شهدت ثورة 1919 التي يحلّ هذا العام موعد ذكراها المئوية تجربة استقلال ثلاث مناطق عن مصر، وفي الحقيقة "لم تكن محاولات انفصال عن مصر" بل هدفت إلى الاستقلال عن السلطة الإنكليزية والسلطان فؤاد الأول.
هذا ما يقوله لرصيف22 أستاذ التاريخ الحديث عبد المنعم الجميعي، مشيراً إلى أن أزمة الشعب مع حكامه الإنكليز والمصريين لم تكن في اعتقال الزعيم سعد زغلول فقط، بل كان من أسبابها أيضاً سوء الأحوال الاقتصادية بعد هبوط سعر القطن وتطوّر الوعي القومي.
ويصف الجميعي تلك التجارب بأنها "محاولات هبّات شعبية في مناطق لا تتمتع بمقومات بناء دولة" شهدت أحداثها طرد ممثلي الإنكليز من تلك المناطق وانسلاخاً عن السلطة المركزية في القاهرة لأن السلطان فؤاد الأول كان موالياً للإنكليز.
وكانت هذه التجارب قد بزغت على خلفية غضب المصريين من اعتقال سعد زغلول وبعض رفاقه في الثامن من مارس 1919، ونفيهم إلى جزيرة سيشل، بسبب إطلاقهم ثورة تطالب بخروج البريطانيين من مصر.
جمهورية زفتى
زفتى هي الجمهورية الأشهر من بين التجارب الثلاث. حينما تتجوّل في هذه المدينة الصغيرة، تشعر بأن الزمن عالق في عام 1919. لا تزال المطبعة المسمّاة بـ"مطبعة الجمهورية" موجودة وفيها ماكينات الطباعة التي طبعت منشورات "الجمهورية".
من 23 إلى 29 مارس فقط استمرت تجربة "جمهورية زفتى" التي أقيمت في المدينة التي تبلغ مساحتها 210 كيلومترات مربعة، وتقع على فرع دمياط، أحد فرعيْ نهر النيل، وتحيط بها أراضي زراعية.
يروي صاحب "مطبعة الجمهورية" علاء عجينة، نجل أحمد عجينة، "وزير إعلام الجمهورية"، أن "رئيس جمهورية زفتى" يوسف الجندي تأثر بقيم الجمهورية الفرنسية بحكم دراسته للحقوق، وأطلق الجمهورية كفكرة "جديدة" لإثارة الرأي العالمي وممارسة الضغط من أجل الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه.
ويضيف أن الجندي أعدّ لجمهوريته قبل قيامها بسنوات، فجلس مع العمال لتكوين ظهير ثوري قوي، وعقد الاجتماعات في مقهى "مستوكلي" المحلّي، لافتاً إلى أن موقع زفتى الذي يشبه حرف Y، والمنحصر بين سكتي حديد طنطا وبنها وفرع النيل، ساهم في نجاح تجربة "الجمهورية" لأيام.
في اللحظة الحاسمة، توجّه الجندي إلى مركز الشرطة ففتح الأخير مخازنه للجمهورية الوليدة لكي تأخذ ما فيه من سلاح وترفع علم الجمهورية فوقه، وشُكّلت حكومة من بعض أبناء المدينة كما تأسس "جيش" صغير ضم رجال المركز المذكور وتلامذة وخارجين عن القانون كـ"عصابة سبع الليل"، كما حصل الثوار على مساعدات مالية ضخمة من "السيد بك كشك".
لم تعمّر التجربة طويلاً، وسقطت الجمهورية باقتحام الفرقة الأسترالية للمدينة، غير أنها تعاملت بشكل حضاري مع الأهالي ويقول البعض إنها بذلك خالفت أوامر الإنكليز القاضية بتخريب زفتى.
"لا يزال كما هو". هكذا وصف أحمد عماد، أحد أفراد عائلة الراحل يوسف الجندي، منزله حالياً مبيناً أنه شهد معظم الاجتماعات الهامة لقادة الجمهورية، ولا تزال بعض مقتنيات الجندي الذي صار لاحقاً نائباً في البرلمان، وهاجر إلى إنكلترا حتى وفاته، في المنزل الذي هجره أصحابة منذ سنوات.
مملكة فارسكور
تُعتبر "مملكة فارسكور" أهم محاولات الانفصال، إذ استمرت نحو ثلاثة أشهر، من مارس حتى يونيو 1919، على مساحة 23 كيلومتراً مربعاً.
من منفاه الباريسي، قصّ "ملك فارسكور" ووجيه المدينة حافظ دنيا قصة هذه المملكة على صفحات صحيفة "اللطائف المصرية" عام 1935. روى أنها وُلدت في ميدان الحديدي، بعد اعتقال سعد زغلول، حين قاد تظاهرة نحو مركز الشرطة فهددهم المأمور قائلاً: "سأدعو الإنكليز ليضربوكم بالقنابل ويهتكوا أعراضكم"، ما أثار الأهالي فقاموا باقتحام المركز واعتقلوا المأمور وقطعوا أسلاك الهاتف وخلعوا قضبان السكة الحديدية.
