تغيب الإحصاءات بشأن التحرش الجنسي في قطاع غزّة، في مجتمع محافظ جداً، يعيش حصاراً مضنياً فرضه الاحتلال منذ أكثر من عقد من الزمن. لكن عدم إعلان الإحصائيات (في حال وُجدت حقاً) أو عدم إجرائها في غزة خوفاً من المُجتمع، يقول مراقبون، تمنح المتحرش "رخصة" كي يتمادى.
هذا "التابوه" كسرته ثلاث فتيات من غزة في العشرين من أعمارهن قررن كشف اللثام عن ظاهرة التحرّش في غزّة فأطلقن حملة Me Too Gaza (أنا أيضاً غزة) على تويتر، المُستلهمة من حملة Me Too العالمية التي أطلقتها المُمثلة الأمريكية أليسا ميلانو عام 2017 لفضح التحرش الجنسي بعد كشف تعرض ممثلات للتحرش من قبل منتج هوليوود هارفي واينستين. واينستن يواجه اتهامات بالاعتداء والتحرش الآن، واكتسح هاشتاغ "MeToo#" منصات التواصل في العالم أجمع وبات أشبه بقاعدة بيانات دولية ضخمة لضحايا التحرش من جميع الجنسيات.
في حديثٍ مع رصيف22، تبوح إحدى مؤسِسات الحملة لنا رافضةً الكشف عن هويتها فتقول "تفاقم ظاهرة التحرش، وقلّة الحديث عنها والخوف منها" هي بعض أسباب إطلاق الحساب على تويتر في الـ 29 من مارس الماضي لافتةً إلى أن "فتيات غزة يتعرضن بشكلٍ يومي للتحرّش والمُضايقات"، وصار لِزاماً علينا كشف الحقيقة على حد قولها.
تُعدّ الحملة نوعاً من التضامن "الافتراضي" لتخفيف الحمل على الضحية التي يحوّلها مُجتمعها المنغلق من مُعتدٍ عليها إلى جانية ويلومها على التحرّش بها بدلاً من رعايتها. "الحق عليها دائماً، ليش لابسة هيك، ليش طالعة بالليل والحق عليها شو وداها على هيك مكان؟"، تقول إحدى مؤسسات الحملة، مُضيفة: "لا، الحق على المُتحرش وعلى المُجتمع الذي يُبرر للمتحرش".
إلى جانب تويتر، اختارت الفتيات الثلاث موقع "صراحة" لاستقبال قصص الأشخاص الذين تعرضوا للتحرّش، وُهنا لا نقصد النساء فقط، إذ وصلتهم رسالة من شاب تعرض للتحرش أيضاً. يسمح الموقع بالحديث عن وقائع التحرش دون إظهار الاسم الحقيقي للضحية وهو ما منح المُتحرَّش بهم حُرية الحديث عن الاعتداءات التي تعرضوا لها، رغم أن هدف الحملة العالمية كان فضح التحرش علناً دون خوف من أحكام قد يفرضها المُجتمع.
من بين المشاركات بقصصهن بشجاعة دون اللجوء إلى موقع بصراحة كانت الناشطة الفلسطينية تمام أبو سلامة قائلةً في تغريدة إنها تعرّضت للتحرش من قبل سائق باص مدرستها لمدة عام وهي في مرحلة البلوغ. ولفتت إلى أنها لم تكن تعرف ما هو التحرش أو الاعتداء الجسدي، مُعتقدة أنه "يلعب معها". وأكدت أنه من الضروري تغيير النظام التعليمي للسماح للفتيات بالكشف عمّا واجهنه دون خوف من العواقب.
ورغم التفاعل الواسع الذي لم تتوقعه مؤسِسات الحملة، إلا أن هناك من عارضها مُدعياً أن لا وجود للتحرّش في غزّة. تُجيبه مُحدثتنا قائلةً: "من ينفي التحرّش في غزة يعيش في المدينة الفاضلة، في عالم آخر بخياله، ولا يحاول أن ينزل على الأرض ليرى الواقع، وردّنا هي الرسائل التي تصلنا وننشرها على حسابنا".
وتُضيف أن مطلقات الحملة أيضاً تعرضن للتحرش، وشاركن قصصهن بطريقة مجهولة "لنخفف عن بعض ونُثبت أنها ليست غلطتنا"، على حد قولها، لافتةً إلى أن أكثر القصص المؤثرة هي تلك التي تأتي من فتيات تحرّش بهن إخوتهن أو آباؤهن، وهذا ما يعني أنه "لا مَهرب لهن".
وأكدت أن ما يدفعهن للاستمرار هو إيمانهن بالنسوية والمساواة بين الجنسين ورفض أي تصرف ممكن أن "يُضيّق على الأنثى"، مُشيرةً إلى أن الخطوات القادمة قد تكون التوجه للمؤسسات المعنية بشؤون المرأة.
شرف الأُمم.. غشاء البكارة
من الداعمين للحملة محمد عُمر الطبيب الغزي المُقيم في ألمانيا حالياً مُنذ سنة ونصف السنة، يقول لرصيف22 إن أولى طرق مواجهة مشكلة ما هي الاعتراف بها والإقرار بوجودها، "تماماً مثل المرض النفسي".
ولفت إلى أن الغالبية العُظمى من المُتفاعلين مع الحملة هم طلبة الجامعات، وهذا ما يعني أنهم "على اطلاع جيد بهذا المرض المنكر وجوده"، على حد وصفه. وأوضح أن المُجتمع الغزي ينكر وجود ظاهرة التحرّش لأنه "مجتمع مسلم ومحافظ، لا يرى شرف الأمم والمجتمعات بتقدمها العلمي والاقتصادي ورفاهية المعيشة ومؤشرات الصحية الجيدة، بل بغشاء بكارة نسائه".
