في ليلة 18 أيار/مايو عام 1944، قامت قوّات جوزيف ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي، باحتلال شبه جزيرة القرم، وهجّرت الآلاف من سكانها التتار. وبعد أن كانوا يشكلون غالبية القرم حتى الحرب العالمية الأولى، وصلت نسبة التتار إلى 1% في ثمانينيات القرن الماضي 1%، فيما تقدر هذه النسبة اليوم بـ12%. حمل التاريخ قروناً من الغزوات والتغيرات السياسية للقرم، كان آخرها قبل 3 سنوات، وبالتحديد شباط 2014، عندما قامت القوات الروسية وبأمر من بوتين بدخول القرم والسيطرة عليه خلال أسبوعين فقط. ومع كلّ تغيّر، تأثرت أحوال التتار ومصيرهم.
تتار القرم
يقال إنّ أصل التتار يعود إلى قبائل المغول التي هاجرت إلى المنطقة، واعتنقت الإسلاام، ولكن ما لا خلاف عليه هو أنهم كانوا عرضة للتجاذبات السياسية والحربية على مدى قرون. نجحوا عدة مرّات بإنشاء دولة خاصة بهم. فكان تأسيس أول دولة لهم سنة 1441م، وقد نجحت بفضل تفاهم مع الإمبراطورية العثمانية التي وصل نفوذها إلى أطراف المنطقة. استمر حكمهم المستقل ما يزيد على ثلاثة قرون، إلى أن غزتهم سنة 1783م كاترين، ملكة روسيا العظيمة، وأحكمت سيطرتها على القرم، وضمتها إلى الإمبراطورية الكبيرة. ومع غزوة الملكة كاترين، تغيّرت التركيبة الديموغرافية للقرم، حيث قدم سكان جدد، ومع أن الحكم الجديد حافظ على مكانة الطبقة النافذة ورجال الدين التتار، الذين اعترفوا بدورهم بالسلطة الروسية، إلا أنّه دفع الكثيرين للهجرة بأعداد كبيرة إلى أرجاء الإمبراطورية العثمانية. تجددت موجات هجرة التتار من شبه جزيرة القرم بسبب الحرب التي اندلعت بين عامي 1853 و1865. وبعد عقود، في سنة 1917م، إبّان سقوط الإمبراطورية الروسية، أعلن التتار استقلالهم مرة أخرى في شبه جزيرة القرم، إلّا أنّ هذا الحلم لم يدم طويلاً وسرعان ما قضى عليه الثوّار البلاشفة. جدير بالذكر أنّه عندما أعلن التتار استقلالهم، حصلت المرأة التتارية على حق التصويت في نفس العام (1917)، وكان بذلك أولّ بلد مسلم يحقق تلك الخطوة.حكم لينين وستالين
عاش التتار فترة ذهبية خلال حكم لينين. فالرئيس السوفيتي توصّل إلى اتفاق ناجح، اعترف فيه بالتتار كسكان أصليين لشبه جزيرة القرم، ومنحهم حقّ إقامة جمهورية سوفيتية ذاتية الحكم. وخلال هذه الفترة كان للتتار برلمان ولغة رسمية ومدارس خاصة بهم. إلا أنّ ذلك لم يدُم، فمع بدايات الحرب العالمية، ومع دخول القوات الألمانية إلى القرم، خلال الحرب العالمية الثانية، رأى بعض التتار في العدّو الألماني مخلصاً، فتعاونوا مع الجيش الألماني قبل أن ترجح كفّة الروس وينتصروا.تاريخ من التهجير والحروب والتقلبات السياسية، لم يمنع التتار من أن يقدموا ثقافة خاصة وفريدة
كيف يتذكر التتار التهجير القسري على أيدي ستالين، ولماذا يحمل إحياء هذه الذكرى رسالة مصيرية لهم؟قام جوزيف ستالين بعد وقت قصير من وصوله إلى سدّة حكم الدولة السوفيتية، بإنهاء المكانة الخاصّة التي منحها سلفه للقرم، وقام باعتقال قادة التتار والمفكرين والشعراء، وهجّر منهم الآلاف إلى سيبيريا، وجاء ذلك بتهمة تعاون التتار مع الألمان، أعداء الاتحاد السوفيتي في الحرب.
وكانت حجة التعاون مع النازيين مبرراً للقرار الشهير الذي أصدره ستالين في أيار/مايو بحق التتار في القرم، حين اختار التهجير كعقاب لمن تعامل مع الألمان وهكذا حكم جماعياً على ما يقارب الـ 190 ألف من التتار في القرم.
انتشر الجنود الروس وعناصر الوحدات الخاصّة الروسية ليلة 18 مايو/أيار من سنة 1944 في شبه جزيرة القرم بعد تصديق ستالين على قرار التهجير.
وعلى مدى 3 أيام متتالية قام الجنود، الذين كانوا يملكوا عناوين ومراكز التتار، بتجميعهم في الساحات ومن ثم استقداموا قطارات وناقلات لتهجير الأغلبية الساحقة من تتار القرم إلى آسيا الوسطى وتحديداً إلى أوزباكستان.
