شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل حلّ جوجل وآبل ومايكروسوفت مكان الآلهة والأنبياء؟

هل حلّ جوجل وآبل ومايكروسوفت مكان الآلهة والأنبياء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 25 أبريل 201902:41 م

بدأ كل شيء من عند الإغريق وأبطالهم الخارقين، هرقل وآخيل وأوليس وغيرهم، وقصص فتنتهم التي لا تنتهي، هكذا بدأت حكاية الأبطال الخارقين في المخيّلة البشريّة قبل أن تنقلها الصورة المرسومة ثمّ المتحرّكة إلى تجسيدٍ فعلي، مع امتدادات لا نهائيّة من القوى الخارقة للإله تُمنح لبعض البشر، الذين لكلّ فرد منهم حكايته الخاصّة التي تبرّر امتلاكه قواه الخارقة، أبطال جاؤوا كتعويض عن النقص في ميزان العدالة، تمّ منحهم القليل من القوى الربّانيّة، فأصبحوا، بطريقة ما، أنبياءً جُدداً، يعيشون بيننا ويُعيدون إنتاج الرسالة الدينيّة نفسها، التي تتعلّق بالعدالة والحقّ، ويتميّز سوبرمان على البقيّة أنه الوحيد غير البشري في المجموعة، أما البقيّة فيتراوحون بين خطأ مخبري وبين لعنة حيوانيّة، والنتيجة هي مجموعة من أهمّ خيالات البشر، متجسّدة في شاشة بصريّة.

إذ أننا نكون أكثر تقبّلاً للقيم الإنسانيّة إذا ما جاءت على لسان شخصٍ مازال بيننا، أكثر مما لو تلقّيناها على لسان نبي عاش منذ عدّة مئات من السنين.

هناك أسباب عدّة لإعجاب البشر بشخصيات خارقة من صنعهم، أقلّها فكرة الخير والانتصار على الشر، وأعمقها هو الرغبة بتجاوز محدوديّة العقل والطاقة البشريّة إلى ما هو فوقها، إضافةً إلى حضورهم العصري في حياتنا، إذ أننا نكون أكثر تقبّلاً للقيم الإنسانيّة إذا ما جاءت على لسان شخصٍ مازال بيننا، أكثر مما لو تلقّيناها على لسان نبي عاش منذ عدّة مئات من السنين.

ازداد انتشار هذه التمثيلات فوق البشريّة بازدياد الحروب وازدياد الظلم الذي تنتصر له النُظم الماليّة والسلطويّة، فأتت شخصيّات الأبطال الخارقين كمعادل ذاتي، يتيح إحقاق العدالة، ومن الملاحظ ازدياد نوعيّة الأفلام في العقدين الأخيرين التي تهتمّ بالخوارق، مع انفراط عقد الشراكة الدوليّة وسقوط موقع منظّمة مثل الأمم المتحدة كقاضٍ عادلٍ لتجاوزات الدول الطغيانيّة، أي انكشاف الضعف البشري الفردي أمام طغيان الطغم الماليّة والعسكريّة.

والأبطال خارقون يمثّلون الخير المطلق في صراعه ضدّ الشرّ، لكنه الخير من وجهة نظر المنتصرين أصلاً في حروب غير متكافئة، فلقد استخدمت الدعاية الأميركيّة شخصيّة الأبطال الخارقين في الحرب العالميّة الثانية وما بعدها، لتقويض الخطر القومي الألماني مثلاً، فرأينا كيف تدخّل سوبرمان، للمرّة الأولى في تاريخ شخصيته، في نزاعٍ ذي طابع دولي، لينصر طرفاً دوليّاً على طرف آخر، أي انتصر للحقّ الأميركي ضد الشرّ الألماني، في ابتعادٍ كلّيٍّ عن الخير بمفهومه العام، وتكريس الخير بمفهومه الأميركي.

وبالرغم من امتلاك الأنبياء الجُدد قدرات تفوق القدرات البشريّة وتقترب من حدود قدرات الربّ، إلا أن التديّن الأميركي المهيمن حسم الأمر باكراً، حين أوضح أن سوبرمان، بوشاحه الأزرق وبدلته الحمراء، ليس إلا مخلوق فحسب، ففي أحد المشاهد المصوّرة، حين يفقد والده، يغضب ويبدأ بالصعود إلى السماوات غاضباً ليقاتل الله ويجبره على إعادته، قبل أن يخبره صوتٌ غامضٌ، جبريلٌ من نوع ما، أنه وصل للحدود التي لا يُسمح بتجاوزها، فحتى سوبرمان ليس "سوبر" بشكلٍ كافٍ.