وعقد وجهاء المدينة اجتماعاً في منزل شيخ البلد محمد قرين وأعلنوا الاستقلال ونصّبوا حافظ دنيا ملكاً على فارسكور، وشكلوا حكومة ضمت وزراء للحربية والبحرية والحقانية وقطع المواصلات والمالية، كما أنشأوا لجاناً مدنية لتنظيم الإدارة والقضاء، وأصدروا فرماناً حددوا فيه حدود المملكة من البحر المتوسط وبحيرة المنزلة، حتى النيل ومدينتي المنصورة ودكرنس.
لتشكيل قوات، فرض حافظ دنيا التجنيد، وكان الشباب يأتون حاملين مؤونتهم لأسبوع، وبلغ حجم سلاح مملكته 14 ألف بندقية، و3000 طبنجة (مسدس).
وشكلت قيادة "المملكة" فريق استخبارات، وأصدرت موادَّ قانونية معيّنة لمكافحة المضاربات والسرقات، وحمت الأجانب وممتلكاتهم، باستثناء الرعايا الإنكليز الذين صادرت ممتلكاتهم.
وكانت فارسكور منطقة ثرية، إذ تشير رسالة دكتواره بعنوان "فارسكور بالقرن الـ19" لعبد الرحمن البكري إلى أن أرباح منسوجاتها السنوية بلغت 15 ألف قرش عثماني. ولكن تجربتها ولّدت أزمة مالية اضطرت "الملك" إلى بيع أملاكه، كما نُفّذ كمين لشحنة نقود من المديرية لسداد المرتبات.
وظهرت قوة فارسكور عندما اعتقل محافظ دمياط 200 متظاهر، فطالبه "الملك" بإطلاق المسجونين وتسليم المدينة، وعندما لم يستجيب، قطع المياه عن دمياط، فجاءه وفد رسمي ضم محافظها ونائبيها في البرلمان للتفاوض، وخضعوا لمطلب إطلاق سراح المعتقلين.
ونقل محمد التلباني، في كتابه "فارسكور الخالدة"، حكاية انهيار المملكة عن شهادات الأهالي. دخل الإنكليز براً بقوات فصدتهم قوات "المملكة" فتدخلت البحرية الإنكليزية وغيّرت الموازين وحوصرت قوات "المملكة" بين القطع البحرية والقوات البرية.
فاوضت إنكلترا الملك وطالبته بالسماح بدخول قواتها فقبل بتسليم المدينة شرط إبعاد الإنكليز لمسافة ثلاثة كيلومترات عنها. ولكن بعد قتل الإنكليز لطفل اقترب من معسكرهم، ثار أهالي فارسكور وحرقوا المعسكر، فدخل الإنكليز المدينة واعتقلوا "الملك" وحكم عليه بالإعدام قبل أن يُخفف الحكم إلى النفي للقاهرة.
ويروي "الملك" حافظ دنيا أنه رفض أن يقبض المأمور عليه، فقدّم إليه قائد القوات الإنكليزية التحية العسكرية وقال له: "وردت تعليمات من قائد القوات البريطانية بالمنصورة لاستدعاء جلالتكم للاستئناس برأيكم ببعض المسائل"، ونقلوه في قطار فخم أمام 15 ألفاً من مناصريه ظلّوا يهتفون باسمه حتى أمرهم بالرحيل.
عندما اقترب الإنكليز من "مملكة فارسكور"، أصدر "ملكها" فرماناً يقضي بتلطيخ النساء أجسادهن بالروث، حتى لا يعتدي الجنود عليهنّ... تفاصيل من عام 1919 عن ثلاث تجارب استقلال عن مصر التي كان يحكمها الإنكليز
شهدت ثورة 1919 التي يحلّ هذا العام موعد ذكراها المئوية تجربة استقلال ثلاث مناطق عن مصر، وفي الحقيقة "لم تكن محاولات انفصال عن مصر" بل هدفت إلى الاستقلال عن السلطة الإنكليزية والسلطان فؤاد الأول
يقول أحمد دنيا، حفيد شقيق حافظ دنيا، لرصيف22 إن الملك "باع أرضه للحفاظ على نساء فارسكور".
ويروي أن حافظ دنيا، عندما اقترب الإنكليز من فارسكور، أصدر فرماناً يقضي بتلطيخ النساء أجسادهن بالروث، حتى لا يعتدي الجنود عليهنّ.
ويضيف أن حافظ دنيا، وكان ضابطاً في الشرطة، أعلن المملكة لأن السلطنة في القاهرة خذلته "عندما عاقبته على قطع قضبان الديزل الإنكليزي (قضبان السكة الحديدية)، بفصله من البوليس".
