حين دخلت المعلمة الصف في أول يوم لنا في المدرسة، ساد صمت طويل بيننا. وزّعت نظراتها يميناً وشمالاً وصرخت بكل قوتها فجأة: "قيام"! فوقف طالب واحد. ثم أعادت الكرّة مرة أخرى: "ولك قيام يا بهايم"! لكن دون أية جدوى، حيث ظلّ واقفاً الطالب نفسه فقط. ستحتاج المعلّمة إلى خمس دقائق من التحديق في جدول أسماء الطلاب، لتكتشف بأن الطالب الواقف كان الطالب الوحيد الذي يفهم العربية بين الطلبة الأربعين.
بعد سنوات عديدة من ذلك اليوم الأول، سيهمّ الأستاذ بوغوص بشرح مضن لدرسه باللغة الإنكليزية، ثم سيسأل الطلاب: من منكم لم يستوعب الدرس؟ فرفع طالب كردي يده، ما يعني أنّ الأستاذ بوغوص سيعيد الدرس كله من جديد. ثم أعاد السؤال، فأعاد الطالب نفسه رفع يده معبراً عن عدم فهمه. وقتها أخرج الأستاذ بوغوص كلّ غضبه قائلاً: "لك يا إبني أنتِ كيف يِفْهَم، ولك يا أبني أنتِ تاخوذ درس الإنكليزي بالعربي من أستاذ أرمني وأنت كردي، ولك يا إبني لا الحق عليكي ولا عليّ"... ثم غرق الطلبة في الضحك.
بقيت المعلمة تحدّق في ورقة الأسماء، ثم قالت: "أحمد عبد القادر". لم يرفع أحد يده، فزاد ذلك من حنقها وراحت تصرخ: "ولك حتى أساميكون ما بتعرفوها، مين أحمد عبد القادر"؟ فلكز طالب طالباً جالساً أمامي: "ولك حمو، المعلمة تنادي على اسمك". يقف هذا جافلاً، فتقول له المعلمة: "شو إسمك؟"، يردّ بحياء: "حمو قادو". تبتسم المعلمة وتتابع: "ميشيل جرجس"، فلكز ميشو جرجسكو. تنادي: "خليل حسين"، فلكز خلو حسكو. "حنا كورية"، فلُكز حنوشي. بعد أيام قليلة ستنسى المعلمة مثلنا الأسماء المكتوبة على ورقة المدرسة الرسمية، وتصبح تنادينا بأسمائنا التي نحبّ، هكذا، إلى الصف الخامس.
***
كان الطلبة يجلسون بطريقة اعتيادية حتى الصف الثالث. في اليوم الثاني أو الثالث من ذلك العام، دخل رجل ملتح وسلّم بأدب بالغ على مدرّسة محجبة كنا نراها للمرة الأولى، ثم بدأ يردّد أسماء الطلبة: "حنّا، برصوم، فليب، شربل، حكمت، أنكيدو، شمعون... تفضّلوا يا أولادي". بعد ذلك سنعرف أن هؤلاء الطلبة مسيحيون، وهم سيحضرون درس الدين في غرفة خاصة بهم. سيجلسون مجتمعين في زاوية من الصف، وسنجلس "نحن" في القسم الآخر منه. سننقسم أثناء حصص الرياضة لفريقين، وسوف لن يأتي فيليب ليرافقني إلى المدرسة. سيذهب بصحبة برصوم، وسأذهب أنا برفقة عليكو الأعور. وسوف نصطاد بعضنا البعض في السواقي والحواري الضيقة. سيموت أبو برصوم بحادث سير، والرجل الملتحي سيأخذ الطلبة ممن ناداهم في المرة الأولى لزيارته وتعزيته. وحين سيعمّر أهل رضوان السمين غرفتهم الثانية، سيساعده فقط الذين لم يذهبوا لزيارة برصوم يوم وفاة والده. إلى أن يأتي يوم وأسأل مدرّس الدين: "أستاذ، هل سيدخل المسيحيون الجنة؟" فيردّ دون تردد: "كل من ليس مسلماً سيبقى خالداً مخلداً في نار جهنم".
بعد ذلك اليوم بسنوات كثيرة، حين سأهمّ بمغادرة البلاد، سأشتاق لدموع صديقي مالك كورية كما أشتاق لدمعة أمي. لكن بين لحظتَي جواب الأستاذ والحنين للصديق مالك، شقاء في الروح أليم، ومحنة في التجاوز لا توصف.
***
قبل ذلك بعام واحد، كانت المعلّمة قد طلبت منّا أن نجلب معنا في اليوم التالي عشر ليرات. أعطتنا ورقة صغيرة كي نسلّمها لأهالينا. لم نكن نعرف ما كُتب في تلك الورقة، فقد كنا بعد في عامنا الثاني من معرفتنا بالعربية. في الصباح، أخبرتني أمي بأن المعلمة تطلب عشر ليرات تبرعاً. لفّت أمي النقود بورقة وأدخلتها بشكل محكم في باطن جيبي. في الطريق إلى المدرسة قرّرت ألا أمنح الليرات العشر للمعلمة، وأن أدّعي نسيان الورقة في الحقيبة، وعدم اطلاع أهلي عليها، وذلك لأشتري بالمبلغ قطعاً إضافية من البسكويت لدى عودتي مساء.
