كانت زاويتي المفضلة لمقابلة السوريين بين 2012 و2014.
التقيت في تلك الزاوية في فندق الليوان بأنطاكيا التركية سوريين من مختلف المناطق والمدن والقرى.
التقيت عبد الرحمان وعبد القادر، وميسرة، ورامي، وأبو حمزة. التقيت الادلبي، الرقاوي، الديري، الحموي، الدمشقي، الحلبي، الحمصي وغيرهم.
تكلموا عن كل شي، وتناقشنا في كل المواضيع: السياسية والمدنية. العسكرية والإنسانية. وكان النقاش ينتهي دائماً بالأسئلة الشخصية وأهمها السؤال عن وضعي الاجتماعي: لماذا لم تتزوجي بعد يا هويدا؟
أضحكتني تعليقاتهم كثيراً، حتى البعض منهم كان يعتبر مسألة عزوبتي أهم من أحداث سوريا والربيع العربي.
هناك، في مبنى الليوان، أو القصر الأثري القديم، الفرنسي التصميم، سكن أول رئيس سوري منتخب صبحي بركات مدةً خلال الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. كان من الأعيان البارزين في أنطاكيا، وزعيماً للمقاومة ضد الفرنسيين خلال الثورة التي مهدت للحرب التركية-الفرنسية.

تحول القصر الأثري بعد عدة سنوات إلى فندق من أربعة طوابق و24 غرفة صغيرة، تتسع الواحدة منها لسرير وطاولة للكمبيوتر. عند مدخل الفندق مطعم يتسع لخمس طاولات، وقد وجدت زاويتي المفضلة فيه للتعرف إلى أشخاص أتوا من سوريا لم أكن أحلم يوماً بلقائهم والحديث معهم في أمور كانت محرمة في سوريا قبل 2011.

هل قادني القدر لهذا المكان، أم هي الصدفة جمعتني بنشطاء وأطباء ومهندسين ومدنيين ورجال دين ورؤساء عشائر أتوا ليناقشوا المستقبل والربيع السوري الذي تحول لاحقاً إلى كارثة سورية؟
***
بداية تعارفنا كانت افتراضية، تواصلنا عبر سكايب لدى انطلاق التظاهرات في 2011 خلال تغطيتي حوادث سوريا.
كانت دردشاتنا عامة، عن حجم التظاهرات وعدد المشاركين فيها والشعارات التي رفعت خلالها. يعود المتظاهر منهم بعد التظاهرة للحديث بحماسة عن الشعارات التي رددها، أو عن أحداث طريفة أو مؤلمة حصلت معه. آخرون كانوا يتحدثون طويلاً عن سوريا ما بعد الثورة، عن اقتراب سقوط بشار الأسد أو عن أحلامهم البسيطة بالخطبة أو الزواج أو دراسة الإعلام.
حينذاك، لم تكن أمالي بلقائهم كبيرة بأي مكان في العالم، هم في سوريا وأنا في لبنان، والطريق إلى سوريا صعبة.
هي ممكنة، لكنها عسيرة ومتعبة وتتطلب اجتياز الحدود من لبنان أو تركيا. ثم أصبحت مستحيلة بداية عام 2012، بعد موت أنطوني شديد، مدير مكتب النيويورك تايمز في بيروت حيث أعمل. توفي خلال مهمة صحفية في إدلب، انتهت بفاجعة كبيرة أفقدتنا أنطوني وهو يعبر من إدلب إلى الحدود التركية.
هل هو القدر أو الصدفة أن يختار أنطوني فندق الليوان في أنطاكية لينزل فيه قبل وفاته بأيام قليلة؟ هل اختار الفندق بسبب تاريخه وميزة مكانه؟ أم كان الدافع عشقه للأرضيات الفسيفائية، التي تزين الفندق؟ أم أرادها ثورة ضد الانتداب؟

حملت الغرفة الرقم 203 محلاً خاصاً في قلوبنا. غرفته المتواضعة التي أقام فيها لعدة أيام قبل انطلاقه في رحلته الأخيرة لإدلب. تحولت خطوات أنطوني ورحلته إلى ذكريات أخيرة. وتحولت أيضاً كل اللحظات التي عشناها بعد ذلك التاريخ إلى ذكريات أخيرة.
لقاءاتي ودردشاتي ومقابلاتي مع السوريين الذين التقيتهم باتت ذكريات أخيرة.
وفجأة، أصبحت زاويتي في الليوان خالية.
***
بعد موت أنطوني، تكررت زيارتي لمدن تركيا وأنطاكيا بشكل خاص بين 2012 و2014. أصبح فندق الليوان المكان المفضل لي ولفريق النيويورك تايمز لما يحمله من ذكريات. خلال هذه الرحلات، قابلت وجوه الأصوات التي اعتدت الحديث معها عبر سكايب.
فبعد دردشات السكايب الطويلة، شعرتُ وشعروا أنه من الضروري أن نلتقي. كانت أنطاكيا، المدينة القريبة من الحدود السورية، هي المكان الأفضل والأقرب للقاء وإجراء المقابلات.
وكما حديثنا الافتراضي، كان حديثنا في أنطاكيا عن كل شيء. عن سوريا المستقبل. البعض أراد سوريا أن تكون بيروت المستقبل، البعض الآخر أرادها أن تصبح مسجداً مصغراً. حلموا بالعيش من دون شعارات سوريا الاسد، الشعار الأشهر في بلدهم.
آخرون أرادوا ممارسة حريتهم ببساطة، وطبعاً البعض منهم أراد عسكرة التحرك والتسلح، مرددين مقولة جمال عبد الناصر الشهيرة، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
***
بداية سلسلة اللقاءات كانت بين 2012 و2013، كنا نجلس في الزاوية نفسها. لم تكن حينذاك مظاهر التشدد والتدين قد ظهرت في سوريا بقوة. كانوا سوريين من عدة مناطق، يدخنون، يحتسي بعضهم البيرة. حتى الملتزمون منهم لم يمانعوا لقائي في زاويتي التي يوجد بها بار يقدم كل أنواع المشروبات الروحية.

