إذا كنت تسكن إحدى قرى مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فعلى الأرجح أنت تسعى إلى الهجرة من قريتك، أو من مصر كلها، هرباً من أعباء الضرائب الحكومية الباهظة، كما فعل كثيرون غيرك.
ولكن المصريين في تلك الفترة كانوا على موعد مع مجموعة إصلاحات ستغيّر حياتهم. فبعد أربع سنوات من تولي سعيد باشا الحكم خلفاً لابن أخيه عباس حلمي الأول، أي عام 1858، أصدر ما يُعرف بـ"اللائحة السعيدية"، ومنح بموجبها المصريين الحق في تملك الأراضي الزراعية التي يزرعونها وتوريثها من بعدهم، وذلك بعدما كان محمد علي باشا قد حوّل جميع الأراضي إلى ملكية الحكومة. هكذا، أصبح للفلاحين وضع اجتماعي واقتصادي مستقل عن الحكومة.
كما أعفت "اللائحة السعيدية" الفلاحين من الضرائب المتأخرة عليهم، وأسقطتها عنهم، وبلغت 800 ألف جنيه، وأمرت بإمهالهم في دفع الضرائب الجديدة حتى يتسنى لهم بيع محاصيلهم، ليستحق عهده أن يُطلق عليه بعض المؤرخين لقب "العصر الذهبي للفلاح".
لم تقتصر إصلاحات سعيد باشا على الفلاحين فقط، بل امتدت إلى وضع لائحة معاشات لموظفي الحكومة، ليتقاضوا رواتب بعد التقاعد، وهي الأساس الذي بُني عليه نظام المعاشات في مصر.
وخرج الأقباط في عهد سعيد باشا من تحت مسمى "أهل الذمة"، وذلك بعد إصداره قراراً تاريخياً عام 1855 بإلغاء الجزية المفروضة عليهم منذ دخول عمرو بن العاص مصر مقابل حمايتهم، لينضم الأقباط بذلك إلى الجيش المصري جنباً إلى جنب مع المسلمين.
نظام التجنيد طاله التغيير كذلك، فبعد أن كان قاصراً على الفئات الفقيرة، جعل سعيد باشا الخدمة العسكرية عامة على الجميع وإجبارية، وأصبحت أقصر، إذ بلغ متوسطها عاماً واحداً، عدا العمل على تحسين أوضاع الجنود المعيشية، وترقية الضباط المصريين إلى رتب عليا كان يتولاها من قبل الترك والشراكسة فقط.
وكان أحمد عرابي أحد المستفيدين من السياسة السعيدية تجاه المصريين في الجيش، وهو الضابط المصري الذي سيقود حركة الجيش ضد الخديوي توفيق لاحقاً. يشير عرابي في مذكراته إلى أنه كان مقرّباً من سعيد باشا، وإلى أن الأخير كان يُشركه في ترتيب المناورات الحربية وينيبه عنه في نقل تفاصيلها لكبار الضباط.
مَن هو سعيد باشا؟
وُلد محمد سعيد باشا عام 1822، خلال تولي أبيه محمد علي باشا حكم مصر، وكان للثقافة الغربية، وبالتحديد الفرنسية، تأثير قوي في نشأته، إذ يشير القاضي في المحاكم المختلطة بيير كرابيتس في كتابه "إسماعيل المفترى عليه" إلى أن سعيد كان له مُهذِّب فرنسي يدعى "كونيج بك"، وإلى أنه اشتهر بالعطف على الأوروبيين واقتبس آدابهم وعاداتهم وكان يتحدث الفرنسية بطلاقة.
منذ سنوات عمره المبكرة، نشأت صداقة بينه وبين فردينان، نجل مسيو ماتيو ديليسيبس، الذي كان يشغل منصب القنصل العام لفرنسا في مصر منذ عام 1802، وكان مقرّباً من محمد علي باشا.
وكان للمكرونة دور كبير في توطيد عُرى الصداقة بين الصبي سعيد والشاب فردينان. يذكر كرابيتس في كتابه قصة ولع سعيد بالمكرونة التي صارت من نوادر عصره، ويروي أنه كان سميناً في صباه، وكان أبوه محمد علي باشا يكره ذلك، فأصدر أوامره بأن يقضي ابنه كل يوم ساعتين في ممارسة الرياضة، وأمره بالالتزام بنظام غذائي معيّن، ومنعه من زيارة أي منزل من منازل العامة عدا منزل ماتيو ديليسيبس، فكان سعيد يتوجه إلى القنصلية الفرنسية كلما نهض عن مائدة أبيه الباشا وشعر أنه ما زال جائعاً ليتناول هنالك المزيد من الطعام، فجمع عشق المكرونة بينه وبين فردينان ديليسيبس.
في ما بعد، نُقل ماتيو ديليسيبس إلى باريس. ولاحقاً، أرسل محمد علي نجله سعيد إلى هنالك لإكمال تعليمه، فتجددت علاقته بصديقه فردينان وبأطباق المكرونة.
المحطة التالية في حياة سعيد كانت الحياة العسكرية. اختار له محمد علي سلك البحرية لينتظم فيه، ويعيش كواحد من تلاميذه بدون تمييز عن الآخرين. وعندما أتم دراسته، انضم إلى الأسطول المصري قومنداناً لإحدى البوارج البحرية، يؤدي التحية لقادته ويسير وفق النظام العسكري، وترقى في المناصب حتى وصل في أواخر عهد أبيه إلى منصب القائد العام للأسطول.
مصر تدفع ثمن الصداقة
صعد سعيد إلى كرسي حكم مصر عقب مقتل ابن أخيه غير الشقيق عباس، والذي كان يكبره سناً، وفور أن سمع فردينان ديليسيبس بخبر توليه حكم مصر عام 1854 أرسل له برقية تهنئة أبلغه فيها عزمه الحضور إلى مصر، فأجابه سعيد بالترحيب.
كان ديليسيبس متحمساً لمشروع حفر قناة تربط البحرين الأحمر والمتوسط، كطريق للتجارة، وهو مشروع قديم ظهرت فكرته أيام الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وهي الفكرة التي رفضها محمد علي من قبل، حتى لا تكون ذريعة للتدخل الأجنبي في البلاد، وتمسك عباس باشا بنفس الموقف، وفقاً للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل".
عرف ديليسيبس أن فرصته لإتمام المشروع حانت بعد تولي صديقه سعيد حكم مصر، وبالفعل نجح في إقناعه بمنحه امتيازاً لحفر قناة السويس.
وجاءت شروط الامتياز الذي أصدره الباشا عام 1856 "مجحفة"، كما وصفها الرافعي، فقد تضمنت تنازل الحكومة لشركة قناة السويس برئاسة ديليسيبس عن جميع الأراضي اللازمة لحفر القناة مع إعفائها من الضرائب، ومنح الشركة الحق في أن تستخرج من كل المناجم والمحاجر الحكومية كل المواد والمعادن التي تحتاجها في أعمال الحفر، دون مقابل مادي.
وتضمنت شروط الامتياز كذلك إعفاء جميع المعدات والآلات التي تستوردها الشركة لأعمال الحفر من الجمارك. وتحددت مدة الامتياز بـ99 عاماً، تبدأ بعد افتتاح القناة للملاحة، وتؤول بعدها ملكية القناة للحكومة، ويكون للشركة خلال هذه المدة حق فرض رسوم العبور في القناة وتمنح الحكومة 15% من صافي الأرباح. كما ألزم الامتياز الحكومة المصرية بتوفير أربعة أخماس العمال اللازمين لأعمال الحفر، وهم مَن عملوا بنظام السخرة في حفر القناة.
كما أعان سعيد صديقه بمبلغ 100 ألف جنيه، كانت كل ما توفر في الخزينة المصرية، ليبدأ مشروع حفر القناة.
"أعترف لك بأني لم أفكر طويلاً في الموضوع، إنما هي مسألة شعور"، هكذا قال سعيد لصديقه فردينان بعد أن منحه الامتياز، كما يرد في كتاب "عصر إسماعيل" للرافعي.
ويتجلى تأثير فرنسا القوي على سعيد في إرساله حملة مصرية، عام 1863، لمعاونة حاكم المكسيك، حليف فرنسا، في قمع ثورة ضده، واستمرت تلك الحملة في المسكيك إلى ما بعد وفاته. وفي هذا الإطار يصف القاضي في المحاكم المختلطة بيير كرابيتس سعيد بأنه "دمية تحركها فرنسا".
الاستدانة... بداية السقوط
اتجه سعيد باشا نحو الاستدانة من الداخل والخارج، بدون ظهور حاجة إلى سياسة الاقتراض التي انتهجها. يشير عبد الرحمن الرافعي إلى أن الحكومة المصرية لم تكن في حاجة إلى الاستدانة، كما أن سنوات حكم سعيد كانت سنوات رخاء ويسر، ولم تقع خلالها حروب طويلة تستنزف الموارد المالية للدولة، ويُرجع توجه سعيد للاقتراض إلى قصر نظره السياسي وسوء تصرفه.
بدأ سعيد باشا الاستدانة من بعض البنوك الأوروبية التي نشأت حديثاً في الإسكندرية، واستجاب إلى نصيحة صديقه ديليسيبس وأصدر أذونات على الخزينة تترواح مددها بين ستة أشهر وثلاث سنوات، ويصل سعر فائدتها إلى 18%.
وبعد ذلك، لجأ للاستدانة من المصارف الأوروبية بفوائد كبيرة. وعند وفاته عام 1863 كانت مصر مدينة بنحو تسعة ملايين جنيه استرليني مستحقة السداد على 30 عاماً، وفقاً للدكتور جلال أمين في كتابه "قصة الاقتصاد المصري".
واستمر الخديوي إسماعيل، خليفة سعيد، في سياسة الاستدانة التي أدت في النهاية إلى فرض رقابة أوروبية على الحكومة المصرية لضمان سداد الديون.
التعليم للأجانب فقط
استمر الجمود والتراجع الذي أصاب التعليم في عهد عباس خلال حكم سعيد، فأغلق مدرسة المهندسخانة وحوّلها إلى مدرسة حربية، وأغلق مدرسة طب قصر العيني لفترة ثم أعاد فتحها، وفترت حركة البعثات العلمية إلى أوروبا، فلم يوفد سوى 14 طالباً.
في خطبة له، قال: "أيها الإخوان إني نظرت في أحوال الشعب المصري فوجدته مظلوماً مستعبداً لغيره من أمم الأرض... ووجب عليّ أن أجعله يستغني بنفسه عن الأجانب"... هل وضع سعيد باشا أول حجر في عمارة "مصر للمصريين"؟
خرج الأقباط في عهد سعيد باشا من تحت مسمى "أهل الذمة"، وذلك بعد إصداره قراراً تاريخياً عام 1855 بإلغاء الجزية المفروضة عليهم منذ دخول عمرو بن العاص مصر، كما انضموا إلى الجيش المصري جنباً إلى جنب مع المسلمين
وفي المقابل، منح سعيد باشا الإعانات لمدارس الراهبات الفرنسيات في القاهرة والإسكندرية، وأعطى أول مدرسة إيطالية تفتتحها الحكومة الإيطالية منحة قدرها 24 ألف جنيه ووهبها قطعة أرض في الإسكندرية لتتخذها مقراً، ومنح البعثة الأمريكية مبنى لتتخذه مدرسة لها بالقاهرة.
لمصر أم لفرنسا؟
منح سعيد باشا المصريين ملكية الأراضي والرتب العسكرية والمعاشات التقاعدية، ومنح الأجانب، خاصة الفرنسيين، الامتيازات وجاملهم بحملة عسكرية على المكسيك، وسّخر مصر لتحقيق مشروع صديقه، واتجه للاقتراض فاتحاً أبواب البلاد أمام التدخل الأجنبي، فمع مَن كان هواه؟
يقدّم لنا أحمد عرابي إجابة في مذكراته التي يورد فيها خطبة ألقاها سعيد في حفل لكبار رجال الدولة، وقال فيها: "أيها الإخوان إني نظرت في أحوال الشعب المصري من حيث التاريخ فوجدته مظلوماً مستعبداً لغيره من أمم الأرض فقد تعاقبت عليه دول ظالمة كثيرة... وحيث إننى أعتبر نفسي مصرياً فوجب أن أربي هذا الشعب وأهذبه تهذيباً حتى أجعله صالحاً لأن يخدم بلاده خدمة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب".
ويشير عرابي إلى أن الحاضرين من كبار رجال الدولة ("من الأمراء والعظماء" حسب التعبير الوارد في مذكرات عرابي) خرجوا غاضبين بعد انتهاء الخطبة، فيما هلل له المصريون فرحاً. ويعلّق عرابي على الحادثة بقوله إنه تيقن من أن "هذه الخطبة تعتبر أول حجر وضع في قاعدة مصر للمصريين".
في المقابل، يرى الرافعي أن أهم صفات سعيد هي طيبة قلبه وسلامة قصده وكرمه وشجاعته وحبه للعدل، إلا أن ما يعيبه هو كثرة التردد وضعف الإرادة، ويشير إلى أنه من هنا جاءت تقلباته في الخطط والأعمال، وانصياعه لآراء خلصائه الأوروبيين، كما كانت نقطة ضعفه في إسرافه.
"عهد سعيد كان تغييراً للأفضل مقارنة بفترة حكم عباس"، يقول الدكتور عبد المنعم الجميعي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة الفيوم، ويضيف لرصيف22 أن سعيد اتخذ عدة قرارات لمصلحة المصريين وأعاد البعثات الأجنبية، على قلتها، بعد توقفها في عهد عباس.
ويقر الجميعي بأن سعيد كان يميل إلى الأجانب نتيجة تأثره بظروف نشأته وتلقيه التعليم في فرنسا، مشيراً إلى أن مشروع قناة السويس كان مشروعاً عظيماً لولا شروطه المجحفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...