تنتشر بين المصريين حالةٌ تتمثل في انخراط كثيرين منهم في الطرق الصوفية المتعددة، أو حضور دروس اليوجا وحلقات التأمل (المديتيشن) التي تجد جذورها في الفلسفات الآسيوية القديمة.
وهو أمر لم يكن شائعاً في مصر قبل عقد أو اثنين من الزمان إلا في أوساط الطبقة العليا بحكم قدرتها على دفع رسوم مثل تلك الأنشطة التي كانت قليلة ومرتفعة التكلفة.
كما غدا من المألوف اليوم أن ترى شباباً من الجنسين وقد علق الواحد منهم سُبحة مئوية في رقبته، أو حول معصمه، في إشارة ضمنية لإيمانه بقوة غيبية تناسب تصوره لفكرة الربوبية.
في الدايرة
في مركز "سَكينة" المختبئ في حي مار جرجس الأثري بالقاهرة، تُعقد "الدايرة"، وهي إحدى الحلقات التي تمزج بين العلاج بالطاقة والتأمل وبين مبادئ الفكر الصوفي. يجد المشاركون أنفسهم جالسين على الأرض في دائرة مغلقة مع أناس يربط بينهم البحث عن شيء مفقود. تحيط بهم أحجار من أنواع مختلفة، وشموع وستائر منقوشة وبعض التماثيل والصورة الممثلة لحضارات مختلفة. يبدأ أحمد مجدي، كاتب وروائي مصري مهتم بالتصوف والفلسفة، في إدارة الحلقة بتلاوة "الناموس"، وهو مجموعة من المقولات في الإنسان وعلاقته بذاته والكون والله وفي رحلة بحثه عن "الحقيقة". مجدي شاب هادئ يرتدي ملابس عصرية ويتحدث بصوت خفيض موزعاً نظرات هادئة على الحضور من وراء نظارته الأنيقة. "الدايرة هي الرحلة التي تقطعها بلا نهاية كي تتعرف على ذاتك بذاتك. ليس هناك ملاحٌ يوجّهك في هذه الرحلة سواك، لتكتشف في النهاية أنك بدأت من ذاتك وسرت في دائرة كي تصل إلى ذاتك في ارتقاء لا نهائي. ومن عرف نفسه عرف ربه"، يقول مجدي. ثم يصمت، مفسحاً المجال لنادية سراج، شابة مصرية متخصصة في العلاج بالطاقة وفلسفة الطاقة الكونية (التاوية الصينية). تطلب من الحاضرين في الحلقة إغماض عيونهم ومنح آذانهم لصوتها بينما توجههم في رحلة ذهنية يستدعون معها طاقات الكون الإيجابية للاستعانة بها على مراراتهم الشخصية. تقودهم خلال الرحلة عبر طريق متخيل جميل محفوف بالخضرة والزروع، وبه وجوه تربطهم بها علاقات مختلفة، وتحاول إخراج ما بداخلهم من مشاعر. بانتهاء الرحلة، تصمت سراج داعية من يحب من الحضور إشراك الآخرين في مشاعره، فيبدأ بعضهم بالبوح فيما ينفجر آخرون في نوبة بكاء يفرغون بها قدراً من الضغط الذي لاقوه أثناء رحلتهم المتخيلة.كيف يتقبل المصريون العلاج البديل؟
"حين أقدم نفسي للمشاركين الجدد في حلقاتنا، أمازحهم قائلةً إني أعالج بالشعوذة وأفتح المندل وأحادث الأسياد من الجن السفلي"، تقول سراج. بهذا المزاح الدفاعي الاستباقي، تحاول أن تذيب الجليد بين الناس والفكرة. برأيها، القاهريون ليسوا الأكثر تقبلاً لهذا النوع من العلاج، بل تجد الفكرة أكثر قبولاً لدى بدو سيناء على سبيل المثال. ربما، برأيها، لانفتاحهم الفطري على الكون والبيئة الطبيعية نظراً لنشأتهم الصحراوية. علماً أن علاقة المصري بالعلاج البديل علاقة قديمة ويتداخل فيها الماورائي مع الطب النبوي ثم مع الموروث الشعبي ذي الجذور العربية التقليدية أو المصرية القديمة في ضفيرة معقدة ومحرّكة."أقدم نفسي للمشاركين الجدد في حلقاتنا وأمازحهم قائلةً إني أعالج بالشعوذة وأفتح المندل وأحادث الأسياد"