في الحصة الأولى، طلبت المعلمة من جميع الطلاب أن يضعوا المبلغ والورقة على الطاولة. أنا لم أضع إلا الورقة. ثم أخرجت المعلمة عشرات الصور من حقيبتها وقامت بإلصاقها على اللوح الكبير في الصف. كانت صوراً لأشخاص يتفيّأون تحت خيام هالكة. صور لأطفال مشردين حفاة. أبنية كبيرة مهدمة وأمهات يتلقّين العلاج في المستشفيات. ثم بدأت تشرح: "لقد حدث زلزال رهيب في أرمينيا منذ يومين، ذهب ضحيته عشرات القتلى والمجروحين. لقد هدم الزلزال الكثير من أحياء مدينة يريفان وآلاف الناس ينامون في العراء، سوف تذهب تبرعاتكم لأطفال يريفان المجروحين..."، ثم همت بالبكاء على أطفال ذويها الأرمن.
حينها، أخرجت العشر ليرات من الحقيبة ووضعتها بصمت على الورقة. وحينها بالضبط، لما شاهدت دموع المعلمة الأرمنية، أدركت أن البكاء ليس فعلاً كردياً خالصاً. فدارنا في ذلك العام بالضبط، كانت تغرق بالدموع، دموع الأمهات والخالات والعمات والجيران، في ولائم البكاء الحسينية التي كانت تعقد ربيع عام 1988... كانوا يبكون أطفال حلبجة الذين ذبحوا في العراء أيضاً.
***
مع استلامنا كتب التاريخ والجغرافيا في الصف الخامس، كانت الأسئلة الكبرى قد بدأت تتغلغل في مداركنا. لا أعرف بالضبط إن كان هذا الأمر عامّاً، لكنه بالضبط ما كان يختلج في ذاتي. كتب التاريخ كانت تبدأ بسرد سيرة القبائل العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية حين انهار سدّ مأرب، وكيف انتشرت هذه القبائل في كافة مناطق "الوطن العربي"، حيث تعود كافة الأصول العرقية واللغوية في المناطق المختلفة من "الوطن العربي" إلى تلك القبائل المهاجرة من الجزيرة.
كان الأستاذ أحمد يشرح لنا ذلك والعرق يتصبّب من جبينه. يمسح نظارته بين اللحظة والأخرى. وكان يقول على مضض: "يعيش الشعب العربي على امتداد الوطن العربي الكبير، من أقصى المغرب العربي إلى أقصى الشرق في سوريا والعراق، وتحتل تركيا الكثير من المناطق العربية، من لواء إسكندرون إلى تخوم ولاية ديار بكر العربية". وأنا كنت أستمع باستغراب إلى شرحه هذا، فالأستاذ أحمد كان صديقاً لخالي وموالياً لحزب العمال الكردستاني. وسمعته في سهرات كثيرة في بيت جدي وهو يقول: "ديار بكر عاصمة كردستان الكبرى. وحينما نحرر أرضنا التي يحتلها العراق وتركيا وإيران وسوريا، سوف نعيد ديار بكر كعاصمة شاملة لدولة كردستان الكبرى. هؤلاء الأتراك والعرب احتلوا أرضنا، ولازم نرجعها، وكل كلامون عن الأرض العربية والتركية والفارسية كذب بكذب! هي أرض كردستان فقط...".
مضت سنوات، ولم أملك (نملك) الجرأة لسؤال المعلم: أي الكذبتين حقيقة، وأيهما كذبة؟ فيما بعد، أيضاً، اكتشفنا إمكانية أن تكون كلتاهما كذبة، وأن تكون كلتاهما حقيقة.
***
في النصف الثاني من الابتدائية، كانت طفولتنا شاهدة على أحداث كبيرة. فقبل عامين بالضبط، كان الجيش العراقي قد احتل الكويت، ثم بعد شهور بدأت الحرب ضد نظامه. وأثناء تلك الحرب تحديداً، قامت الثورة الكردية الأشهر في العصر الحديث. مساحات شاسعة من المناطق الكردية خرجت من سيطرة الجيش العراقي، وهاجر ملايين الأكراد إلى الجبال هرباً من القصف الكيماوي الذي كانوا يتخوفون منه. لم تمرّ تلك الأحداث بطريقة طبيعية في مجتمعنا الصغير ومدرستنا الابتدائية. فكل الأهل والجيران المحيطين بنا كانوا يتابعون شاشة التلفاز بشغف مساءً، ويهرعون لجمع التبرعات والأغذية للمهجّرين من أكراد العراق، حيث كان الآلاف منهم بثيابهم التقليدية يبيتون بيننا.
