ظهرت شخصية الشيوعي في الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية بصورة لا تخلو من تناقض ومفارقات، تفاوتت تبعاً لحجم المراهنات السياسية، والتصدعات في بنية الحكم، واختلاف الشعارات والأيدولوجيات التي تعلنها الدولة.
في أكثر من فيلم، ظهر المناضل الشيوعي كشخص انتهازي موصوم اجتماعياً، أقرب لشخصية كاريكاتورية يسخر منها الآخرون، ويعيش حالات هذيان وعصاب بعيداً عن واقعه. فشخصية حلمي "محمد صبحي" في فيلم الكرنك (1975)، إخراج علي بدرخان، تعكس موقف شاب جامعي ينتمي لليسار في ستينات القرن الماضي، يدين فترة الحكم الناصري، ويكشف عن تناقضات السلطة التي ترفع شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، لكنها تتصرف على النقيض منها تماماً. وفي داخلها مجموعات انتهازية تقمع العناصر الثورية المنتمية لها، ولا تتطابق شعاراتها مع مواقفها السياسية.
ويصور الفيلم أزمة النظام في عدم إيجاد صيغة للديمقراطية، للتحول عن سلطة الإقطاع، والشرائح العليا من البرجوازية. وفي إشارة تخللها الفيلم، عبرت عن موقف استثنائي لبعض القوى اليسارية، ترفض تلك الأخيرة الاندماج في تنظيمات السلطة، وتحل منظماتها السياسية الخاصة، كما حل الحزب الشيوعي المصري نفسه، لصالح تنظيم الدولة.
يبدو الفيلم برأي مصطفى السيد، أحد أعضاء الاشتراكيين الثوريين، جزءاً من حملة التصفية السياسية التي تعمّدها السادات، وانقلابه على الميراث الناصري، ومحاولة تشويه فترة حكمه، والتعمية عن إنجازاتها وتهيئة المجال العام للانفتاح الديمقراطي والحريات، التي كان يروج لها، والتي لم تكن سوى تبعية للولايات المتحدة، وتصفية القضية الوطنية، بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وخروج إسرائيل من سيناء، مقابل خروج مصر من أي دور إقليمي يضر بمصالح تل أبيب وواشنطن في المنطقة.
لكن السيد يضيف أن النموذج الشيوعي الذي تم توظيفه في الفيلم، كان ذكياً وملهماً، ومختلفاً عن السائد حينها. مناضل يقف على يسار السلطة، رفض التماهي معها، لم يخدع بإجراءاتها السياسية الإصلاحية، وعدم إنجازها لمشروع ديمقراطي.
تذكر خيرية البشلاوي، الناقدة الفنية، أن صورة اليساري، طوال الوقت في مصر، لم يكن لها مدلول إيجابي. لكن العداء الصريح مع السلطة تجلى منذ السبعينات، في عهد السادات، الذي وصفهم بالملحدين، وأطلق الجماعات الإسلامية لتشويههم وملاحقتهم. فبدأت الكتابات تتملق السلطة، وتطرح اليساري كمتهم يهدد السلم الاجتماعي، وكان منبوذاً من الجمهور.
وتقول البشلاوي عن فيلم فوزية البرجوازية (1985)، إخراج إبراهيم الشقنقيري، إنه بغض النظر عن تقديمه لصورة الشيوعي الذي يبني تحليلاته الطبقية على استعمال مصطلحات صعبة، مثل بروليتاري وديالكتيك، واستهداف الآخرين بشتائم سياسية، مثل انتهازي أو برجوازي وإمبريالي متعفن، إلا أنه يهمها من الفيلم: "موقف السلطة الذي عمد إلى تجريف وتصفية أي وجود سياسي في المجتمع، وإلهاء وعي الجماهير، واعتبار الأعمال الفنية في ظل مجتمع يدخل أكثر من نصفه تحت خط الفقر، خطوط دفاعية تقاوم الأفكار الشيوعية، وتجعل أتباعها منبوذين يستحقون الاحتقار، وتقاوم أي أفكار عن العدالة الاجتماعية. وهو ما تسلل في شخصية الحلاق، الذي ردد في نهاية الفيلم على هامش نزاع بين بائع فاكهة ومواطن، وصفه الأخير بالإمبريالي، بعد أن وجد فاكهته فاسدة، فقال: طول عمر حارتنا عايشة في سلام من غير لا يميني ولا يساري وصنع الفتنة واحد مش مننا".