إمبراطورية المنيا
شهدت محافظة المنيا، عروس الصعيد، تجربة جمهورية مماثلة أسماها البعض بـ"الإمبراطورية"، استمرت بين يومي 22 و28 مارس، في بندر المنيا وبعض القرى المحيطة بالضفة الشرقية للنيل (جماريس ولفطاف وتلة وبني أحمد ونزلة الفلاحين والبرجاية وكدوان وكفر المنصورة)، وكانت المسافة بين طرفيها تبلغ 14 كيلومتراً.
ويروي المؤرخ المنياوي موفق بيومي لرصيف22 أن الإنكليز أغلقوا مركز قيادة الجيش الإنكليزي فور قيام التظاهرات في المدينة، فخلت من تواجد الإنكليز، ما شجع الثوار داخلها على إعلان استقلال مدينتهم كجمهورية، وتنظيم شؤونها بأنفسهم، مستغلين الفوضى في مصر أثناء ثورة 1919.
"شهدت أول رئيس مدني لمصر". هكذا علّق بيومي على تجربة الجمهورية التي دامت أربعة أيام، وشهدت تشكيل مجلس إدارة من ثمانية أعضاء برئاسة الدكتور محمود عبد الرازق، ونصبّت المحامي القبطي رياض الجمل رئيساً.
ويصف بيومي تلك التجربة بأنها "شكل للوطنية الزائدة الوقتية"، والدليل إرسال دولت فهمي، القيادية في تنظيم اليد السوداء، التنظيم السري الذي أسسه حزب الوفد، رسالة إلى قيادات الجمهورية وصفت فيها عملهم بأنه "عمل صبياني" ويؤدي إلى تفكيك الوحدة الوطنية.
ووثّقت الأحداث التي شهدتها الجمهورية ثلاثة وثائق تشمل منشور إعلان الجمهورية في ميدان بلاس، وطُبعت 50 نسخة منه، صادر الإنكليز 42 منها عقب دخولهم إلى المدينة، وهو منشور يحذّر من المخربين والجواسيس ويدعو إلى الحفاظ على ثروة البلاد وعدم التعرّض للأجانب، وتجنب تخزين المواد الغذائية.
والوثيقة الثانية هي كتيّب كتبه الشيخ مصطفى القاياتي، عام 1923، ويتحدث عن دور الأقباط في ثورة 1919، ويذكر استخدام الغفر (عناصر الشرطة) والمتطوعين لحفظ الأمن، وتوفير المواد التموينية لأن الواردات من القاهرة من أدوية وأغذية لم تكن متاحة، ففُرضت عقوبات على رفع أثمانها، ويذكر عدم تسجيل حادثة اعتداء واحدة، وانضمام قرى جماريس ولفطاف وتلة وبني أحمد ونزلة الفلاحين والبرجاية وكدوان وكفر المنصورة للجمهورية.
كما جرى في مثيلاتها، أجهض الإنكليز عسكرياً التجربة، وقبضوا على قادتها وحُكم على محمود عبد الرازق وعلى عضو مجلس الجمهورية محمد البدوي بالإعدام، وحققوا مع رياض الجمل لفترة طويلة وسحبوا رخصة ممارسة المحاماة منه. ومن هنا تأتي الوثيقة الثالثة وهي "عرض حال" بخط يد الجمل يشكو فيها منعه من العمل بلا سند قانوني.
وتحدثت "مجلة كل شيء" في أحد أعدادها عام 2019 عن "إمبراطورية المنيا" وعن دور أحمد حتاتة الأساسي فيها. ولا يمكن إغفال دور الشيخ الأزهري حتاتة في تجربة "جمهورية المنيا"، وكان أحد أعضاء مجلس الجمهورية. لكنّ المجلّة لقبته بـ"الإمبراطور"، واعتبرته مؤسس "الإمبراطورية" ونسبت له أدواراً كبيرة في الأعمال الحربية منها هجوم على قطار إنكليزي، وهو ما يعكس عدم دقة المعلومات حول تفاصيل ما شهدته المنطقة الصعيدية.
شخصيات كثيرة أخرى ارتبط اسمها بـ"جمهورية المنيا"، منها خليل أبو زيد، ابن عمدة دير مواس وصديق سعد زغلول، وشارك مع الشيخ أحمد حتاتة في العمل على تحريض أبناء المنيا على الثورة ضد الإنكليز.
ويقول حفيده أحمد أبو زيد لرصيف22 إن جده حصل على دكتوراه من أكسفورد، وعاد إلى دير مواس قبل أسابيع من اندلاع ثورة 1919 فشارك في تنظيم التظاهرات، وشارك في هجوم على قطار يقلّ ضباطاً إنكليزيين، فحُكم عليه بالإعدام بسبب ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...