في تلك الأعوام كنا قد لمسنا شعورنا الأول بعوالم الهوية والمعنى والآخر. يهمس عمادو الأعرج بأذني: "هاني قال لسهام أنهم يحبون صدام حسين"، فنقوم بمقاطعته وعدم اللعب معه في اليوم نفسه. نتحدث عن أهلنا الذين كانوا يجهزون الأبواب لتغلق بإحكام. ورولا الشقرا تقول لتغيظنا: "بابا بيقول أنو صدام لو أجا لهون راح يضرب الأكراد بس". جرت الحرب بعد شهور، تقاسم الأولاد كلهم الألم حينما استضافت بيوتهم الفارين من ذويهم من هول الحرب التي جرت، لكن أحداً من أولاد المدرسة لم يقصّ حكاية ألمه على ولد آخر. كلّ كان يحسّ بأنه وحده يتألّم.
***
كما كان أهل القرى يهابون السيارات والأبنية العالية في المدن، كنا نهاب كتلة بناء المدرسة العالية وسط حيّنا. كتلة بنيّة اللون، صمّاء، وسط أكواخ بيوتنا الطينية المترهلة. كانت تقف وسط المفارق بين حارات الأكراد والأرمن والسريان في أقصى غرب المدينة. على واجهتها كانت صورة ضخمة لفرس وخيّالها مكتوب تحتهما، بين قوسين، "مدرسة حاتم الطائي العربي الابتدائية".
في ذلك المبنى اكتشفنا الأسئلة والمعاني والهويات والانتظام وروح المؤسسة والتنافس. في ذلك المبنى اكتشفنا غنى العالم الاجتماعي لبيئتنا المحيطة. وعلى الخطّ نفسه ذقنا طعم القهر الأول. قهر يبتغي الترويض أولاً، حيث كانت المسيرات الطويلة التي نخرج بها كطلبة أولى أعمال الترويض تلك. كل عام نخرج في عشرات المسيرات التي تجوب المدينة كلها، لكثير من المناسبات "الوطنية" و"القومية". في واحدة من تلك المسيرات التي خرجنا بها والتي من الصعب أن ننساها، كانت معلمة الصف الثالث تجهزنا للمسير حين سألت الطلبة إن كان يملك أحدهم صورة كبيرة في البيت ليحملها في المسيرة. فرفع محمد علي يده قائلاً: "نحنا بالبيت عنا صورة كبيرة"، فطلبت المعلمة منه أن يأتي بها مسرعاً. قفز محمد علي مهرولاً. دقائق قليلة وعاد ممسكاً بصورة رجل ستيني بشاربين كرديين كثين، قائلاً : "هاي صورة جدي تبع الصالون، وفي صورة لأبوي وأمي بغرفة النوم كمان". انفجرت المعلمة في وجهه قائلة: "ولك أنا عم قول صورة للسيد الرئيس، وأنت رايح جايبلي صورة جدك"! أقسمت المعلمة أن ترفعه "فلقة" حين نعود من المسيرة. ثم كانت حكايتنا الطويلة مع الصور التي ملأت حياتنا رغماً عنا.
***
لكن في عالم الدلالات، كان ثمة شيئان في مدرستنا لم نكتشفهما إلا فيما بعد: في ذلك الوقت لم تكن مؤسسة التربية والتعليم في بلادنا على قدر الترهّل والفساد اللذين ساداها فيما بعد. كانت صفوفنا دائمة النظافة، ودوام المدرسة بالغ الدقة. كانت التدفئة كاملة طوال أيام الشتاء، وكذلك الكتب والمواد التعليمية. كان ثمة عدالة بالغة في توزيع قوة الدولة في ذلك القطاع. فكل أولاد المدينة، على اختلاف منابتهم وأوضاعهم، كانوا يجدون في ذلك المبنى مكاناً مناسباً لتنفتح مواهبهم وقدراتهم. يقال ذلك وفي البال كل الترهل والتفسّخ والفساد الذي أصاب المؤسسة التربوية في أزمنة لاحقة، حيث تحولت من بيئة تنموية تعليمية تؤسس لقيام عدالة اجتماعية نسبية، إلى بؤرة للعمل التجاري وتطييف المجتمع الأهلي عبر خصصتها.
كانت المدرسة الابتدائية، بسبب جهل الكثير من المعلمين وعدم متابعة الأهل، مكاناً مقفراً للتعرّض للتعنيف. الذاكرة مليئة بصور ممارسة بعض المعلمين تجاه الطلبة، خصوصاً من أصحاب المستويات المتدنية منهم. كانوا يضعون الأقلام بين أصابعهم ويتمتعون بإيلامهم. كانوا يطلبون منهم أن يقفوا في طرف الصف وأن يرفعوا أيديهم. كان بعض المعلمين الأكثر عنفاً ينتفون الشعر من رؤوس الطلبة بطريقة عنيفة. وكان مدير المدرسة، ولأي سبب كان، يشد الطلبة من سوالف شعورهم.
مديرنا يملك محلاً وسط سوق المدينة الآن. بعد بدء الثورة بشهور، وقفت أمامه في المحل وسألته إن كان يعرفني؟ فردّ بالنفي. قلت له: "أنت كتير شاددني من سوالفي. أنت أول إنسان مطعميني الألم والعنف. لولا أنو ما بدي هالثورة تصير ثورة انتقام، كنت رح شدك من سوالفك، حتى تبكي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...