أثارت العلاقات بين إسرائيل والصين اهتمام العديد من الباحثين والخبراء، لما تحمله من تناقض وتعاون، في المراحل التي مرت فيها منذ الخمسينيات وصولاً إلى اليوم.
وعلى طول تلك العلاقات، كان العامل الأمريكي حاضراً على خط بكين - تل أبيب على اعتبار أن إسرائيل كانت الحليف الأبرز للخصم التاريخي للصين، في مقابل العلاقات الطيبة التي تجمع الصين مع الروس والعالم العربي.
آخر ما صدر في ذلك الصدد، كتاب حمل توقيع كل من الباحثين يعقوب كاتز Yaakov Katz وأمير بوكبوت Amir Bohbot، وفيه يكشفان القصة السرية لأول زيارة إسرائيلية إلى الصين وما تبعها بعد ذلك من لقاءات، فتحت باب تجارة السلاح بين الطرفين.
في الكتاب الذي صدر حديثاً، ونشرت مجلة "نيوزيوك" أحد فصوله، نتابع كيف بدأت العلاقات، كما نمر على فصول خروج إسرائيل من العباءة الأمريكية في تجارة السلاح مع الصين، واهتمام الأخيرة بتطوير ترسانتها العسكرية عبر إسرائيل، الخصم الأبرز لحلفاء الصين الأقرب في تلك الفترة.
هكذا يؤكد الكتاب على أن سوق السلاح لا يعرف العدو من الصديق، وهذا ما أثبتته الحروب جميعها، وما خرج عنها من قصص مخفية لاحقاً.
"الأجانب" في بكين
يعود الكتاب إلى وقت متأخر من إحدى ليالي شهر فبراير العام 1979. في تلك الليلة، أقلعت طائرة "بوينغ 707" من مطار بن غوريون في تل أبيب. بعد حوالي 15 ساعة من الطيران، وبعد توقفها للتزود بالوقود في إيلات وفي كالكوتا الهندية، حطت الطائرة في مدينة غوانزو في الصين.
هناك، كان بانتظارها مجموعة من الملاحين الصينيين الناطقين بالألمانية الذين تولوا قيادة الطائرة إلى محطتها الأخيرة في قاعدة عسكرية مغلقة على مشارف بكين.
لم يكن "الأجانب"، كما أسماهم الصينيون، يتحدثون مع بعضهم البعض، إذ كانوا يتخوفون من أجهزة التنصت التي قد يكون الجانب الصيني قد زرعها في المكان. وفي حال كان هناك ما يستدعي النقاش، كانوا يخرجون إلى البرد القارس لإجراء الحديث.
في المقابل، اعتقد الصينيون أن الوفد مؤلف من رجال أعمال أجانب على علاقة بشركات دفاع دولية رائدة، وفيه بعض الإسرائيليين. لكن ذلك كان مجرد غطاء. في الواقع، كان الوفد كله إسرائيلياً ويضمّ الرئيس التنفيذي لصناعات الفضاء الجوي الإسرائيلي (شركة حكومية) غابرييل غيدور، مع ممثلين رفيعي المستوى من وزارتي الدفاع والخارجية الإسرائيليتين.
بدوره، كان الوفد الإسرائيلي غير متأكد من هوية الأشخاص الذين يتعامل معهم. هل هم مهندسين؟ عناصر استخبارات؟ ضباط عسكريين؟ فقد كانوا يرتدون جميعاً "بزات ماو"، ولم يكن ثمة إشارة واضحة لتمييزهم، بحسب رواية أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي.
حتى ذلك اليوم الشتوي، لم يكن مسؤولو الدفاع الإسرائيلي قد زاروا الصين أبداً أو حصل أي تواصل بينهم وبين مسؤوليها. لم يكن هناك أية علاقات دبلوماسية بين الطرفين، بينما أحيطت تلك الزيارة بالسرية التامة في إسرائيل، ولم يعرف بشأنها أحد سوى أعضاء الوفد ورئيس الوزراء ووزير الدفاع وعدد قليل من الأشخاص.
