«تفاحة واحدة» هي كل ما احتاجه بنو البشر ليبدأوا رحلتهم مع ارتداء الملابس. أغوى الشيطان آدم وحواء بالأكل من الشجرة المحرمة «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ»، ثم كان ما كان.
منذ ذلك الحين، مرت الأزياء بمراحل كثيرة من التطور، من جلود الحيوانات إلى صوفها وريشها، مروراً بحرير دودة القز وما شابهه. حتى وصلنا إلى ما نشهده الآن من موضة العصر الحديث.كانت الحاجة إلى الملابس مرتبطة في السابق بالحماية والوقاية من البرد والمطر وأشعة الشمس، فضلاً عن تنوعها بحسب المهنة والطبقة الاجتماعية، قبل أن تأخذ أبعاداً اجتماعية وثقافية تعبر عن طبيعة كل بيئة.
ويمثل الزي جزءاً هاماً من تاريخ وهوية كل شعب، إذ يتميز كل بلد بتنوعه الكبير في اختيار الملابس المعبرة عنه حسب تصميماته الخاصة، وتجمعه قواسم مشتركة مع بلدان أخرى نتيجة التقارب الجغرافي وسواه من المجالات الأخرى. بينما يعتمد التصميم نفسه على الحلي والزخارف المبنية على المعتقدات والبيئة، ويخوض معركة تاريخية مع العولمة للحفاظ على أصالته، وللعرب في هذا الجانب قصص وحكايات كثيرة مع تطور الأزياء عبر التاريخ.
مصر: صراع المحتشم والقليل الحياء
ظهرت براعة الفراعنة في التعريف بملابسهم على جدران المعابد والمقابر، فكانت غالبيتها أقمشة خفيفة باللون الأبيض، لتتلاءم مع حرارة الجو وسمرة البشرة. أما الملابس الملونة فكانت للأغنياء، كما اخترعوا عطراً مجمداً يسمى "القمع"، يزين الرأس بشكل معين، ويسيح على الجسم عند ارتفاع الحرارة فيرطبه ويمنع رائحة العرق. وكانت ملابس الملوك من خيوط مطرزة وملونة، يضاف إليها بعض الحلي على الصدر وفي الوسط، بينما كانت جلود الحيوانات والأصواف محرمة على الكهنة العاديين، الذين ارتدوا المجول المثبت بشريط حول الكتف، أو عباءة مستديرة. واعتاد الوزراء ارتداء ثوب ضيق محبوك ينحدر من الصدر حتى القدمين، ويحمله شريط يثبت من الخلف عند الرقبة، في ما كانت القلادات والأشرطة الملفوفة حول الرأس هي السمة المميزة للجنود. أما عن المرأة الفرعونية، فاشتهرت بولعها بتزيين ملابسها وتطريزها بالخرزات الملونة والقماش المزركش، مع استخدام الشعر المستعار، والأقراط كدليل على الجمال. وهو ما أظهرته البرديات القديمة. وحتى الأسرة ال18 كانت النساء ترتدي ابتداءً من الابنة الملكية إلى الفلاحة والخادمة ثوباً ضيقاً ومتشابهاً، خالياً من الثنايا، ويوضح أجزاء الجسم، منحدراً من تحت الثديين حتى يبلغ رسغي القدمين، ويحمله شريطان فوق الكتفين، بينما صممت ملابس الراقصات قصيرة بلا أكمام، بما يتيح لهن حرية حركة الجسم، وإظهار الأذرع والسيقان.
وتغيرت أزياء المرأة المصرية في العصر الإسلامي بشكل كبير، فاتجهت إلى الحشمة، مع الحفاظ على الهوية بتزيين الملابس بالذهب والحرير، بينما بدت أكثر تحرراً في عصر المماليك. فكانت تضع الوشم وتصبغ الأيدي بالحناء وتطلي الأظافر، وكانت ترتدي قمصاناً قصيرة ضيقة، تظهر مفاتنها وتسمى "القنادير"، وهي تشبه إلى حد كبير "الميني جيب" في عصرنا الحالي.
"رفعنا النقاب أنا وسيزا نبراوي، وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذي يبدو ظاهراً للمرة الأولى بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً أبداً، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته"، هكذا صنعت هدى شعراوي أول ثورة على ملابس المرأة المصرية، حين ذهبت وأخريات لاستقبال سعد زغلول. إذ كان البرقع، وهو قطعة من القماش المخصصة لتغطية الوجه عدا العينين، رمزاً لعفاف المرأة، حتى كان يقال عن المرأة غير المهذبة حينذاك"خلعت برقع الحياء".
ومنذ هذه الفترة حتى هذه الأيام، مرت أزياء المرأة المصرية بتغيير كبير، فتنوعت ما بين الملاية اللف، والمنديل أبو قوية، واليشمك التي انتشرت بشكل كبير حتى الأربعينات، إلى الفساتين القصيرة مع حقيبة اليد والشعر المصفف في الخمسينات والستينات، مروراً بالحجاب والنقاب والطرحة مع تزايد المد الوهابي منذ السبعينات، وصولاً إلى الأزياء الإسلامية الحديثة، والبناطيل "السكيني" التي أصبحت موضة العصر الحديث، مع بداية الانفتاح على الثقافة الغربية.
