خسر الرئيس السوداني عمر البشير معركته ضد الشارع، إثر تدخّل الجيش وعزله، بعد نحو خمسة أشهر من بدء الحركة الاحتجاجية المطالبة برحيل النظام، ولكن التظاهرات لم تتوقف واستبدل المتظاهرون شعارهم القديم "تسقط بس" بشعار جديد هو "سقطت أول... تسقط تاني".
بعد ساعات من ترقّب السودانيين صدور بيان عن الجيش، خرج عليهم مساء الحادي عشر من أبريل وزير الدفاع السوداني عوض محمد أحمد بن عوف ببيان أعلن فيه "اقتلاع النظام" والتحفظ على البشير "في مكان آمن"، إضافة إلى تعطيل الدستور وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وتشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية مدتها عامان تجري في نهايتها انتخابات.
ورأى معارضون في هذا البيان محاولة لاستنساخ نظام البشير من خلال منح السلطة للجنرال بن عوف الذي كان يشغل مناصب تنفيذية في حكومة البشير، آخرها منصب نائبه الأول.
وكانت المعارضة تترقّب محاولة التفاق على مطالب المتظاهرين، فقبل بيان وزير الدفاع، أعلنت "قوى إعلان الحرية والتغيير" أن السودانيين "على مفترق طرق: إما نصر كامل... أو محاولة بائسة لإعادة إنتاج النظام القديم"، مجددة التذكير بمطالب الثورة وهي "تنحي البشير ونظامه، وتسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية تعبّر عن مكونات الثورة وتنفّذ بنود إعلان الحرية والتغيير كاملة غير منقوصة".
واستعداداً للسيناريو الذي أثبت صحة توقعاتها، طالبت السودانيين بالاحتشاد في ميدان الاعتصام أمام مباني القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة في الخرطوم، شاهرة "سلاح الشوارع"، ضد "أيّة حلول جزئية أو زائفة".
و"إعلان التغيير" هو وثيقة بادر إلى طرحها "تجمع المهنيين السودانيين" في الأول من يناير الماضي، وتطالب بتنحي البشير وتشكيل حكومة مدنية انتقالية، ووقعت عليه تحالفات المعارضة الرئيسة في السودان وعدد من القوى المدنية والسياسية المعارضة.
ولم يعجب بيان وزير الدفاع المطالبين بالتغيير بطبيعة الحال، وعبّر عنهم بيان جديد لقوى إعلان الحرية والتغيير اعتبر أن ما حصل هو "انقلاب عسكري" نفّذته سلطات النظام لـ"تعيد به إنتاج ذات الوجوه والمؤسسات التي ثار شعبنا العظيم عليها".
وأعلن البيان رفض "ما ورد في بيان انقلابيي النظام" ودعا الشعب السوداني "للمحافظة على اعتصامه الباسل أمام مباني القيادة العامة للقوات المسلحة وفي بقية الأقاليم... حتى تسليم السلطة لحكومة انتقالية مدنية تعبّر عن قوى الثورة".
"تسقط تاني"
في إطار سعيه لسحب البساط من تحت أرجل قوى المعارضة المدنية، اتّخذ الجيش سلسلة قرارات أولها تعيين بن عوف رئيساً لـ"المجلس العسكري"، وتعيين رئيس الأركان، الفريق أول ركن كمال عبد المعروف، نائباً للرئيس.
ورغم حديث عن اختلاف المتظاهرين حول المستجدات ورضى بعضهم بالحلّ الذي اقترحه الجيش، إلا أنه يبدو أن أغلبيتهم يصرّون على متابعة تحركاتهم تحت شعار "تسقط تاني".
وبرز ذلك في رفضهم لإعلان المجلس العسكري حظر التجول من العاشرة مساء حتى الرابعة صباحاً، إذ بقي آلاف منهم معتصمين أمام مجمع وزارة الدفاع وفي مناطق أخرى في الخرطوم.