لم تصمد شخصية الشيوعي كحال حلمي في فيلم الكرنك، المثابرة المؤمنة بحقوقها ومبادئها أمام واقع مغاير، يعلن عصيانه على أفكاره، ويستبدل بأبطال وتطلعات أخرى، خصوصاً مع تراجع النموذج الاشتراكي في المجتمعات العربية، واستلهام اقتصاد السوق وسيادة النموذج الأمريكي، الذي يحمل الوعود بالوفرة والرخاء.
فتقدمت بخطى سريعة قوانين جديدة وأفكار تعنى بالربح السريع، لتظهر شخصية الشيوعي بصورة متهالكة قديمة خارج التاريخ، يمضي الزمن حولها ويتغير، لكنها مثل قطعة أثاث قديمة في البيت، تستعيد على سطحها بعض الحنين وتنجذب لها لكنها غير مؤثرة في شيء.في أكثر من فيلم، تظهر شخصية الشيوعي بصورة قديمة خارج التاريخ، يمضي الزمن حولها، لكنها مثل قطعة أثاث قديمة في البيتساهمت عدة عوامل في بناء شخصية الشيوعي في الأعمال الفنية، ولم يكن الظرف السياسي أحد تجلياتها. إنما كانت مواقف بعض النجوم وكتاب الأعمال، الذين يكررون أنفسهم، ويعيدون إنتاج صورة نمطية للشيوعي، تحصره في كائن بوهيمي يتعمد بالجنس والخمر، ويردد كلاماً غير مفهوم، ويبدو شخصاً غير مألوف بملابس مهملة، وشعر أشعث، ورائحة كريهة ينبذه الجميع. وهذا الحال في أعمال يوسف معاطي وعادل إمام. فجسدت حالة "محسن" أحمد راتب، في فيلم طيور الظلام (1995)، إخراج شريف عرفة، هذا الواقع المضمر في ثلاث شخصيات تجمعهم الصداقة، وتحمل رمزية مكثفة عن الصراع الوجودي الذي يتنافس عليه سياسياً محاميان من أبطال الفيلم، فتحي نوفل "عادل إمام"، وعلي الزناتي "رياض الخولي". فالأخير ينتمي لإحدى الجماعات الإسلامية، يتملق كل السبل للنجاح والمساومة على مساحة من الحضور السياسي، تضمن له النفوذ. والأول رجل انتهازي، قريب من أحد الوزراء في الحكومة ويصبح مثل ظله وعقله الذي يفكر به للتقدم في السلطة. ومع صعود كل شخصية في الفيلم فنياً، وتتطورها مع تطور الأحداث وتغير ملامحها وسماتها، تبقى شخصية أحمد راتب "محسن"، الموظف البسيط اليساري، ثابتة لا تبدل موقعها أو يتبدل رأيها السياسي. ويظل مراقباً كل التحولات والصراعات التي تجري حوله من دون أن يكون طرفاً فيها أو مشاركاً ومؤثراً في أحداثها، كتعبير عن واقع اليسار الذي يبقى خارج المعادلة السياسية. هذا الفراغ الذي أصبحت تحتله شخصية الشيوعي في الوعي الجمعي لدى الجماهير، وخروجه من دائرة الحضور والتأثير، طرحته العديد من الأعمال بصورة فيها سخرية، لتعبر عن التغريبة التي يعانيها، وأفول عصره، وظهوره يتحدث بلغة لا يعرفها غيره، صاحبٓها التشويه والتنميط، على النحو الذي صوره فيلم السفارة في العمارة (2005)، إخراج عمرو عرفة. يقابل شريف خيري "عادل إمام"، داليا شهدي "داليا البحيري"، المنتمية لأسرة شيوعية، فتعرف عن نفسها بأنها من اليسار التقدمي. هنا، يرد خيري ساخراً: "شريف خيري من الجيزة"، وهو ما يتكرر في مشاهد أخرى عدة، منها مشهد اجتماعه بأسرتها، إذ تذكر والدتها أن داليا "بتحب غيفارا"، وابنها نادر "بيحب