كمدينة تحيط بها الحصون والقلاع من كل حدب وصوب، يضع البعض تعريفاً للأثنى، متحفاً إياها بأعداد لا تحصى من القيود والأعراف التى أكل الدهر عليها وشرب وغط في نوم عميق.. وكحديقة مفتوحة بلا جدران أو أسوار تتنفس الحرية، وسماء صافية تمنح الطمأنينة للجميع، ترسم الأنثى صورتها، تنسجها على طريقتها الخاصة بعيداً عن التقاليد الراسخة فى أذهان من حاصروها فى حضور باهت على الهامش.
jرسم الأنثى صورتها، تنسجها على طريقتها الخاصة بعيداً عن التقاليد الراسخة فى أذهان من حاصروها
تضارب مثير فى الرؤى وصراعات كثيرة دارت منذ بدأ الخليقة بين الذكر والأنثى، وخلافات كثيرة نشأت وتنشأ يومياً بسبب رؤية كلا الطرفين للأخر، آخرها كان طوفان شتيمة البنات على السوشيال ميديا، تلك الظاهرة التى رأى فيها البعض انتقاصاً لقدر الفتاة، وخطوة على طريق تشويه أنوثتها وضرب طبيعتها التي وُلدت عليها.
يقول الباحث في التراث المصري، محمد شحاتة، إن المرأة في ثقافة المصري القديم كانت رمزاً للخير، وكانت الأم تحديداً لها مكانة كبيرة في النفوس يضعها الإنسان في مكانة أعلى من الأب، وتصل لحد التقديس، ومن هنا كان القصد من ربط الشتائم باسم الأم، إلحاق الإهانة البالغة بالشخص الآخر، والمساس بأكثر شيء قد يجرح كرامة الإنسان وهو اسم والدته.
وبالنظر إلى كم المواقف التى تفجرت من خلالها شتيمة البنات على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً، والتي وصلت إلى حد السب بالأب والأم، يبقى من المهم التوقف أمام بعض التفاصيل التى تجيب فى مجملها عن السؤال الشائك.. ما الذي جرى وفتح "حنفية" الشتائم بهذا القدر؟ رغم أننا نعيش عصراً تقدمياً بامتياز من شأنه أن يرتقي بنا إلى الأمام.
فى محطة أولى ستجد أن عدد لا بأس به من الفتيات يلجأن إلى "الشتمية" سعياً وراء التعبير عن رفضهن لفكرة تهميش المجتمع لهن، ورفضهن لقيود المجتمع على الفتاة، وكذلك الوقوف في وجه سعار التحرش الذي ينهش أجسادهن، لتبقى تلك "الكلمات الخارجة" حائط صد منيع ضد كل من يحاول اختراق الجدارن التى لم تدعو أحد إلى داخلها، صحيح أنها قد تكسر في طريقها لتحقيق هذا الغرض الصورة الجاهزة عن الفتيات برقتهن وترفعهن عن كل ما هو قبيح، لكن مكاسبها في هذه الحالة أكبر من الخسائر.
وإن جاء رد الفعل صادماً يكون أكثر تأثيراً على وضع حد للمضايقات التى تتعرض لها الفتيات
وفى محطة أخرى ستجد أن هناك من الفتيات من انتزع من شجرة "الحرية" فرع الشتيمة، لتمارس من خلاله حريتها كما تُعرّفها هي لا المجتمع، فتؤكد أن "البنت زي الولد، مش كمالة عدد" وبما أن الشتمية لا علاقة لها بالأنوثة، لأنها "لو بتقلل من البنت يبقى بتقلل كمان من قدر الرجل"، وبما أن الحوار بين الشباب والفتيات في بعض الأحيان قد يتطلب شحذ سكاكين الألسن خوفاً من أن يكشف الطرف الآخر ضعفها، فلا مانع من "الشتيمة"، وبما أن الشباب بيشتم فأنا أيضاُ ـ الفتاة ـ عليّ أن أجاريه بنفس منطقه وفكره، وحتى شتائمه ولا مانع إذا زدت عليه ليعرف أني أواكب قاموس الشتائم وأحفظ منه ما يعين على مواجهة أي متطفل أو "شاب شايف نفسه".
عبر إحدى منصات السوشيال ميديا طلبت فتاة من أخريات أن تتعلم بعض من الشتائم التي يمكن من خلالها مواجهة المتحرشين الذين تصادفهم في طريقها إلى الجامعة بصورة يومية، وأكدت الفتاة أن "الشتيمة" بالنسبة لها ستكون أشبه بالسلاح الفتاك الذى تستخدمه عند الحاجة فقط، لأن الشتيمة "عمال على بطال" لا تفيد صاحبها، وهي وجهة النظر التي تفسر مدى قناعة بعض الفتيات بأن العقاب لا بد وأن يأتي من جنس العمل، وأن رد الفعل وإن جاء صادماً يكون أكثر تأثيراً وأكبر قدرة على وضع حد للمضايقات التى تتعرض لها الفتيات.
كانت الأم تحديداً لها مكانة كبيرة في النفوس يضعها الإنسان في مكانة أعلى من الأب، وتصل لحد التقديس، ومن هنا كان القصد من ربط الشتائم باسم الأم، إلحاق الإهانة البالغة بالشخص الآخر.
إن عدد لا بأس به من الفتيات يلجأن إلى "الشتمية" سعياً وراء التعبير عن رفضهن لفكرة تهميش المجتمع لهن، ورفضهن لقيود المجتمع على الفتاة، وكذلك الوقوف في وجه سعار التحرش الذي ينهش أجسادهن.
تفصيلة أخرى من المهم الوقوف أمامها، لفهم تلك الظاهرة، فالشارع الذى كان من قبل نظيفاً هادئاً، كشف الآن عن أسوأ ما فيه، عن وجهه القبيح، سباب يتناثر هنا وهناك، خناقات تستخدم فيها الشتائم بأفظع ما يكون، حتى الدراما التي تبقى استثناء اختارت أن تنقل الواقع دون أن تحاكيه، فكانت النتيجة أن تقتحم الشتائم بيتك رغماً عنك، ولا ننسى أن هناك أيضاً من تهرب إلى الشتمية لمواكبة الموضة، وخوفاً من أن تتهمها صديقاتها بأنها متخلفة عن ركب التطور، بينما هناك أخريات تشتمن كنوع من "الروشنة" والهزار والتأكيد على انفتاحهن على التقدّم والتطور الذي نحياه، أو التعبير عن الغضب تجاه ظواهر بعينها، أو ربما لأسباب أخرى لا تدركها سوى الفتاة نفسها، غير أن الأكيد هنا أن إلقاء اللوم على الفتيات وحدهن في هذا المضمار خطأ كبير، ذلك أننا نعانى فعلياً من أزمة انحدار أخلاقي ضربت جنبات المجتمع، ذكوره وإناثه، بفضل غياب الرقابة في البيوت، والمدارس، وكذلك تبادل الشباب الشتائم في أبشع صورها على أنه "أمر عادي" وهزار لا ضرر منه، ما يعنى هنا أن علاج الظاهرة لن يستقيم دون أن يمتد الحبل على استقامته، لنعالج أوّلاً المجتمع وما شابه من عيوب، وعلل، وانحدار أخلاقي قسم ظهورنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...