الهوية التتارية للقرم
عمدت السلطة الروسية بعد طرد التتار من القرم، إلى تغيير المعالم وأسماء المناطق والمدن، وحاولت إزالة الهوية التترية، وتمّ منع عودة التتار إلى شبه الجزيرة. كذلك كُتِبَ تاريخ التتار من وجهة نظر لم تنصفهم، ركّزت على هويتهم الحربية، ونشرت الاعتقاد بأنّ همهم الأول كان الإغارة على المناطق المجاورة لهم. على الرغم من كل ما حدث لتتار القرم من المآسي بعد سنة 1944، نشأت لهم حركات قومية في المنفى، وطالبوا من خلالها العودة إلى بلدهم الأمّ الذي هجرّوا منه قسراً. في عام 1967، حصل التتار على حقوقهم الدستورية، دون أن يسمح لهم، رغم ذلك، بالعودة إلى مواطنهم في القرم. خلال هذه الفترة برز اسم مصطفى جميلوف الذي شُبه بنيلسون مانديلا بالنسبة لتتار القرم، الذي قضى حوالي عشرين عام في السجون بسبب مطالبته الدائمة بعودة التتار إلى القرم. أمّا الحدث الأبرز الذي اتصل باسم جميلوف هو اضرابه عن الطعام سنة 1975 لأكثر من 300 يوم. حققت تحركات التتار ومواقفهم القومية والمطالبة الدائمة بالعودة إلى القرم صدى واسعاً في الإعلام العالمي وفي الساحات الدولية واستمرّ هذا الوضع حتى سنة 1989، عام العودة، واستمر إلى ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991. ولكن التاريخ السياسي لم يحصر الثقافة التترية في هوية واحد، بل اتسمت بتعددية عبّر عنها فنانون وكتّاب تتار في أعمالهم.هبة روسية وعودة بعد طول انتظار
عام 1954 وهب الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشيف القرم إلى أوكرانيا، وساهمت هذه الخطوة بزيادة عدد السكان الأوكرانيين الذين استقدموا للقرم للعمل بسبب نقص اليد العاملة. وبذلك تغيرت مرة أخرى تركيبة شبه الجزيرة، وازداد فيها العنصرين الروسي والأوكراني، مما حجّم حضور التتار إلى حدّ كبير. تكلل نصر التتار عام 1989 حين أصدرت السلطات السوفيتية قرار يُمكّنُهم من العودة إلى القرم، فعاد عشرات الألاف من التتار من أوزباكستان وتركيا وأوروبا إلى القرم. وبعد ذلك تمّ إنشاء كونغرس خاص بهم، ولجنة تنفيذية أو ما سميّ بـ"المجلس"، وانتُخِبَ مصطفى جميلوف رئيساً له. مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، حقق التتار نصراً آخر عندما أصبحت شبه جزيرة القرم تابعة لأوكرانيا. وعاش التتار حياة مستقرة نسبياً، بنوا فيها علاقات جيدة مع جبرانهم. إلّا انّ الثورة التي عاشها الأوكرانيون عام 2014 لم تحمل في طياتها ما اختاره تتار القرم.
ثورة أوكرانيا
خلع الأوكرانيون عام 2014 الرئيس فيكتور يانوكوفيتش مع بداية ثورة أوكرانيا التي اختار التتار دعمها. وفي 26 شباط، تظاهروا في مدن شبه الجزيرة وحصل اشتباك أمام البرلمان مع أنصار حزب الوحدة المؤيدين لروسيا. في اليوم التالي، أي 27 شباط، غزت روسيا شبه جزيرة القرم، وتمّ انتخاب رئيس حزب الوحدة سيرغي أكسيونوف رئيساً لحكومة القرم. اعتبر التتار أنّ ما جرى تزويراً وأن الانتخابات لم تكن صحيحة. في الجلسة الاستثنائية التي جرت لانتخاب رئيس الحكومة صوت البرلمانيون لصالح إجراء استفتاء في القرم حول الانضمام إلى روسيا. إلا أنّ تخوّف التتار من الحكم الروسي المباشر، والعلاقة التاريخية السيئة بين السلطة الروسية وشعب التتار، خاصة قرار ستالين، شجّعت التتار أن يقفوا معارضين للإستفتاء. خرج التتار إلى الشوارع ودعوا إلى مقاطعة الاستفتاء الذي جرى في 16 أذار 2014 والتي أتت نتيجته مخيبة لأمال التتار، حيث كانت لصالح بوتين. بعد يومين وقع بوتين معاهدة تقضي بجعل القرم جزءاً من روسيا الاتحادية، واحتفل المؤيدون بهذا الحدث في القرم، كما تم تقديم التوقيت ساعتين ليتلاءم مع موسكو.بوتين والذكرى 73
يمثّل تتار القرم ذو الأغلبية المسلمة نحو 12 في المئة من سكان شبه جزيرة القرم اليوم، ويبلغ عددهم نحو 243 ألف نسمة، من كامل السكان البالغ مليوني نسمة، ويتكلموا لغة تركمانية خاصّة بهم. بعدما ضمت شبه جزيرة القرم إلى روسيا سنة 2014، تم إغلاق مجالس التتار وكذلك التلفزيون الوحيد الذي كان يبث بالتتارية، كما حذّرت السلطات الروسية من القيام بأية أنشطة متطرفة في ذكرى إحياء تهجير التتار على أيدي ستالين. وفي حين قام الرئيس الروسي بوتين ببادرة تجاه الأقلية التتارية المسلمة، ووقع مرسوماً لإعادة الاعتبار لهم، يبقى أنْ تثبت أفعال السلطات الروسية أنّ هذه المراسيم ليست مجرد حبر على ورق، فبوتين بعد توقيع المرسوم قام بمنع جميلوف من دخول القرم لمدّة 5 سنوات، تخوفاً من نفوذه وشعبيته. يصادف يوم 18 أيار/مايو الذكرى الـ 73 لتهجير التتار تحت حكم ستالين، وهي ذكرى لحادثة هي الأفظع في تاريخ التتار في القرم. ومع إحياء هذا التاريخ المأساوي، هل يكون للتتار في شبه جزيرة القرم مستقبل تعيش فيه الأجيال القادمة بكامل حقوقها، مستقلة عن تقلبات السياسة وصفقاتها، دون خوف من تهجير أو تمييز أو حروب؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...