كما لم يسمح للوفد الإسرائيلي بالتواصل مع أحد في إسرائيل أثناء تواجده في بكين، مهما كانت الظروف.
لماذا كل هذه السرية؟
يربط عضو الوفد الإسرائيلي، كما ذكر الكتاب، تلك السرية بالمرحلة التي جرت فيها الزيارة، فلو خرجت أي كلمة في ذلك الوقت ووصل الخبر للأمريكيين، كانوا سيستشيطون غضباً.
يُذكر هنا أن الولايات المتحدة كانت تفرض على إسرائيل عدم بيع أسلحة وتقنيات عسكرية إلى الصين أو أي جهة أخرى من دون الحصول على إذن أمريكي مسبق، مع العلم أن الولايات المتحدة قد غضت الطرف لاحقاً عن الأمر لما فيه من "توطيد لأركان الدولة اليهودية"، ليعود الانزعاج في بداية التسعينات مع تأثير تجارة السلاح الصينية - الإسرائيلية على الجهود الأمريكية في إشراك الصين في قضية الحد من انتشار الصواريخ المتقدمة.
المزيد عن علاقات الصين بالدول العربية:
الصين في طريقها لتزعّم العالم... كيف ستتأثر المنطقة العربية؟
في المقابل، حرص الصينيون على إبقاء الزيارة سرية للغاية، خوفاً من تخريب علاقاتهم الجيدة مع الاتحاد السوفييتي والدول العربية، إذا ما انكشف أمر تعاملهم مع إسرائيل، وبالتالي التأثير السلبي على مصالح الصين في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن على الرغم من كل المخاوف، فقد فرض التعامل بين الطرفين نفسه لما في ذلك من مصالح مشتركة.
فبعد الثورة الثقافية في الصين، بدأت الأخيرة تبني مسار أكثر انفتاحاً على الرأسمالية وفتح علاقات تجارية مع الغرب (كانت الولايات المتحدة على وشك استعادة العلاقات مع بكين)، كما حرصت على تطوير ترسانتها مستفيدة من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية، التي استفادت بدورها من التعاون الاستراتيجي مع واشنطن .
في المقابل، ومع بدء الثورة في إيران، كانت إسرائيل قد خسرت واحداً من أهم زبائنها في سوق تجارة السلاح، وبالتالي كان المسؤولون الإسرائيليون يأملون أن تملأ الصين المستعدة لدفع الملايين لأجل تطوير ترسانة جيشها هذا الفراغ.
"نحن لا نؤمن بالله"
في عملية التقارب تلك، برز اسم الملياردير اليهودي شاوول إيزنبرغ الذي كان قد هرب إلى شانغهاي، مثله مثل 20 ألفاً آخرين بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تمكن إيزنبرغ من بناء إمبراطورية مالية في الشرق الأقصى، ليصبح واحداً من أوائل الغربيين الذين يديرون أعمالاً تجارية في الصين وكوريا واليابان.
هكذا استفاد إيزنبرغ سلطته الاقتصادية لتوجيه أنظار الصين إلى الأسلحة الإسرائيلية، حتى أنه تبرع بطائرته الخاصة لنقل الوفد الإسرائيلي إلى بكين.
كان الملياردير اليهودي على دراية بكافة منتجات الدفاع الإسرائيلية من خلال صفقات سابقة لعب فيها دور الوسيط بين إسرائيل وأطراف آسيوية. وبعد العديد من اللقاءات التمهيدية التي أجراها مع الجانب الصيني، توجه إيزنبرغ إلى إسرائيل بقائمة مشتريات صينية فيها طلبات صواريخ ورادارات وقذائف مدفعية ودروع، ونصح الحكومة هناك بإرسال وفد إلى الصين.
