ترصد "رباب النجار" في روايتها الثانية "الحرون" التحولات الاجتماعية التي طرأت على البحرين خلال السنوات الخمسين الماضية، ومقدار التغيّرات التي حدثت على أساليب العيش وطرقه، وكيف أثّرت على الوعي بالذات وبالآخر.
تتبّع الرواية حياة "جليلة" منذ طفولتها إلى ما بعد بلوغها الأربعين من العمر، وخلال هذا السنوات الطويلة يتدفق السرد ليروي تفاصيل وأحداث تعيشها البطلة وتتأثر بها، وهي الطفلة التي تطلق والداها بعد ولادتها مباشرة، فعاشت في منزل جدتها بعد زواج أمها وغياب أبيها.
"بيتنا يخلو من الأحداث، لا أفراح ولا أحزان. ترعرعت في حضن جدتي لأبي. كنت أحسبها أمي، أناديها أماه. علمت أنها ليست أمي قبل دخول المدرسة. لا أذكر كم كان عمري حينها. عرفت ذلك من الأحاديث التي تحكيها النسوة معها. أعرف الكثير من أسرار عائلتي وأسرار العوائل التي تسكن حيّنا. إذ منذ طفولتي كنت أسمع كل ما يُقال لجدتي. إذا خفّضت إحداهن صوتها أعلم أن الأمر يتعلق بأمور حميمة، ويدخل الحديث تحت تصنيف ما لا ينبغي أن أسمع".
لا أحداث كبيرة في الرواية، بل تكتفي الكاتبة بسرد منمنمات صغيرة، الواحدة تلو الأخرى، لتصف الحياة التي تعيشها بطلتها، وتقاطعاتها مع حيوات الآخرين، سواء جارات الجدة اللواتي يأتين إلى زيارتها، ويبحن لها بهمومهن، أو صديقات "جليلة" في المدرسة والتي لكلٍّ منهن حكايتها.
من خلال هذه التقاطعات تعطينا الرواية صورة تفصيلية عن وضع المرأة في ذلك الزمن، وهي صورة مشرقة، مختلفة كلياً عما آلت إليه الأمور لاحقاً، بعد أن بدأت المجتمعات تنحو إلى التشدد والانغلاق بفعل عوامل عديدة.
بالعودة إلى "جليلة" التي تروي ذكرياتها، فإننا نلاحظ أن الفقد الذي عاشته ألقى بظلاله على طبيعتها وتصرفاتها، فصارت تتعامل مع جدتها بطريقة قاسية، ولم تدرك إلا بعد سنوات طويلة مقدار الألم الذي سببته لها.
كما أنها اخترعت طقوساً لعزلتها، فانغمست في قراءة الروايات، وبنت عوالمها الخاصة، هاربةً من العالم الخارجي، وفرضت على نفسها وحدةً اختيارية لا تسمح لأحد باختراقها إلا لجدتها ولأخيها الأصغر من أمها "سامي"، الذي من بين جميع إخوتها قرر وصل ما انقطع بين أمه وبين أخته غير الشقيقة.
"غرفتي هي مخبئي. لا يدخلها أحد غير سامي. أنزوي فيها متى أشاء، كي أحتمي من العيون المحملقة. هنا ليس بمقدور أحد أن يراقب ما أفعل. أضع ثيابي أو أرتديها. أجلس خلف طاولتي أو استلقي على سريري. لقد منحتني العزلة القدرة على المضيّ. جعلتني أثق بنفسي وبعقلي وبقراراتي. ومكّنتني من النظر إلى ذاتي من خلالي، لا من خلال الآخرين. حين أكون بمفردي لا أشعر بالوحشة أبداً".
صورة البحرين قبل 50 عاماً مشرقة، ووضع المرأة فيها ليس كوضعها اليوم، مع ميل المجتمعات العربية إلى التشدد
"لقد آن الأوان لأتعلم كيف أحيا. لعل الخروج من مخبئي هو البداية"... رواية "الحرون" لرباب النجارلا يحضر الرجل في الرواية إلا لماماً، فالأب غائب كلياً، حتى عن ذكريات طفولة "جليلة"، ولا نعرف عنه شيئاً باستثناء أن الجدة تذهب شهرياً لزيارته ضمن طقوس غامضة لا تدع أحداً يشاركها فيها، وأما الأعمام فهم موجودون فقط حين يطرأ أمرٌ كبير، ويكاد يكون وجودهم في الرواية شكلياً، وأما الخاطبون فالكلمة الجازمة "لا" هي الرد الجاهز دوماً لجليلة عليهم. الرجل الوحيد الذي يستطيع اختراق عزلتها والدخول إلى أيامها هو أخوها "سامي"، والذي له حكايته المؤلمة أيضاً، فهو مصابٌ بالصرع، وهذا ما يسبب له الكثير من الإحراجات في عمله وفي حياته اليومية، وهو ما يشكّل عائقاً في أي مشروع ارتباط جديّ بينه وبين أي فتاة. من خلال سامي تلقي الرواية الضوء على معاناة هؤلاء الأشخاص ومقدار ما يتعرضون له من قبل المجتمع والناس، والنظرة التي ينظرون بها إليهم. تشير الكاتبة في لقطات سريعة إلى انعكاس الأحداث السياسية والتاريخية على حياة الأفراد، وكيف تأثروا بها، وبالأخص منها حرب الكويت (1990-1991)، التي وصل تأثيرها إلى البحرين، كما تشير إلى طقوس الحياة اليومية وطقوس المناسبات الدينية التي تجري في مدينة المنامة. وترصد الرواية التحولات الاجتماعية التي طرأت على المدينة، بموازاة رصدها للتحولات التي تطرأ على شخصية "جليلة" متتبعةّ نضجها، وتعرّفها على ذاتها وهويتها وكينونتها وحقيقة العالم من حولها، "هبّ نسيم لطيف حرك أغصان البنسيانة، رغم أننا في ذروة الحر، فوقع في نفسي شعور طيب لم آلفه من قبل، ورضيت بما آل إليه أمري. لقد آن الأوان لأتعلم كيف أحيا. لعل الخروج من مخبئي هو البداية. لِمَ لم يخطر هذا الأمر على بالي من قبل؟". رباب النجار، كاتبة بحرينية، لديها روايتان: "زناب"، و"الحرون". الناشر: المؤسسة العربية للدراسات/ بيروت عدد الصفحات: 272 الطبعة الأولى: 2017
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...