وفي محاولة تهدئة غضب المطالبين بالتغيير، أعلن رئيس اللجنة السياسية المكلفة من المجلس العسكري، الفريق عمر زين العابدين في الثاني عشر من أبريل أن المجلس العسكري غير طامع بالسلطة ويتبنى مطالب الناس، وسيدير "حواراً مع الكيانات السياسية" لتهيئة مناخ حوار تشارك فيه الأحزاب السياسية ودبلوماسيين أجانب للخروج بحلول للأزمة، لأن الحلول تأتي من المحتجين.
كذلك، وعد بتشكيل حكومة مدنية لا يتدخل المجلس العسكري في عملها، ولكن مع احتفاظ الأخير بوزارتي الدفاع والداخلية.
ولكن تجمع المهنيين السودانيين، المنظم الرئيسي للاحتجاجات رفض وعود المجلس العسكري ولجنته السياسية، استناداً "على خبرة الشعب السوداني في التعامل مع كل أساليب الخداع ومسرح الهزل والعبثية"، معتبراً أن ما حدث "لم يكن سوى تبديل أقنعة نفس النظام الذي خرج الشعب ثائراً عليه وساعياً لإسقاطه واقتلاعه من جذوره".
وأعلن في بيان "أن الانقلابيين بطبيعتهم القديمة الجديدة ليسوا أهلاً لصنع التغيير"، وأصرّ على "تحقيق المطالب السلمية المتمثلة في تسليم السلطة فوراً لحكومة مدنية انتقالية".
وفي 12 أبريل، استجاب عشرات آلاف السودانيين لرفض التحايل على مطالبهم والاكتفاء بتغيير في وجوه النظام، ونظموا تظاهرة حاشدة أمام مجمع وزارة الدفاع.
إعلان الجيش محبط
يقول القيادي في سكرتاريا شبكة الصحافيين السودانيين، وهي مكوّن رئيسي في تجمع المهنيين السودانيين، يوسف الجلال، إن تسمية بن عوف "كانت محبطة بكل المقاييس، فالجنرال معروف بولائه للبشير وظل يدافع عنه حتى الساعات الأخيرة".
ويضيف لرصيف22 أن الرجل "قابع في قائمة عقوبات أمريكية مفروضة على شخصيات متهمة بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، كما يظهر اسمه في وثائق المحكمة الجنائية الدولية بذات التهمة، ما يعني أن السودان سيدخل في ذات دوامة التضييق التي دخلها بفضل ملاحقة المجتمع الدولي للبشير باعتباره مجرم حرب".
بدوره، صف القيادي في حزب الأمة القومي المعارض عبد الجليل الباشا ما جرى بأنه "انقلاب جديد لنظام الإنقاذ"، ويضيف لرصيف22: "كيف يكون قادة التغيير هم أنفسهم رموز النظام السابق؟"، في إشارة منه إلى الدور الذي لعبه مدير جهاز الأمن والمخابرات صلاح عبد الله قوش، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي في الترتيبات المقترحة.
ويتوقع رئيس تحرير صحيفة "الصيحة" عبد الرحمن الأمين أن تتصاعد حالة الاحتجاج "لا سيما أن المجلس أبقى على تنظيمات مثيرة للجدل، كقوات الدفاع الشعبي الذي يُعتبر أحد أذرع النظام السابق العسكرية".
وقوات الدفاع الشعبي هي قوات عسكرية موازية للقوات النظامية وتابعة للحركة الإسلامية السودانية ولعبت دوراً مفصلياً في الانقلاب على النظام الديمقراطي عام 1989، كما لعبت لاحقاً دوراً لا يقل أهمية في تثبت النظام الحالي على كرسي الحكم.
وقال الأمين لرصيف22 إنه رأى بأم عينيه "الإصرار البادي عند ملايين المعتصمين أمام القيادة على إبعاد كل رموز النظام السابق".