ماركس"، ليبدي الزعيم إعجابه "بالمناضل الشعبي شعبان عبد الرحيم". "الحالة الأخيرة تكثيف واضح لحالة انفصام تامة عن مفاهيم اليسار، وربما القضايا السياسية التي لم تعد تعني شيئاً" يقول الكاتب الصحافي والقاص هشام أصلان. ويضيف أن الشيوعية لم تعد تعبر عن واقع محدد، أو نموذج بعينه، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط أحزابها في تبعية للأنظمة المحلية. فضلاً عن القمع الذي دفع الشباب للبحث عن نموذج آخر، خارج كل هذه الأنظمة الشمولية، التي ظهرت قبل قرن. وبرأيه: "اختلاف نموذج الشيوعي، بعيداً عن جودة أو تقييم العمل الفني، لناحية كونه جيداً أو مبتذلاً، يمكن فهمه من خلال صورة المتلقي نفسه، الذي أصبح يقبل بمرونة وأريحية شديدة التعاطي مع صورة بهذا الشكل، من دون امتعاض. ويقبل بصورة يساري ومثقف أراجوز للسلطة، على عكس الجماعة الثقافية في الستينات وجمهورها". ثمة اتهامات صريحة وجهت إلى الشيوعيين من خلال الأعمال الفنية، ليس كونهم وصوليين أو انتهازيين فقط، بل ضلوعهم مثلاً في عمليات إقناع وتجنيد اليهود للهجرة إلى إسرائيل في أربعينات القرن الماضي مع نشوء الدولة الصهيونية، وهي التهمة التي تعد إدانة فادحة من الصعب تمريرها. "ملموم على شوية شيوعيين جننوه يا بابا"، قالت ليلى "منة شلبي"، بطلة مسلسل حارة اليهود (2015)، إخراج محمد جمال العدل. عندما فوجئت الأسرة المصرية اليهودية بتأثر ابنها بالدعاية الإسرائيلية، وتبنيه الرواية الصهيونية عن "أرض الميعاد"، كحجة للوجود في فلسطين. فتنظيم "حدتو" الشيوعي، كان مؤيداً لقرار التقسيم بسبب تبعيته السياسية للكومنترن وموقف ستالين، الذي كان يعتقد أن المستوطنات الإسرائيلية "الكيبوتز"، عبارة عن مجتمعات زراعية، لها سمات الملكية الاشتراكية، وأن اليهود في فلسطين من الطبقات العمالية الفقيرة. وجاءت حساباته مبنية على أن موالاة للاتحاد السوفياتي ستنشأ في الشرق الأوسط، وتتحول إلى جزيرة اشتراكية بالنسبة إلى المحيط العربي الإقطاعي. فكان أول من اعترف بقيام إسرائيل وساندها بالسلاح في حرب 1948. لكن على الرغم من ذلك، انتقد ألبرت آريه، مواليد عام 1930، وأحد أعضاء تنظيم "حدتو" المعروف باسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، ما سماه "تزوير التاريخ" في الأعمال الفنية. نافياً أن يكون الشيوعيون يهوداً أو غير يهود، قد تورطوا للحظة في الدعاية للصهيونية، أو تجنيد شباب إلى إسرائيل. وقال: "كنت أحد الشيوعيين الذين قاموا بتأسيس الرابطة اليهودية للمكافحة ضد الصهيونية، وأصدرت الرابطة عام 1947 بياناً جاء فيه أن الصهيونية عدو اليهود، لأنها تنتزعهم من أوطانهم وتفرض عليهم الاغتراب عن مجتمعاتهم، إلى ما يُسمى أرض الميعاد. وفي 3 مارس 1946، أصدر الطلبة الشيوعيون اليهود بياناً، وصفوا فيه ادعاءات الصهيونية عن أرض الميعاد والتراب المقدس، بالـ"خرافة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...