علاقة المصري بالعلاج البديل علاقة قديمة ويتداخل فيها الماورائي مع الطب النبوي ثم مع الموروث الشعبيفلا تزال النساء في جنوب مصر على سبيل المثال يستخدمن الأعشاب في التداوي، ويصنعن العجائن العلاجية من نبات الحنّاء والدهانات المستخرجة من مزج الزيوت العطرية والمواد الشحمية. كما أن العلاج بالسحر وبالتبرك بأضرحة الأولياء وبقراءات الشيوخ والقساوسة، وبالزيوت المستخرجة من أشجار يُظن أنها مباركة، أو مياه مستخرجة من آبار يُشاع أن لها قوة علاجية خفية، هذه كلها أمور لا تزال شائعة في شمال مصر وجنوبه على السواء. ولعلّ هذا ما يجعل الذهنية المصرية بصورة عامة قادرة على تقبل طرح يقوم على العلاج بالطاقة أو التأمل أو ما شاكلهما من أساليب العلاج غير القابلة للقياس العلمي بصورة دقيقة.
من أين جاء هذا الاهتمام؟
بدا المصريون خلال السنوات التي سبقت ثورة 2011 في حالة ترقب وانتظار لشيء ما آت، لكنه لم يكن مُعيناً بوضوح في الذهنية الجمعية. وكان شائعاً المزاح بين المصريين في هذا الشأن، والتندر بأن البحث جار عن "مصباح علاء الدين السحري" الذي يحقق الجنيّ بداخله لحامل المصباح أحلامه المؤجلة. قامت ثورات الربيع العربي وانتشى المصريون فترة قصيرة من الزمن، بدا لهم فيها أن ما كان ينتظرونه أصبح معيوشاً ويمكن تطويره. لكن مع تعثر المسيرة الثورية، والانتكاسات السياسية والاقتصادية المتوالية، بدا المصري كما لو كان قد قرر العودة إلى خندق الانتظار من جديد، أو على الأقل انحسب بعيداً عن أرض الواقع الذي أدرك مع التجربة أنه لا يسيطر حتى على ترسيم خطوطه العريضة.عمَّ يبحث المصريون في الحلقات؟
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، تقول سراج: "الناس متعبون. حولنا الكثير من الألم والهموم والعلاقات المشروخة والموجعة، ناهيك بالتخبط في الخطابات الدينية السائدة". وترى أن المشاركين يعانون من انكسار روحي بعد الثورة، وبعدما شاهدوا الكثير من الدماء في السنوات التي تلتها. "المصري يبحث بدأب وشغف عن لحظة نور وتنوير"، يقول أحمد عبد الجواد، صحافي وباحث مصري مهتم بالشأن الصوفي، لرصيف22. ولأن المؤسسات التعليمية في مصر، برأيه، هزيلة لا تكاد تنير ولا تعلّم، فإن المصري يضطر للبحث عن التنوير في مؤسسات أخرى أو من روافد أخرى، من بينها الرافد الباطني. فيبحث عن التنوير في جلسات التأمل، أو في حلقات الذكر أو في الحضرات الصوفية أو في زيارات أضرحة الأولياء وحتى في الحديث إلى المجاذيب باعتبارهم مصدراً محتملاً لمعرفة باطنية أو كشف معرفي غير متاح لسواهم من العقلاء. يضيف عبدالجواد: "المصيبة أن بعض مدعي المشيخة ليس لديهم فتح ولا كشف، ومع ذلك فإن لهم مريدين يتبعونهم في انتظار لحظة التنوير التي لا تأتي ولن تأتي. ومن يفلت من دوائر النصب يظل يبحث عن سواها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...