وحول المشهد الحالي، يعتبر يوسف الجلال أن قوة الثوار كسرت هيبة المجلس العسكري منذ اليوم الأول، بخرق قرار حظر التجوّل، وبالتالي "لن يقبلوا ببن عوف".
ترقب للمستجدات
في المقابل، يتوقع مؤيدو النظام أن الفترة المقبلة ستشهد تخبطاً داخل قوى المعارضة. ويلفت القيادي الشبابي في الحركة الإسلامية، أبرز مكوّنات حزب المؤتمر الوطني الحاكم، سامي ناصر، إلى أن تصدعات كبيرة ستظهر في كيان تجمع المهنيين السودانيين خلال الفترة المقبلة، وستعطي الناس إشارات عن "كيف استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير".
"سقطت أول... تسقط تاني"... المعارضون السودانيون يحذّرون من أن عدم الاستجابة بالكامل لمطالبهم سيجعلهم يتحركون لإسقاط المجلس العسكري كما أسقطوا عمر البشير
المعارضون السودانيون يرفضون الالتفاف على مطالبهم واستنساخ نظام البشير بوجوه أخرى ويقرّرون استكمال ثورتهم
وقال ناصر لرصيف22 إن وضع المجلس العسكري الكرة في ميدان قوى المعارضة من خلال طرح تشكيل حكومة مدنية "سيكشف حجم الخلافات الكبيرة بين هذه المكونات شديدة التباين، وهو أمر سيؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه".
وأضاف أنه غير خجل من انتمائه للحركة الإسلامية، وقال إن حالة الارتباك والتخبط التي ستظهر في أوساط المعارضة في الفترة المقبلة، ستجعل السودانيين يعودون إلى تأييد الحزب الحاكم في أول انتخابات مقبلة.
ويشار إلى أن رئيس اللجنة السياسية أعلن أن حزب المؤتمر الوطني الذي ينتمي إليه البشير سينافس في الانتخابات القادمة.
وتخشى المعارضة السودانية من تحكّم "الدولة العميقة" التي أسس لها الإسلاميون طوال فترة حكمهم الممتدة لـ30 عاماً بالمرحلة الانتقالية، ولذلك ترفض مشاركة رموز من النظام في الترتيبات القادمة.
يُذكر أن البشير كان قد أعلن، في كلمة ألقاها في يناير الماضي في قاعدة عسكرية في مدينة عطبرة التي انطلقت منها التظاهرات، أنه لا يمانع في تسليم السلطة إلى "واحد لابس كاكي"، أي إلى عسكري.
وأعلن المجلس العسكري أنه لن يسلم البشير للمحكمة الجنائية الدولية. ويحذّر يوسف الجلال من سيناريو هروبه، وقيادته انقلاباً مضاداً يعيده إلى الحكم، كما جرى عام 1971، عندما نجح الرئيس الأسبق جعفر النميري في الفرار من قبضة انقلابيي يوليو بقيادة الرائد هاشم العطا، ما مكّنه من إعادة ترتيب صفوفه وإنجاز انقلاب مضاد استعاد به السلطة التي خسرها لثلاثة أيام.
وقد لا تكون قرارات المجلس العسكري آخر ما يصدر عن العسكر، إذ تتداول وسائل الإعلام أخباراً عن جنود وضباط صغار لا يزالون يشاركون في التظاهرات ويرفضون قرارات قياداتهم، كما برز اعتذار قائد قوات الدعم السريع الجنرال حميدتي، عن تولي منصب في المجلس العسكري وإعلانه في 12 أبريل أنه سيظل منحازاً إلى تطلعات الشعب السوداني.
ولكن عبد الجليل الباشا يبدو متفائلاً ويشير إلى أنه إذا لم يستجب المجلس العسكري لمطالب الشعب بالكامل وبدون نقصان، فإن سيناريو الإسقاط سيطال بن عوف كما طال البشير، خاتماً حديثه بالشعار المرفوع حالياً في ساحة الاعتصام "سقطت أول... تسقط تاني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه