ينطلق "عليٌّ" غاضباً في جَنَبَات المدينة، يتحاشاه الجميعُ وهو يمرق بينهم كالسهم، شاهراً ذو الفقار، يتلفّت يمنةً ويسرةً، بحثاً عن واحدٍ بعينه، تساءلوا في قرارة أنفسهم، عمّا فعله ذاك الذي يبحث عنه وأثاره لهذا الحدّ، وما مصيره إن وجده وهو على هذه الحالة؟
بلغ "عليٌّ" بئراً احتضن مقصده، حيث جلس شيخٌ طاعنٌ بالسنّ داخله، يبترد بالماء من الحرِّ القائظ، ما إن تلاقت النظرات حتى ارتبكت ملامح رجل البئر عالماً أنه سيخوض امتحاناً عسيراً لا نجاة فيه إلا بالحكمة، المدينة كلها لا تتحدّث إلا عنه، وبالتأكيد بلغه تراشق الكلام كما بلغ غيره، أيقن أنها النهاية. لم يحادثه "عليٌّ" كثيراً فقط لوّح له بالسيف قائلاً "اخرجْ"، أطاعه الشيخ وفي نفسه قرَّر أن يوفّر عليه وعلى "عليٍّ" نقاشاً حامياً، غادر البئر وقبل أن ينطق ابن عمِّ النبي بكلمة إضافيّة، أسقط عنه سرواله ليواجهه عارياً كيوم وُلِد، طالعه "علي" مندهشاً لثانية استحالت لاستغرابٍ، وعيناه تلتقطان بنظراتٍ خاطفةٍ حيّيةٍ ما بين فخذيه، انقلبت بعدها نظراته إلى تعاطفٍ، بعدما هدأت فورة الغضب بغتة، كنار بركان حامية خمدها ماء طوفان. أعاد سيفه إلى غمده واستدار دون أن يودّعه بكلمة، عائداً إلى النبي الذي جلس مترقّباً قدومه، وما أن بلغه حتى قال "يا رسول الله، إنّه لمجبوب ماله ذكر"، عبارة واحدة انطفأت بها الفتنة الموقدة التي أصابت فراش النبي للمرة الثانيّة.
اختار النبي مارية القبطية وكانت من جميلات مصر، حين أهديت إليه من قبل المقوقس عظيم مصر، وكانت عمرها حينذاك يقارب الـ20 سنة.
لم تبدأ أحداث هذه القصّة من لحظة أمر الرسول ابن عمّه بقتل "الشيخ المجبوب"، بعدما أثقلت نفسه الشائعات التي سمعها عنه ومسّته في أعز ما تمناه لنفسه: ابنه إبراهيم، وإنما نشأت بذرتُها عقب الانتهاء من توقيع صلح الحديبيّة (6هـ/ 628م)، وبدء النبي في بعث رسائل دعويّة لملوك وزعماء المناطق المجاورة، فخاطب هرقل عظيم الروم، والنجاشي ملك الحبشة، وكسرى ملك الفرس، والمنذر بن ساوى ملك البحرين، وجَيْفر وعبد ابني الجُلُنْدَي صاحبي عمان، وأخيراً المقوقس عظيم القبط في مصر.
لم يتبع الأخير هَدْي النبوّة الذي يدعوه للإسلام، لكنه أكرم وفادة رسول النبي حاطب بن أبي بلتعة، وأعاده إلى مكة مُكرَّماً بهدايا نفيسة، شملت ألف مثقال ذهب، وعشرين ثوباً قبطيّاً ليّناً، وبغلةً اسمها "دلدل" وحماراً اسمه "عفير"، بالإضافة لثلاثة بشر هم: "سيرين"، وأختها "مارية"، وشيخ كبير بالسن اسمه "مأبور"، والأخيران هما بطلا قصتنا.
عظيمة القبط
لم تكن الوافدة القبطيّة "مارية" الوحيدة التي عرفها الرسول، وإنما تُحدّثنا كتب التاريخ أن النبي كان له جارية تُدعى "مارية" أيضاً، وكانت تُكنّى بـ “أم الرباب"، روت عنه أنها "تطأطأت له"، أي صعد على ظهرها، يوماً حين صعد حائطاً، ليلةَ فَرَّ من المشركين، كما حكت أنها ما مسّت بيدها شيئاً "ألين من كفِّ رسول الله"، إلا أن الأخيرة ظلّت بعيدة تماماً عن مسار أحداث التاريخ، فيما احتلّت الأولى أركاناً متوسّطة الأهميّة في بعض فتراته.
يقول الشيخ خالد الحموي في كتابه "مارية القبطيّة"، إنه في ردِّ المقوقس على النبي، وصف مارية وأختها بأن "لهما مكان عظيم في القبط"، فيما يَرِدُ لها مدحٌ مشابهٌ في رواية المقريزي للحدث بكتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، حين قال: "لم يدع المقوقس أحسن ولا أجمل منها في مصر".
يضيف "الحموي"، أن والدها شمعون كان من خيار القبط، أما أمّها فهي روميّة ورثت عنها جمالاً أخّاذاً، وقيل إن بلدتها الأصليّة هي "أنصنا" وتقع بصعيد مصر.
في العام الثامن الهجري، وفدت المرأتان على النبي وقد دخلتا الإسلام بالفعل، أمّا مأبور فقد أجَّل هذا القرار حيناً. اختار الرسول لنفسه مارية التي كان عمرها حينذاك ناهز الـ 20 عاماً، واختلفت الروايات حول هويّة الصحابي الذي وُهبت له أختها، ما بين حسان بن ثابت أو دِحية الكلبي أو محمد بن مسلمة الأنصاريّ.
في حديثٍ منسوبٍ لعائشة، أورده ابن كثير في كتاب "البداية والنهاية"، وصفت مارية القبطيّة فيه بأنها "من بنات الملوك"، وصارت غيرة نساء النبي من المصريّة الجميلة، مضرباً للقصِّ في كُتب التاريخ
في حديثٍ منسوبٍ لعائشة، أورده ابن كثير في كتاب "البداية والنهاية"، وصفت مارية فيه بأنها "من بنات الملوك"، فيما ينقل ابن حجر العسقلاني في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" عن عائشة أيضاً قولها "ما عزّت عليّ امرأة إلا دون ما عزّت عليّ مارية، وذلك أنها كانت جميلة جَعْدَة" وتحكي بعدها كيف أن النبي أسكنها أول مرّة في بيتٍ لحارثة بن النعمان، ثم قرّر بعدها أن يحوّلها إلى "العالية" (مكان يُسمّى الآن مشربيّة أمّ إبراهيم)، فكان ذلك وقعه أشدّ على عائشة.
وظلّت غيرة نساء النبي من المصريّة الجميلة، مضرباً للقصِّ في كُتب التاريخ، يروي ابن مقاتل في تفسيره للآية "يا أيها النبي لِمَ تُحرّم ما أحلَّ اللهُ لكَ" (آية 1: سورة التحريم)، أن النبي لسببٍ ما اختلى بمارية في منزل حفصة بنت عُمر، مستغلّاً غيابها في زيارة لأبيها، لكنها عادت على غير توقّع ورأتهما معاً، فقالت له: "إنّي قد رأيت من كان معك في البيت، في يومي وفي بيتي وعلى فراشي!"، فأجابها الرسول "اكتمي عليّ، ولا تخبري عائشة ولك علي ألا أقربها أبداً"، فلم تعمل ابنة الفاروق بالوصيّة، وأخبرت عائشة التي "غضبت، ولم تزل بالنبي حتى حلف ألّا يقرب مارية" فأنزل الله الآية عتاباً للرسول على قراره.
زادت الغيرة حين أُعلن الخبر الذي سيجعلها الأعلى قيمة في بيت النبوّة، حتى على الغالية عائشة نفسها، الأرض المصريّة حُبلى، والنبي ينتظر منها أن تضع ولده الأوّل، الذي لو قُدِّر له أن يعيش لتغيّر تاريخ الدنيا.
بعد مرور سنة على عيشها في المدينة، أُعلن عن حمل مارية، فكان الفرح شديداً على النبي الذي بلغ الستين، وفقد كلّ أولاده عدا فاطمة الزهراء، وفي شهر ذي الحجّة ولدت ذكراً أسماه النبي إبراهيم، كانت فرحته به عظيمة، إلا أنه مات قبل عامه الثاني.
على إثر هذا الحمل، تناثرت وقائع لخّصتها كتب التاريخ في مرويّتين، خلّدتا واقعةَ إفكٍ ثانيةً تعرّضت لها زوجة أخرى للنبي، والتي تنقل لنا أن النبي شكّ ليس فقط في زوجته القبطيّة حين كانت لاتزال حاملاً في إبراهيم، وإنما أمر بقتل ابن عمّها الذي كان يزورها كثيراً بدون مَحْرَم "كما كانت عاداتهم ببلاد مصر"، كما يحكي ابن كثير في "البداية والنهاية"، حتى وإن لم يُخضعه لأي تحقيقٍ مسبقٍ، ما يؤكّد أن الشائعات بلغت من القوّة أن ولّدت عنه قراراً غاضباً لم يستشر فيه أحداً، ولم يكن مستعداً لأن يستمع به لأي رأي.
هذه الحكاية وردت بتفاصيل مشابهة في "المعجم الأوسط" للطبراني، بأن بعض الناس قالوا بحقِّ مارية وابن عمّها "عِلْجٌ يأوي إلى عِلْجَة"، وأن النبي ظلّ "منه (إبراهيم) في شك حتى جاءه جبريل - عليه السلام - فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فاطمأنَّ إلى ذلك". بخلاف القصّة الأولى التي كان بطلها "عليّ"، يحكي المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار"، روايةً أخرى، أن الرسول دخل يوماً على أمّ إبراهيم، فوجد عندها نسيبها الذي قَدِمَ معها من مصر (مأبور) فـ"وقع في نفسه شيء"، ولمّا خرج من دارها لقي عمر بن الخطاب، ولمّا أخبره دخل الفاروق شاهراً سيفه، فكشف مأبور عن نفسه فإذا به "ليس بين رجليه شيء"، رجع عُمر وأخبر الرسول بما رأى، فأجابه مؤكّداً أن جبريل تنزّل عليه للتوّ وأخبره أن الله "برّأها وقريبها، وإن في بطنها غلاماً مني، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسمّيه إبراهيم، وكنّاني بأبي إبراهيم".
آيات التبرئة.. لِمَن؟
"إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْك عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النور: 11)، بحق مَنْ نزلت هذه الآيات؟ لو وجّهنا هذا السؤال لكلّ مسلمي الأرض السُنّة لأجاب 99.99% منهم بأنها أوحيت من الله تبرئةً لأم المؤمنين مما قاله بحقِّها بعض صحابة المدينة، ضمن القصّة الشهيرة لضياع عقدها في الصحراء، وتعطّلها عن مسير المسلمين من غزوة بنى المصطلق، وما قيل بعدها أن سرّ التأخر هو أنها قامت بالفاحشة مع صفوان بن المعطّل، ودائماً ما تستدعي أي مناقشة حول مدى مكانة السيدة عائشة في الإسلام، جملةً تقليديّةً عن عظمة عمل هذه السيدة التي تنزّلت آيات القرآن خصّيصاً، لتبييض ساحتها من إثم الألسنة الصحابيّة التي لاكت سيرتها، دون أن نعلم أن في الوجه الآخر من عملة الإسلام المذهبيّة آراء فقهيّة "مخفيّة" تؤكّد أن هذه الآيات لم تكن لعائشة وإنما جاءت كرامةً لمارية، كأحد التصدّعات الكثيرة بين السنّة والشيعة في تفسير آيات القرآن، والتي يبدو التئامها يوماً من سابع المستحيلات.
يقول الفقيه الشيعي علي بن إبراهيم القُمِّي خلال تفسيره لآية التبرئة، إن ظنّ أنها نزلت في عائشة هو "اعتقاد العامّة" (يقصد أهل السُنّة)، أما "الخاصّة" (يقصد الشيعة) فإنهم يظنّون أنها تنزّلت في مارية وليس في ابنة أبي بكر، وإمعاناً في إثبات وجهة نظره، أورد رواية وردت في بعض كتب الأحاديث السُنيّة كـ “المستدرك على الصحيحين" للحاكم النيسابوري، عن مدى تورّط عائشة في إثبات التهمة على مارية لحظات الاتهام.
الرواية تحكي أنه لما مات إبراهيم ابن الرسول حزن عليه حزناً شديداً، فجاءته عائشة تسأله "ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جُرَيْح (تقصد مأبور)"، علاوة على رواية أخرى تحكي أنه في وقت تكاثرت به شائعات أن ابن مارية ليس من صلب النبي، فقال أهل الإِفْك عنه "من حاجته إلى الولد، ادّعى وَلَدَ غيره"، دخل على عائشة يوماً وبين يديه إبراهيم، وسألها عن الشبه بينهما، فحملها "ما يحمل النساء من الغيرة" فأجابته "ما أرى شبهاً". وتنتهي كلا الروايتين بأن تدخّل عائشة كان سبباً في زيادة غضب النبي، وطلبه من ابن عمه أن يأتيه برأس قريب مارية، هذا الاتجاه لم ينح إليه "القُمِّي" وحده، وإنما شاركه به آخرون كجعفر الحسيني في كتابه "حديث الإِفْك"، وهاشم معروف في كتابه "سيرة الأئمة الاثني عشر"، والفقيه محمد حسين الطباطبائي في تفسيره للقرآن، وعبد الحسين شرف الدين في كتابه "المراجعات" وغيرهم.
يختلف الفقهاء الشيعة عن الفقهاء السنّة بالقول: إن آيات التبرئة من حادثة الإِفْك نزلت في مارية القبطية وليس في عائشة بنت أبي بكر.
الأمر الذي استدعى ردّاً سنيّاً بالطبع، يقول شحاتة صقر في كتابه "أمّنا عائشة"، إن هذه الرواية المتداولة "متفقٌ على ضعفها"، وأن الإمام الألباني أوردها ضمن سلسلته عن الأحاديث الضعيفة، ولا يمكن الاعتماد عليها البتّة في الإقرار بأي حقيقة تاريخيّة.
صورة المقال لـChristoph Keil
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...