أذكر عبد الرحمن: كان ملتزماً وشديد الحياء، يحاول قدر الإمكان أن لا ينظر إلي مباشرة خلال المقابلة. كان واحداً من الذين تواصلت معهم داخل سوريا لأشهر. كان مقاتلاً في إحدى الجماعات المتشددة أنذاك في إدلب.
التقينا في فندق الليوان: هو شاب متوسط الطول، نحيف ذو ذقن معتدلة وعينين ملونتين، لا أستطيع حتى الآن تحديد لونهما.
جلسنا قليلاً في مطعم الليوان، لم يمانع ذلك، لكنه فضل الانتقال إلى مطعم آخر أكثر هدوءاً. قبعته الرياضية أخفت جزءاً من وجهه. استمر لقاؤنا نحو ساعتين.
لم يسألني الأسئلة المعتادة عن عزوبتي. تمنيت لو التقطت صورة. لكن لم يبدُ ذلك حينذاك ضرورياً، فقد كنا على يقين بأننا سنلتقي لاحقاً في سوريا.
عبد القادر صديقه دائم الابتسام. كان في مقتبل العمر من درعة. كنت أراه دائماً في ذلك الفندق. كان نشيطاً يتكلم بحماس كبير ويصغي إلي بحماس أكبر. ذكرني حماسه بمديري أنطوني، كان مستمعاً جيداً يصغي لكل قصة أرويها له.
أبو حمزة من إدلب، عسكري منشق أصبح قائداً لكتيبة لاحقاً. كان عكس عبد الرحمن تماماً، عيناه لا تفارقان تفاصيل وجهي. كان جريئاً، سيجارته لا تفارق فمه. كلما أفكر بأبو حمزة، تذكرت الدخان يغطي وجهه المتعب وأسنانه التي خسر نصفها.
أسئلتي له كانت عن السلاح والعسكر، بين جواب وآخر، يعود أبو حمزة إلى السؤال الإستراتيجي في الجلسة ويسأل عن عمري، ثم يسألني لماذا لم أتزوج. يغير الموضوع، ينتقل للفكرة الأهم ويردف: إذا دول العالم وأميركا تحديداً لم تساعد سوريا فستجدوننا كلنا قاعدة بعد سنوات.
كنت ابتسم، شعرت أن أبو حمزة يعيش في عالم آخر، يردد كلمات غير مفهومة.
في زاويتي التقيت سوريين من حماة، البعض منهم أصبح شيخاً يصدر الفتاوى بين المقاتلين والمجاهدين. كانوا يجلسون في ذلك المطعم يراقبون الناس وهم يشربون البيرة أو النبيذ.
لم يمانعوا التدخين ولكنهم لم يشربوا. اوتيل الليوان كان دائم الازدحام، بصحافيين، عرب وأجانب، سوريين من كل الأطياف أتوا للكلام عن الثورة.
زاويتي كانت مزدحمة دائماً. وهناك سوريون متحمسون للحديث عن سوريا، عن المستقبل أو للقائي وجهاً لوجه بعد أشهر من التواصل عبر السكايب.
***
عدت إلى زاويتي عام 2017.
كانت هادئة جداً وكان الأوتيل شديد الهدوء، وكأن عاصفة مرت في ذلك المكان وذهبت.
المطعم مرتب، الكراسي في مكانها المعتاد، حجارة المكان القديمة كما هي، لكن الزحمة فارقت المكان.
أبو حمزة اختفى، صار في سجون النصرة.
عبد الرحمان وعبد القادر اختفيا أيضاً في مكان ما في الرقة.
آخرون فضلوا الهجرة إلى الخارج، البعض منهم انتهى به الأمر في السجن أو في العالم الآخر.
لم تعد زاويتي مستحبة لدى بعضهم، أو أصبح عبورهم من سوريا إلى أنطاكيا بعدما أغلقت الحدود نهائياً، مستحيلاً. تغيرت الأحاديث وأصبح العنف هو السائد.
سؤال واحد بقي يسأله من تعرفت عليهم خلال السنتين في زاويتي، أو من بقي منهم على قيد الحياة أو خارج المعتقل، لماذا لم أزل عزباء ولم أجد حتى الآن زوجاً لي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Thabet Kakhy -
منذ 16 ساعةسيد رامي راجعت كل مقالاتك .. ماكاتب عن مجازر بشار ولا مرة ،
اليوم مثلا ذكرى مجزرة الحولة تم...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياميا بختك يا عم شريف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممحاوله انقاذ انجلترا من انها تكون اول خلافه اسلاميه في اوروبا
Aisha Bushra -
منذ 6 أيامA nice article,I loved it..
رزان عبدالله -
منذ أسبوعشكرأ
حكيم القضياوي المسيوي -
منذ أسبوعترامب يحلب أبقار العرب، وهذه الأبقار للأسف تتسابق للعق حذاء المعتوه ومجرم الحرب ترامب!