أبطال العالم العربي

اجتاحت المجتمع العربي كما غيره من المجتمعات فكرة الأبطال الخارقين وقد اقتصرت في الزمن القديم على الآلهة أو ما يتبعها من أولياء صالحين، لهم كرامات وقدرات تتجاوز قدرات البشر، كمعرفة الغيب والقوى الجسديّة الهائلة، ثم جاء الإسلام ليقمع كل الخوارق السابقة له ويصفها بالمستحيلة، ويروّج لخوارق أخرى "غير مستحيلة" كالإسراء والمعراج، أي السفر عبر الزمن، ومعرفة الغيب واقتلاع أبواب يلزمها سبعين رجلاً لاقتلاعها، أما في العصور الحديثة فتمّ نسب الخوارق إلى الساسة والزعماء، وإن اقتصر الأمر على القليل من الخوارق، تلك المتعلّقة بالقدرات الذهنيّة أكثر من القدرات الجسديّة، من الذكاء غير العادي واستشراف المستقبل، مثل الدعوة التي ظهرت بعد وفاة حافظ الأسد من ظهور وجهه على القمر، والتي لم تلق رواجاً مقبولاً لتعارضها مع اعتقاد ديني عميق مشابه، لكن استمرّت قصص الكرم والذكاء العظيمين والذاكرة الحديديّة بالحكايات الدعائيّة التي تتحدّث عنه، لدرجة أنه حين يرتدي طقمه "الليموني" ويخرج إلى الجبهة يلقى، فزعاً أو ربماً ضحكاً، مائة صهيوني حتفه على الفور.

ولحسن الحظ أن فنّ الكوميكس فنّ غريب عن المجتمعات العربيّة وإلا كنّا لنشاهد البطل جمال عبد الناصر يهرع إلى القطب الجنوبي ليزيح بضربة من يده جبالاً جليديّة كاملة، أو لرأينا حافظ الأسد يخترق قشرة الكرة الأرضيّة ليستخرج لنا نفطاً أبدي الاشتعال.

بدأ كل شيء من عند الإغريق وأبطالهم الخارقين وقصص فتنتهم التي لا تنتهي، هكذا بدأت حكايتهم في المخيّلة البشريّة قبل أن تنقلها الصورة المرسومة ثمّ المتحرّكة إلى تجسيدٍ فعلي، مع امتدادات لا نهائيّة من القوى الخارقة للإله تُمنح لبعض البشر.

اجتاحت المجتمع العربي كما غيره، فكرة الأبطال الخارقين وقد اقتصرت في الزمن القديم على الآلهة أو ما يتبعها من أولياء صالحين، لهم كرامات وقدرات تتجاوز قدرات البشر، كمعرفة الغيب والقوى الجسديّة الهائلة.

حلّت الآلهة الجديدة، جوجل وآبل ومايكروسوفت، مكان الآلهة القديمة، لم نعد بحاجة للقرآن ليخبرنا عن ماهية العدالة ولا للإنجيل ليدلّنا على الحق، صار أكثر جدوى أن نحتكم للأنترنت في الأمر، أصبح البشر متساويين في القدرات الخارقة.

الخارقون الجدد

لا أستطيع إذابة الجليد عنك بأشعة عيني الليزرية لكن، بمساعدة قليلة من "google"، أستطيع رؤية منزلك في الجانب الآخر من العالم.

لا تجانب هذه الطرفة القديمة الصواب حين تتحدّث عن الشكل الجديد للأبطال الخارقين، المسلّحين بخرائط الأقمار الصناعيّة وبقدرات اتصال هائلة ومعرفة متقدّمة، بالرغم من حشرهم في كل زاوية من زوايا الإعلام: ثمة أبطال خارقون لكلّ معضلة، كلّ إمكانية بشريّة يتمّ ضخ القدرات القصوى فيها ويصبح مالكها فوق بشري، طالما يتفوّق فيها على الرجل الصغير، الرجل العادي الذي ينظر بمزيج من الحسد والشفقة على الذات إلى الأشخاص السوبر، جلود لا تتأثر بالرصاص، عضلات مرنة محتقنة تحت ألبسة مطاطيّة، أدوات مساعدة لا تتعطّل فجأة، قدرات غير محدودة، وجاذبيّة جنسية متفوّقة، ينظر الرجل الصغير العادي إلى "آلاته" وينقهر.

ثمة أبطال خارقون لكلّ معضلة، كلّ إمكانية بشريّة يتمّ ضخ القدرات القصوى فيها ويصبح مالكها فوق بشري.

حلّت الآلهة الجديدة، الخارقون الجدد، جوجل وآبل ومايكروسوفت، مكان الآلهة القديمة، لم نعد بحاجة للقرآن ليخبرنا عن ماهية العدالة ولا للإنجيل ليدلّنا على الحق، صار أكثر جدوى أن نحتكم للأنترنت في الأمر، أصبح البشر متساويين في القدرات الخارقة، يلزمك فقط "تحديث" بياناتك وقدرات معالجك، وبينما تطوّرت القدرات الخارقة للأبطال الجدد، قبع الأبطال القديمون، يسوع ومحمد وبوذا وزرادشت، في صورتهم النمطيّة المعمّمة، كأبطال عتيقين، يتكلّمون بلغة لا يفهمها أحد، كأن تستخدم سكّين مطبخ في حرب نووية، أو أن تحاول تشغيل شريط كاسيت في مشغّل "دي في دي".

ها هي الآلهة الجديدة: إذا كنت تبحث عن إله كلّي المعرفة فعليك بـ"جوجل"، وإذا كنت تبحث عن كلّي القدرة فعليك بـ"حلف الناتو".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image