أما الرجال فانتقلوا من العباءة والجلباب إلى "البدلة والطربوش" في أواخر عصر أسرة محمد علي، حتى وصلوا إلى البناطيل "الشارلستون" والقمصان المزركشة التي كانت موضة السبعينات وبداية الثمانينات، ثم الملابس "الكاجوال" والقمصان الواسعة، إلى الأزياء المستوردة من الخارج، والتي يميل جميعها إلى الطابع الحديث. بينما لا تزال أزياء أخرى تصارع للحفاظ على هويتها أمام تغول العولمة، خصوصاً في الصعيد وسيناء والواحات والنوبة.
بلاد الشام: فسيفساء من الموضة
بحسب كتاب "تاريخ الأزياء اللبنانية: من العهد الفينيقي حتى أواخر القرن التاسع عشر" لماجد بو طانوس، عرف لبنان الغزْل والحياكة في الألف الثالث قبل الميلاد في عهد الفينيقيين. وكان الصوف أول مواد صناعة الملابس حياكة، كما عرفت نساء صيدا صور الحرير وغزلن منه أزياء متنوعة، كما استخدمن الأرجوان، الذي كان حكراً على الملوك والأمراء، وقيل إن "هرقل الفينيقي أخذ أول ثوب مصبوغ بأرجوان صور، وقدمه إلى الإلهة عشتروت".بدت المرأة أكثر تحرراً في عصر المماليك فكانت ترتدي قمصاناً قصيرة ضيقة و"القنادير" التي تشبه "الميني جيب"
مطامع الاستعمار على مر العصور جعلت لدى الفلسطينيين إصراراً على الحفاظ على لباسهم كجزء من معركة الهويةويتكون الزي التقليدي الفلسطيني من القمباز، فضلاً عن جبة قصيرة تسمى "الدامر"، والسروال، والعباءة، مع "البشت" وهو ثوب أقصر من العباءة قليلاً. يخلو الثوب البدوي من التطريز لانشغال النسوة في أعمال الزراعة، بينما تمتاز أثواب القدس وبئر السبع ووسط فلسطين بالعديد من التطريز، ويغلب على أثواب منطقة الساحل الخليط الإغريقي واليوناني، كما يماثل ثوب نابلس اللباس المستعمل في سوريا، وهو عباءة سوداء طويلة وملاءة تغطي الوجه. ويوضح لنا الفرا أن الثوب المطرز هو أحد أشكال التراث الفلسطيني عند النساء، ويختلف من قرية لأخرى ومن مدينة إلى مدينة. فيختلف الثوب الفلاحي المطرز عن الثوب البدوي، ويتم تناقل هذه الملابس عبر الأجيال. وعلل الفرا استمرار الحفاظ على هذه الأزياء الشعبية حتى الآن، بأن الصراع الدائم ومطامع الاستعمار والغزاة على مر العصور، جعلت لدى الفلسطينيين إصراراً على الحفاظ على ملابسهم كجزء من معركة الهوية، لذا يتم استخدامها كثيراً في المناسبات كدليل على التاريخ الوطني.
الخليج: "الكوفية" من فلسطين و"البشت" من فارس
تتشابه الأزياء التقليدية في دول الخليج إلى حد كبير، في استخدام العباءة والعقال والجلباب. إلا أنها تختلف من بلد إلى آخر في بعض التفاصيل. ففي عمان يحرص الرجال والنساء على التعبير عن التراث بشكل لافت للنظر، فيرتدون ما يسمى "الدشداشة" أو "الكندورة" المطرزة، مع العمامة الملونة والطاقية المطرزة يدوياً، ويزين ذلك بحزام الخنجر والشال، اللذين لا يخلو منهما لباس أي مواطن حتى عصرنا الحالي. بينما ترتدي النساء اللحاف أو الليسو أو الفتقة، مزينة بالترتر والخرز، وتضاف إليه خيوط ملونة تسمى "الشلاشلف"، كتعبير عن الحفاظ على الهوية الوطنية.
ولا يزال "العقال"، و"الدشداشة"، والكندورة "الجلباب"، والدقلة، و"الشال"، و"القحفية" – القبعة، أبرز الأزياء المستخدمة بين الخليجيين قديماً وحديثاً، وانتقلت إليهم الكوفية "الشماغ" السوداء والبيضاء من فلسطين عبر حركة التجارة، كما نقلوا "البشت"، العباءة، من إيران، وهي تعني بالفارسية "لباس وراء الظهر".
