في أوائل التسعينيات انتشرت في إيران صورة على أكتاف رواية ضبابية زعمت أنها للنبي حينما كان فتى يافعاً، بعدما اعتمد رسّامها المجهول على حجر أثري كتَبَ فوقه بحيرا الراهب صفاته حين قابله بالشام وتنبأ بنبوءته. لم يكن غريباً أن تكون واحدة من أكثر الملصقات مبيعاً في طهران وقم، وأن تُعامَل بشكل "أيقوني"، فعُلقت بالشوارع وعلى الجدران، وصُنعت منها القلائد والتمائم، ومنها انتشرت إلى العالم كله، ما خلق موجة عارمة من الجدل بين جيرانها.
كانت ردة فعل البلاد العربية استنكاراً مهولاً ليس فقط بسبب هتك ما اعتُبر ثوابت تحريم تجسيد الأنبياء، ولكن للحالة غير الجدية التي يبدو عليها فتى الصورة، والورد الذي طرز عمامته وتعرية كتفه اليسرى، معتبرين إياها إهانة بالغة لمقام النبوة.
وفي 2004 كشفت المجلة الصادرة عن المعهد الدولي لدراسة الإسلام في العصر الحديث (ISIM)، في جامعة لايدن، أن هذه "الأيقونة" ما هي إلا إعادة تدوير لصورة قديمة التقطها المصور التشيكي رودلف لينهرت، الذي جاب شمال إفريقيا بين العامين 1904 و1906 محاولاً طرح ألبوم يُظهِر وجهاً مغايراً لهذه البلاد. فأهمل المعابد والقصور والتماثيل، وركّز على المراهقين واليافعين، بمجموعة صور لاقت رواجاً واسعاً، حيث نشرتها عدد من صحف الغرب، وعلى رأسها "ناشيونال جيوغرافيك"، في أحد أعدادها لتقديم نماذج للشباب العربي، دون أن يدري أن صورته بعد عشرات السنوات ستُعلق طلباً للبركة في بلاد فارس.
أما ما فشلت المجلة في كشف تفاصيله، هو الحلقة المفقودة التي حولت "مراهق تونس" إلى "النبي في أول بعثته"، إذا ما استثنينا أن اسمه أيضاً كان "محمد".
أقدم رواية تاريخية حكت عن وجود صورة للرسول، يرويها المسعودي في الجزء الأول من "مروج الذهب"، عن التاجر العربي الذي رحل إلى الصين، حيث قابل الإمبراطور، والذي أخرج له صندوقاً خاصاً يضم صوراً لجميع الأنبياء، لم يستثن منهم الرسول محمد الذي ظهر في إحدى الصور وهو على جمل ومن حوله صحابته.
ويورد الكاتب محمد عبدالعزيز في كتابه "الإسلام والفنون الجميلة" الفصل الأول من هذه الراوية، بأن إمبراطور الصين كان مهتماً جداً بالإسلام، حتى أنه أرسل إلى النبي وفداً خصيصاً لمقابلته ورسمه.
وفي إحدى الحلقات التليفزيونية للدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية الأسبق، أكد أن وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة سافر إلى بكين وبذل جهداً كبيراً لاقتفاء أثر هذه الصورة المزعومة دون جدوى.
صوّر المسلمون أشهر أحداث السيرة النبوية: من الولادة واختيار مكان الحجر الأسود إلى تلقي الوحي والإسراء والمعراج
تأثر فنّ المنمنات الذي صوّر الرسول بالمدرسة "الأم" العراقية، وبالثقافات المحلية للعالم الإسلامي
البدايات كانت في العراق
برع العرب مبكراً في فن المنمنمات أو "التصاوير" كما أطلقوا عليه، وهو رسم صور شارحة لأهم مواقف الكتاب وجُمله، توضع بعدها بين ثنايا الصفحات أو تُترك كلوحة فنية منفردة. ونجحت الحركة الأم في العراق، في القرن السادس الهجري (الثاني عشر ميلادي)، بتأسيس مدرسة فنية، يرجح أنها بدأت في شمال العراق في الموصل، نشأت بعدها مدرسة في بغداد (في القرن السابع الهجري، الثالث عشر ميلادي)، اشتهر منها محمد بن أحمد بن ناصر الدين، ويحيى بن محمود الواسطي وعبد الله بن الفضل، وقدموا تصوير كتب مهمة مثل: كليلة ودمنة، وعجائب المخلوقات، وكتاب الأغاني، والترياق والبيطرة، ورسائل إخوان الصفا، ومقامات الحريري.اعتمدت هذه المدرسة مبادئ متمثلة في الرسم ببُعدين، وإعطاء مسحة عربية لملامح الشخوص المصورة (لحى وعمائم)، حتى لو كانوا ملائكة أو عجم، ومالت للواقعية والإكثار من الزخرفة في الملابس، واستخدام الألوان القوية، وامتازت ببراعة توظيف الفراغ، وتوازن الكتل والأجسام فيها. وتأثرت بها مدارس التصاوير التي ازدهرت بعدها، كالمدرسة المملوكية في سوريا ومصر، ومدارس إيران وتركيا والهند. ومن فنّ التصوير أيّام المغول بعد تحولهم إلى الإسلام، واعتناق المذهب السنّي، تطورت المدرسة المغولية (الإيلخانية)، ولها ترجع مجموعة منمنمات، تعدّ أقدم مخطوطات وصلتنا جسَّدت رسماً لشخص الرسول بكامل ملامحه. تقول الباحثة الفنية وجدان علي في أطروحتها "تطور رسومات الرسول من القرن الـ13 حتى القرن الـ17"، إن الزعيم المغولي غازان خان، سابع الحكام المغول، بعدما تحول إلى الإسلام، أمر وزيره رشيد الدين بإعداد كتاب عن تاريخ المغول، وهو العمل الذي لم يتم قبل وفاته. وجرى تعديل الفكرة بعدها إبان حكم أخيه أولجاتيو لتشمل الموسوعة سيرة العالم بأسره، والتي خرجت إلى النور عام 707هـ/1307م باللغات التركية والفارسية والعربية، تضمنت "منمنمات" شارحة اتسمت بصفات ما يُعرف بالمدرسة المغولية التي تأثرت بميراث البغداديين، مع مسحة صينية تمثلت في الاهتمام بقواعد المنظور ومراعاة النسب للإنسان والحيوان، وحتى في نزوح ملامح الأشخاص وأشكال الثياب عن السمت العربي تدريجياً، وشملت لأول مرة في تاريخ الفن الإسلامي عرض صور واضحة للرسول في مواقف حياتية مختلفة. وكما يشرح وزير الثقافة المصري السابق ثروت عكاشة، في موسوعته للتصوير الإسلامي، إنّ هذا الكتاب الذي توزعت أجزاؤه بين الجمعية الآسيوية الملكية والمتحف البريطاني ومكتبات برلين وفيينا وإستنبول وإدنبره، يخبرنا عن المناخ الثقافي للملوك المغول. حيث يظهر فيه تأثير أعمال الإجلال الفني التي كانت منتشرة عند جيرانهم الآسيويين بحق نبييهما "بوذا" و"ماني"، علاوة على الرؤية النسطورية التي احتفت باللحظات الكبرى من حياة المسيح، والتي دخلت البيت المغولي مبكراً، فيكفي أن تعرف أن والدة كل من هولاكو وزوجته وأم أولاده، علاوة على ذراعه اليمنى وقائد جيوشه كتبغا نويان كانوا مسيحيين. "ميلاد الرسول"، محفوظة في مكتبة جامعة إدنبره في إسكتلندا
"الرسول يتلقى الوحي عن جبريل للمرة الأولى"، محفوظة في مكتبة جامعة إدنبره في إسكتلندا
"الرسول يمنع قومه من الشجار في الكعبة... ويختار مكان الحجر الأسود"، محفوظة في مكتبة جامعة إدنبره في إسكتلندا
معراج نامه
يقول الموقع الرسمي للمكتبة الوطنية الفرنسية، إن مخطوطة "معراج نامه" كتبها الأديب مير حيدرما بين عامي 1360 و1370، وتنقسم إلى قسمين: الأول تصوير لقصة المعراج وما شملتها من معجزات، والثاني تذكرة الأولياء للشاعر الصوفي فريد الدين العطار. وتضيف المكتبة، أن المستشرق الفرنسي أنطوان غالان ابتاع أجزاء من هذا المخطوط من الآستانة عام 1673م بـ25 قرشاً. فيما تؤكد الباحثة وجدان علي، أن الشاه "رخ بن تيمور"، ابن الأسرة التيمورية التي اقتنصت حكم فارس من المغول، اهتم برفع وعي قومه بالأدب والثقافة، فأمر بإعادة طبع كتاب "جامع التواريخ"، وحثَّ على إنتاج هذا الكتاب، الذي ظهر إلى النور في هراة؛ العاصمة الجديدة لخراسان، على يد الناسخ مالك بخشي الذي ترجمها من العربية إلى التركية، مزينة بـ57 صورة. حقق هذه المخطوطة ثروت عكاشة، وأصدرها في كتاب بمصر عام 1987 سبَّب جدلاً كبيراً بسبب ما احتواه من صور "جريئة"، وسُحب من الأسوق قبل نفاد طبعته الأولى.جبريل يحمل الرسول إلى الجنة حيث يقف على بابها الملاك رضوان... في مكتبة قصر توبكابي باسطنبول[/caption]
السيرة النبوية
المساهمة العثمانية جاءت في كتب السير النبوية المصورة، ووصلتنا نسخة كتبت عام 1388م، أمر السلطان مراد الثالث (الذي حكم من عام 1574م حتى وفاته في 1595م)، إضافة "المنمنات" إليها، فزوِّدت المخطوطة بـ814 رسمة، وترجمها من العربية إلى التركية مصطفى بن يوسف المولوي الإرزرومي (المعروف بالضرير) عام 1595م. وتعتبر هذه المخطوطة واحدة من أهم المخطوطات التي تم إنتاجها خلال العصر العثماني، وكانت بداية ظهور صورة الرسول بوجهٍ ممسوح في مثل هذه النوعية من المخطوطات.الرسول يصلي أمام الكعبة
لحظة وفاة الرسول، والحزن يكسو داره
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...