"البحر يغادرنا عندما نرحل"، هو عنوان شاعري - بدون شك – لمعرض تصوير ضوئي للصحفي الشاب مروان طحطح. إلا أنه، عبر مجموعته التي تضم 23 صورة بالأبيض والأسود، مُختارة بعناية مع صاحب الغاليري (زياد توبة)، يعكس مشاهد شديدة الواقعيّة حول العلاقة الشخصيّة للناس العادييّن، بهذا الحيز بالذات من الجغرافيا العامّة، التقطها بعدسته، بين أخرى كثيرة بالطبع، على مدار ثلاث سنوات ماضية، فظهّر عبرها رؤيته للمدينة وسكّانها، كذلك إحساسه بهم، تفاعلهم مع بعضهم البعض، على الكورنيش البحري، فحسب، كما يطرح تساؤلاً هامّاً عن فكرة المطابقة، من مغادرتنا ذواتنا نحو الجفاف، ومغادرة البحر لمشهد المدينة، وكأن رحيل البحر هنا يأخذ شكل الموت عطشاً.
"البحر يغادرنا عندما نرحل"، هو عنوان شاعري - بدون شك – لمعرض تصوير ضوئي للصحفي الشاب مروان طحطح. إلا أنه، يطرح تساؤلاً هامّاً عن فكرة المطابقة، من مغادرتنا ذواتنا نحو الجفاف، ومغادرة البحر لمشهد المدينة، وكأن رحيل البحر هنا يأخذ شكل الموت عطشاً.
برأيه، هنا تماماً يكمن العمل الاحترافي، أي في إيجاد الزاوية المختلفة ضمن المألوف للعين والواضح للمعاين، تلك التي تمنح الناظر والمتأمّل اكتشافاً جديداً ومثيراً هو صانعه وحده، بسحره فقط ودقّة مشاهدته. أخذ معظم مشاهده بين منطقتي "عين المريسة" و "الرملة البيضاء"، في بيروت، وقليلاً منها على شاطئ صور الجنوبي، لما تحتلّه هذه الأماكن في اليومي المُعاش من جهة، وما لها من رمزيّة من جهة ثانية، في الوعي واللاوعي الجمعي لسكّان العاصمة والبلد، كما في وعيه ولاوعيه هو أيضاً.
كيف إذن؟
بعد تجاوزه صف البريفيه، لم يشأ مروان أن يُكمل دراسته، كانت رغبته تجمح أكثر نحو تحقيقه لذاته خارج الجدران الأكاديميّة، التي تعلو وترتفع حتى تسدّ الأفق أمام خيال الفنان الفتي.
ابن علي، المصوّر المخضرم، حامل الكاميرا منذ عقود، وابن بيت غير تقليدي بمفاهيمه للتربية، حظي مروان بدعم أسري كامل فيما يخصّ اختياره الذي قد تجده الأغلبية الاجتماعيّة غير مقبول، كان لدى والده شرط واحد لا غير: أن يكون صبيّه المتمرّد صاحب قناعة بما سوف يصنع، وأن يقوم به بشغف من أجل أن يبدع، يبدو أن الامر تحقّق بالفعل، من خلال مسيرة بدأت في عام 2000، تخلّلها معرضان له، هما "خارج التركيز" ومدينة أين". كما عُرف كواحد من مصوّري الشارع الدائمين، في الحراك المدني والمظاهرات المُطالبة بالعدالة والكشف عن الفساد ومحاسبة الفاسدين، مع هذا البروفيل "الثائر"، لا تبدو "تيمة" (البحر) غريبة عن عالم الفنان، يشبهه من حيث مزاجه، تحاكي قضيته ضميره في ظلّ محاولات النظام انتزاعه، لمصلحة طغمة حاكمة تبتغي جعله للأغنياء فقط، وتتغاضى بوقاحة عن تلوّثه جرّاء واحدة من أكبر الأزمات البيئيّة في تاريخنا الحديث، ألا وهي أزمة النفايات، فهل يوثّق طحطح هنا، بشكل من الأشكال، الفضاء العام الوحيد الباقي للمدينة، هي التي تحاول أن تتمسّك به وتحافظ عليه بشقّ النفس، قبل اندحاره؟
حسناً، ربما. إذا ما اعتبرنا أن كل صورة هي بحدّ ذاتها وثيقة، حمّالة لألف كلمة.
نستشعر النفس الأرشيفي في معرض "البحر يغادرنا عندما نرحل" عبر اختيار الفنان مروان طحطح للونين حياديين، الأبيض والأسود، يمتصّان زرقة الماء والسماء على حد سواء،
ثم يأتي هذا النفس الأرشيفي الذي نستشعره عبر اختياره للونين حياديين، الأبيض والأسود، يمتصّان زرقة الماء والسماء على حد سواء، علماً أنها سمتهما الأكبر المشتركة. هكذا، يُصبح من السهل جداً أن تظن المتلقّية للمادة، إذا ما وضعت نفسها خارج الإطار الآني، أن بعضها موغل في القدم، أيام بيروت ما قبل الحرب، في زمن قبضايات كان أغلبهم من هواة رياضتي كمال الأجسام والسباحة، أتكلّم هنا خاصّة عن تلك المشهديات البانوراميّة التي لا تظهر فيها ناطحات سحاب المرايا، ولا حواف الحديد والباطون، بل فقط أفراد متوحّدون مع ذواتهم، أو يتقاسمون أوقاتهم بين مجموعة رفاق يهمّون باختراق صفحة الماء، خروجاً منها أو نزولاً فيها، أو يغوصون تحتها كأسماك زلقة، في نفي لمشاهد الحداثة القبيحة والحضارة المعدنية.
جدير بالذكر أن مروان قد توّج خبرته التي اكتسبها في الأزقة والطرقات بالمعرفة الأكاديميّة، فنال دبلوم في مجاله من فرنسا، التي عرض في عاصمتها باريس، كذلك في برلين، لذلك تبدو في صوره، ذات القياسات المختلفة، التقسيمات مدروسة بين الممتلئ والفارغ، الضوء والظلّ، أما محطات مراكز القوّة، فمدروسة، دون أن تُفقد الأعمال، ولا مرّة، عفويتها.
أخيراً، هو يقول إنه لدينا، في لبنان، جمهور مُحبّ للصورة، لكننا ما زلنا نفتقد لثقافة عميقة وشاملة حول فنّ الصورة، كحقل إبداعي قائم بحدّ ذاته، غير أن الصور معروضة بأسعار يمكن القول عنها أنها غير مرتفعة بتاتاً، مقارنة مع سوق يعتبر بيع وشراء نتاجات الفنون حكراً على النخب، مع وجود صالة حديثة النشأة ومنفتحة على الفضاء الفني العام كصالة Tree of art ، والتي يضع القيّم عليها نصب عينيه، خلق مساحة تفاعلية في متناول الكل، حيث يبدو الاهتمام بالفن الجاد، كواحدة من أجمل لوحاته، حيث يظهر طفل في قارب صغير، وسط الماء اللانهائي، يجدف بيديه الضعيفتين، محاولاً النجاة من التشابه، حيث لا أمام ولا خلف، إلا الماء العاري فحسب.
تُعرض اللوحات الآن في الغاليري الكائن بالأشرفية، ويستمرّ العرض حتى الـ 29 من الجاري، مع الإشارة إلى إمكانية التمديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...