وتشتهر السعودية بانتشار الشماغ الأحمر والأبيض في منطقة الشمال ونجد، والغترة البيضاء في الجنوب والمنطقة الشرقية. وفي الكويت تلبس الدشداشة مع الغترة البيضاء صيفاً، والشماغ الأحمر أو الأبيض شتاءً، ويفضل أهل الإمارات "الحمدانية" أو العمامة البيضاء مع العقال، ويلبس القطريون الثوب الأبيض ذا الياقة، مع بشت مطرز بالخيوط الذهبية على أطرافه، وعقال تتدلى منه خيطان على الظهر، ويتم ارتداء الدقلة في الشتاء.
ومع مرور الوقت لم يعد عدد كبير من هذه الأزياء مستخدماً بكثرة في الشارع الخليجي، مع انتشار الصيحة الأوروبية ذات الماركات الشهيرة، التي اتجه إليها الشباب والكبار سيراً على نهج الحداثة. بينما تخلت النساء عن البرقع، الذي بات مقتصراً على مسنات البادية، ولحقه البخنق والنشل إلى حد ما، لصالح النقاب الذي انتشر بشكل واسع بين أوساط المتزمين دينياً، خصوصاً في السعودية، والعباءات بأشكالها المتنوعة والفساتين الغربية على غرار الإمارات.
ويرتدي المواطن الصحراوي ثوباً فضفاضاً يسمى "الدراعة"، تحته سروال تقليدي يسمى "لكشاط"، وترتدي المرأة ثوباً طوله نحو 4 أمتار أينما كانت، لكن يختلف شكله حسب السن.
في 16 مارس من كل عام، يحتفل التونسيون باليوم الوطني للباس التقليدي، وفي هذه المناسبة يتم ابتكار جائزة مرموقة للفائز بأحسن تصميم زي شعبي، وتعد هذه التجربة العربية الوحيدة الداعية للحفاظ على التراث الوطني في الأزياء.
ولا تزال هناك أزياء تونسية تحافظ على هويتها حتى اللحظة، ومن بينها اللباس الفضفاض الشهير المسمى بـ"الجبة"، والذي يستخدم في الحفلات والمناسبات والأفراح، وتحرص الأجيال القديمة على ارتدائه خصوصاً في مناطق الشمال. وأيضاً الشاشية "الطربوش"، و"البرنوس" وهو معطف طويل يضمّ غطاء للرأس ويوضع على الكتف، بينما ترتدي المرأة لباساً محتشماً يغطي جميع أنحاء جسدها ويسمى "السفساري"، وهو رداء أبيض مصنوع في الغالب من الحرير، كما ترتدي أيضاً لحافاً يسمى "الحرام"، و"الطقريطة"، وهي غطاء الرأس، وتحرص في ذلك كله على استخدام الألوان الزاهية، فضلاً عن الحلي والخلخال.
وعن أزياء الجزائر، تقول سارة بن براهيم، المهتمة بالملابس الشعبية، إن الجزائريات اعتدن لبس "الحايك" في الأيام العادية، وهو ثوب يغطي الجسم كله، بينما كان يختلف زي المناسبات من منطقة لغيرها. ففي وهران ترتدي النساء "البلوزة"، وفي قسنطينة يرتدين "القسنطينية" التي اشتهرت منذ عصر العثمانيين، ولا تزال مستخدمة في الأعراس و"حفلات الزفاف".
وتضيف: "قديماً كانت كل بنت ترتدي لباس منطقتها، لكن مع الوقت أصبحت النساء يرتدين أي ثوب، وكان الحايك هو اللباس الشائع، إلى أن وجدت الفتيات أن طريقة لبسه غير عملية، فأصبحن يرتدين الجلابة الآتية من المغرب، بينما تشتهر الأفراح بارتداء الشدة التلمسانية التي تسمى أيضاً "زي أميرات الأندلس"، وهي حلم كل عروس، إلى أن شق القفطان الحديث والحجاب التركي طريقهما لغزو سوق الأزياء في البلاد".
وتختتم سارة: "المرأة الجزائرية محافظة، لكن ليس كالسابق، فهي أيضاً أصبحت أكثر انفتاحاً مع تطور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، وباتت تبحث عن الملابس التي تجمع بين الأصالة والموضة، وتفضلها على الملابس الأقل حشمة أو الأكثر تحفظاً".
المغرب العربي: أزياء على كل لون وعِرق
يشتهر المغرب بتنوعه العرقي من عرب وأمازيغ وصحراويين وأندلسيين، وعلى هذه الشاكلة كان لكل منهم زيه الخاص الذي يمتزج مع ثقافة البلاد ويعبر عن هويتها الحضارية، فعرفوا الجلباب الطويل ذا الطاقية، فضلاً عن الجلابة القصيرة الفضفاضة"القشابية"، مع الطربوش الأحمر أو العمامة والبلغة "الحذاء"، ولا يزالون يرتدون هذه الملابس حتى اللحظة. بينما اعتادت النساء ارتداء القفطان والتقشيطة والملحفة والشربيل، فضلاً عن الملابس الجبلية التقليدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...