وأضاف عُمر أن المُجتمع في غزة يقدم نفسه كأيقونة للمُقاومة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، "فكيف لبطل مِقدام أن يظهر بمظهر المتحرش الجاني أو المتحرش بها الضحية؟"
وأشار إلى أن ظاهرة التحرّش موجودة في المجتمعات المحافظة أكثر بكثير من غيرها لأسباب عدّة، أهمها الدين، وهو الرافد الأساسي لثقافة وطباع وعادات هذه الشعوب، على حد تعبيره. ويوضح: "الدين يحرم الاختلاط، ويرى المرأة مجرد وسيلة لإمتاع الرجل، ويحرم العلاقات الجنسية بين العاشقين، وهو سبب أساسي في حدوث كوارث كثيرة تعيشها مجتمعاتنا، من ضمنها ظاهرة التحرش الجنسي".
المجتمع المحافظ يُعاني أكثر من غيره
توافق عُمر، الشابةُ دعاء الحشام من غزة وهي خريجة الطب المخبري، قائلةً إن نسب التحرّش في "المجتمعات المسماة بالمحافظة" تفوق تلك التي تشهدها البيئات "المُنفتحة".
ويعود السبب إلى أن الثقافة الجنسية مُنعدمة في المجتمعات المحافظة، على حد قولها لرصيف22، وهو ما يزيد من كبت الشباب الجنسي الذي يدفعهم للبحث عن أي فتاة لتفريغ طاقتهم "بغض النظر عن الفتاة وكيف يتم استغلالها".
وتؤكد أن ظاهرة التحرّش بأصنافه موجودة في غزة مُنذ زمن مُضيفة: لا توجد فتاة في غزة لم يتم التحرّش بها لفظياً وبشكل مُستمر، أما التحرش الجسدي، فهو موجود ولكن هُناك تعتيماً عليه. قد يتم التحرّش الجسدي بإحدى الفتيات في الشارع، ولكنها غالباً ما تخجل وتمشي. قلما تقف وتصرخ في وجه المُتحرش. وأضافت أن التحرش الجسدي أكثر انتشاراً بين الأقارب، ولكن الفتاة "تخاف وتسكت”. وتُشير إلى أن 70% من الفتيات التي تعرفهن تعرضن للتحرش الجسدي خاصةً في عمر الطفولة على حد قولها.
ورغم تضامنها مع حملة Me Too Gaza إلا أن محدثتنا ضد إدارتها بشكل مجهول داعية إلى أن تقودها مؤسسة رسمية بشكل جدّي. وتُرجح دعاء عدم كشف الفتيات عن هويتهن خوفاً من المساءلة القانونية أو المجتمعية، فيما تقول إحدى المؤسسات "تعرضنا للكثير من المُضايقات دون أن نكشف عن هويتنا، ماذا لو كشفنا؟".
ويكشف الناشط وطبيب الأسنان الغزي أحمد أبو ريا، الداعم للحملة أيضاً، أن من بين المُتفاعلين مع الحملة شباباً “لم يقروا في البداية بوجود التحرش، رغم أنه "ليس من اختصاصهم تأكيد المعلومة أو نفيها لأنهم ليسوا الضحية"، على حد قوله.
ولفت في حديثه مع رصيف22 إلى أن عدم تقبّل البعض للحملة يعود إلى أن "الكثير من قصص التحرش كانت تتم في الأسرة وكشفها من الممكن قد يخلق فضيحة"، مُضيفاً أن المجتمعات المحافظة تحولت إلى مجتمعات منغلقة "مرضها من الداخل".
"المُجتمع الغزي ينكر وجود ظاهرة التحرّش لأنه مجتمع مسلم ومحافظ، لا يرى شرف الأمم والمجتمعات بتقدمها العلمي والاقتصادي ورفاهية المعيشة ومؤشرات الصحية الجيدة، بل بغشاء بكارة نسائه"...حملة Me too لفضح التحرّش الجنسي تصل غزة كاشفةً المحظور
"المُجتمع في غزة يقدم نفسه كأيقونة للمُقاومة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، فكيف لبطل مِقدام أن يظهر بمظهر المتحرش الجاني أو المتحرش بها الضحية؟"...حملة Me too لفضح التحرّش الجنسي تصل غزة كاشفةً المحظور
النساء للنساء
أما هديل السقّا، وهي أخصائية علاج طبيعي غزية، وناشطة بالعمل الشبابي المجتمعي ورسامة، فتضامنت مع ضحايا التحرّش في غزة برسمةٍ تصف حال المُتحرش بها، كانت قد رسمتها بعد سماعها قصة الفتاة المغربية خديجة التي اختطفها 12 شخصاً في يونيو الماضي واعتدوا عليها جنسياً، لمدة شهرين، وهي قضية هزت المغرب العام الماضي.
تقول لرصيف22 إن التحرّش موجود في غزة ولكنه يندرج تحت بند "المواضيع الحساسة". ولفتت إلى أنها أرادت من خلال رسمتها التعبير عن مشاعر الضحية فور وقوع التحرّش حين تكون وحدها، لافتةً إلى أنها بكت خلال رسمها حُزناً على كُل من عاش تجربة مؤلمة.
ولفتت إلى أنها تعّمدت رسم الفتاة عارية وكأنها تتألم من الرضوض والكدمات على جسدها، مُضيفة "المواجهة هي نصف الحل، الفتاة واجهت التجربة وحيدة ولكنها في ما بعد أشارت إلى ما عاشته وعرضته كما هو دون غطاء ودون تجميل للواقع".
وأعربت السقّا عن تضامنها مع الحملة التي أزالت الغُبار عن ظاهرة التحرّش في غزّة قائلةً: "الحملة أثبتت أن النساء للنساء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين