.. لكن ما العمل؟ ماذا لو استبدلنا سؤال هولدرلين، (وهو العارف بأننا أمناء على المعنى أيضاً) بكلمة "حبّ" عوض كلمة "الشعراء"، فيصبح المأتم آخراً وقائماً على شحنة أكثر إيغالاً داخل إنسانيتنا "لماذا الحبّ في هذا الزمن الرديء؟" وبما أننا لا نزال في المقدّمة، دعنا نطمئن شعراءنا بأن السؤال هنا ليس لصرف النظر عنهم، بل هو مجرّد تخلّص لغوي من مصطلحٍ رديفٍ للشعر وهو الحبّ، لسبب إجرائي بحت وهو مناسبة عيد الحبّ. نحن إذن بالكاد نفهم السؤال، فكيف لنا أن نفهم الإجابة عنه؟.. لماذا الحبّ في هذا الزمن الرديء؟ طبعا هولدرلين في نسخته تحدّث بشكل أكثر وضوحاً قائلاً "آه يا أصدقائي، ها نحن قد وصلنا متأخرين جداً. نعم هو ذاك، إن الآلهة لأحياء هناك في الأعالي فوق رؤوسنا في عالم آخر، حيث يعملون بلا كلل ولا ملل لكن يبدو أنهم لا يأبهون إلا قليلاً أننا ههنا أحياء". (كتاب هولدرلين Hymns). واضح من كلام الشاعر أنه لم يعد أمام الإنسان سوى نفسه وقدره المفتوح علناً أمام الطبيعة والعالم والتاريخ، الآلهة تعتني بخمرتها ومجونها وعبادها الصاعدين إليها حديثاً، مفتّتين برائحة البارود، دون اعتبار للأحياء بأي شكل من الأشكال، ولم يعد أمام هؤلاء الأحياء سوى "الحبّ" كي يتواصل شكل ومفهوم الإنسان، كما عهدناه على الأقل، منذ قدوم حمورابي وعودة جلجامش من رحلته العظمى، إنه سؤال مفيد عن كيفيّة العيش "أمام قدرنا الصرف" وفق عبارات ألبير كامو، الذي أشار في خطابه عند استلام جائزة نوبل سنة 1957 قائلاً: "... التقنية التي أصبحت مجنونة، الآلهة التي ماتت، والأيديولوجيا التي أصبحت مفرغة". هكذا أفزع كامو العالم المثقوب برصاص النازيّين، منبّهاً إلى أن عبثاً ما ينتظرنا في الحياة إذا لم نبحث عن مشروعٍ ومشروعيّة. يرى الشاعر "الملعون" آرثور رامبو أن مشروعاً جديراً بالتفكير يشكّل خلاصاً للإنسان متبلور فينا منذ البكاء الأول، غريزياً، ثم يُصقل عبر الزمن، إنه "الحبّ". وكأنه يصرخ من سعير جحيم ليُنقذ آخرَ مستمعٍ في برّ الأمان ويصرخ به أن "أعيدوا ابتكار الحبّ" وذلك في نصّ يحمل عنوان "الجحيم" في كتاب "الآثار الشعريّة". ليس هناك من دليل على تحوّل عالمنا إلى ركام من الأحجار الإلكترونيّة الصدئة، تجرّ قلوب الناس على الأرصفة، أكثر من أدلّة الشعراء المرهفة أمام اختفاء كلّ تفصيلٍ جميل في حياتنا، وفعلاً، ولأن عالمنا اليوم أصبح شبيهاً بالجحيم، بحديدٍ مصهور، فإن نداء رامبو بإعادة ابتكار الحبّ ليس سوى تحوّل في الشكل، من شاعرٍ ملعونٍ دخل جحيم الحياة إلى قيمةٍ قد لا يملكها سوى صيادلة القيم: الفلاسفة. ليس لنا سوى الحبّ أمام اختفاء الله )وزوجته في رواية أورشليم المسيحيّة. (لقد أنهك تاريخٌ طويلٌ من الحروب والهويات المتوترة والجشع والمصلحة والاقتصاد ورأس المال والخطاب والسلطة)... جسدَ أطفال ضائعين في مجرّد قرن من الزمن مثلنا. نعم، نحن أطفال نبكي ضياع أحيائنا وخراب حيطاننا بآلة الدمار التي لم تتوقف عن أكلنا بلهفةٍ وتوحشٍ وعنف. قرن من الزمن كان كفيلاً باكتشاف ما يمكن أن يصنعه الإنسان بنفسه.. هول وموت وعفن.