وافق رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن على الزيارة، محولاً قائمة المشتريات إلى وزير الدفاع عازر ويزمان، الذي صادق على ما يمكن وما لا يمكن للشركات الإسرائيلية تأمينه.
خلال إقامتهم، قدم "الأجانب" للصينيين منشورات مختلفة توضح أنواع السلاح المختلفة التي يمكن تأمينها من إسرائيل. استطاعوا حينها، كما يقول المصدر، أن يثيروا إعجاب الزبون الصيني لكنهم فشلوا في الحصول على التزام نهائي منه.
القصة السرية لأول زيارة إسرائيلية إلى الصين وما تبعها من لقاءات فتحت باب تجارة السلاح بين الطرفين
في العام التالي، قام الإسرائيليون برحلات إضافية إلى الصين، بينها كانت لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي، التي نزعت عنها إشارة نجمة داوود الزرقاء حفاظاً على السرية. حينها كان الصينيون قد أدركوا أنهم يتعاملون بشكل مباشر مع الحكومة الإسرائيلية. بعد ذلك، تمت الموافقة على الصفقة التي حملها الوفد الإسرائيلي من الصين ليصادق عليها وزير الدفاع.
تخللت المفاوضات صراعاً واضحاً بين الثقافات. لقد أراد الإسرائيليون أن يوقعوا اتفاقاً يسري مفعوله على كل صفقات السلاح القادمة، حيث أملوا بتفعيل ما يشبه "بونانزا" تسوق آسيوي.
في المقابل، لم يكن الصينيون معتادون على تعقيد عقودهم. وعلى سبيل المثال، خلال المفاوضات، أصر الإسرائيليون على إدخال بند "القوة القاهرة" (البند الذي يعفي طرفي العقد من التزاماتهما في حال حدوث ظروف خارجة عن إرادتهما كالحرب أو الكوارث الطبيعية…).
حينها فوجئ الصين وسألوا "ما هو هذا البند؟"، فأوضح الإسرائيليون أنه مرتبط بحدوث أمر ما بإرادة إلهية لا يمكن التحكم بها، فأجاب الصينيون بحزم "حسناً، لا داعي لهذا البند طالما أننا لا نؤمن بالله".
الملايين أصبحت مليارات
استغرق الأمر سنة كاملة حتى تمكن الطرفان من الوصول إلى اتفاق. وهكذا، وصلت أولى الشحنات (قذائف دبابات) في العام 1981. مع ذلك، بقيت العلاقة في دائرة السرية.
رفض الجانب الصيني أن يزور إسرائيل، لكنه وقع معها على اتفاقيات بمئات الملايين من الدولارات تضمنت القذائف والصواريخ وأنظمة الرادار. اكتفى الصينيون بمشاهدة صور وفيديوهات، لكنهم لم يزوروا المصنع أبداً وكان ذلك يعتبر سابقة في مجال تجارة السلاح.
في العام 1985، وبعد عشرات الزيارات بين الطرفين، رفعت السرية بعض الشيء. للمرة الأولى، وافق الصينيون على إصدار تأشيرات دخول لتسعة مدراء تنفيذيين من قطاع الزراعة في إسرائيل.
وفي العام نفسه، أعادت إسرائيل فتح سفارتها في هونغ كونغ بعد أكثر من عقد على إغلاقها، في وقت كانت تضغط على بكين من أجل إقامة علاقات رسمية بين البلدين، لكن الصين كانت تحتاج لمزيد من الوقت.
لم يحصل الأمر حتى العام 1992، بعد مؤتمر مدريد حيث جرت مفاوضات إسرائيلية - عربية، وهكذا وافقت الصين في نهاية المطاف على إقامة تلك العلاقات الدبلوماسية، لترتفع التجارة بينها وبين إسرائيل من 100 مليون دولار في العام 1992 إلى 8 مليارات دولار في السنوات العشرين اللاحقة، محولة الصين إلى الشريك التجاري الأول لإسرائيل في آسيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com