لا يسيء الحبّ إلى أحد، بل هو خيط رفيع غير مرئي قد يربطك بحلاق حيّك أو بائع خضار في مدينة لا تعرفها أو بشابّة تستقلّ قطاراً من جهة لا تعرفها نحو وجهة لا تعرفها أيضاً،
الآلهة تعتني بخمرتها ومجونها وعبادها الصاعدين إليها حديثاً، مفتّتين برائحة البارود، دون اعتبار للأحياء بأي شكل من الأشكال، ولم يعد أمام هؤلاء الأحياء سوى "الحبّ" كي يتواصل شكل ومفهوم الإنسان
بهذا أيضاً، نحن إزاء خطر يأتينا من المستقبل وليس فقط من الماضي، ووفق كلام منمّقٍ لوحيدٍ مثل طوني نيغري فإن "الكينونة لا تعاني من الفراغ بل تعاني من المستقبل". ولا شيء قد يقي إنسان ما بعد الحداثة، كحالنا، من هول ما سيأتي لاحقاً سوى "الحبّ". إن الإرهاب حالة قصوى من الرعب الإنساني الغريزي الهائج القادم من المستقبل، وقد وقع على أخطر سلاح وهو الدين، فإذا حوّلنا بعض الدين إلى حبّ فسيغدو الإرهاب مجرد كاريكاتور مضحك، فجزء واسع من الحبّ يكمن في الفن، والبشاعة إذا دخلت مجال الفن أصبحت كاريكاتير. لا يسيء الحبّ إلى أحد، بل هو خيط رفيع غير مرئي قد يربطك بحلاق حيّك أو بائع خضار في مدينة لا تعرفها أو بشابّة تستقلّ قطاراً من جهة لا تعرفها نحو وجهة لا تعرفها أيضاً، بالحبّ يمكن أن تشاهد نشرة الأنباء دون نوم معقّد وكوابيس، وبالحبّ تطبخ الطعام لدسّه في بطن من تحب، وبه تستعين حبيبتك لشدِّ شعرك صباحاً وبالحبّ.. وبالحبّ فقط يولد الإنسان.

الحب الذي علينا إعادة ابتكاره إنما هو الحبّ الذي يكمن وسط بناء كامل للحريّة، إنه إعادة ابتكار للعالم

لقد عالج غابرييل غارسيا ماركيز أزمة جيل بحاله بأن عَنْوَن إحدى رواياته بالقول "الحبّ في زمن الكوليرا"، فكأن ماركيز بهذه الكلمات يلتقي بكامل حبّه مع جثّة، أو لعلّه كما قال فتحي المسكيني "يغمس الحبَّ في الموت"، والحب الذي علينا إعادة ابتكاره إنما هو الحبّ الذي يكمن وسط بناء كامل للحريّة، بعيداً عن السوق السوداء للمشاعر والأفكار والأخبار، إنه إعادة ابتكار للعالم، العالم الذي نريده نحن وليس الذي يريده السيستم. ولا أجمل من استحضارٍ لطيفٍ لكلام آلان باديو هنا وهو يقول "حين أميل إلى كتف المرأة التي أحبّ أرى سلام الشفق فوق جبل ما والحقول الخضراء الذهبيّة وظلال الأشجار والخراف الصامتة الساكنة وراء أهداب الشمس.. وأعرف أن المرأة التي أحبّ ترى العالم ذاته وأن هذا التطابق جزء من العالم". إذ لا بديل لنا عن هذا العالم سوى العالم نفسه ونحن من سينتصر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image