تحظى مناسبة الإسراء والمعراج بتقديس خاص عند المسلمين، فهي رحلة خاضها النبي محمد وترتّبت عليها تطورات جذرية في العقيدة الإسلامية كما نعرفها الآن.
وتكتسب أحداث المعراج أهمية خاصة في علم الأديان المقارن، لتشابه أحداثها مع العديد من القصص التي وردت في ديانات أخرى، وأساطير قديمة لم يحط بها العرب علماً في زمنهم البعيد.
فكيف تشابهت أحداث المعراج الإسلامي مع مثيلاتها في الديانات الأخرى؟ وإلى أي حد يبلغ التطابق بين أحداثها وبين ما نقلته الأساطير القديمة؟ الرحلة مثيرة للغاية، وعامرة بالتساؤلات.
الإسراء... من هنا ابتدأت طقوس الإسلام
تقول الميثولوجيا الإسلامية إن النبي محمد أُسري به من مكة إلى القدس، في ما عرف باسم "الإسراء"، وتبدأ الأحداث عندما كان نائماً، فأتاه ثلاثة من الملائكة أحدهم جبريل، فشقوا عن جوفه، وغسلوه من الغل والضغينة، ثم ملأوا قلبه إيماناً وحكمة، وبعدها أخذه جبريل إلى مخلوق أسطوري يُسمى "البراق"، هو مزيج من الحمار والبغل، ليطير به إلى السماء.
قبة المعراج في القدس
ثم عرج محمد بصحبة جبريل إلى السموات واحدة تلو أخرى، وفي كل سماء كان يلقى نبيّاً مختلفاً أو أحد الصالحين، حتى بلغ السماء السابعة التي أشار إليها القرآن بسدرة المنتهى، فقابل الله وتحدث إليه، وهناك فرضت الصلوات الخمس على المسلمين.
وتتداخل بعض الأحاديث بتفاصيل إضافية، منها أن مشاهد من جهنم عُرضت لمحمد، فرأى أهلها يتعذبون في معية الشيطان، كما رأى الجنة وساكنيها، وحياتهم الهانئة الأبدية.
المعراج الزرادشتي... تشابه مذهل
تبدأ قصص المعراج في الديانات القديمة عند الديانة الزرادشتية، إذ حمل إلينا كتاب فارسي قديم قصة القديس أردا فيراف (أو أرتا فيراف أو ويراف) الذي اختير لرحلة إلى السماء بسبب استقامته وصلاحه، ليرى العالم الآخر ويخبر المؤمنين عنه، فصلى عليه الكهنة الزرادشتيون حتى غفا وراح في سنة من النوم، بينما تقول بعض الترجمات إن الروح فارقته مؤقتاً.
بدأ معراج أردا فيراف بأن أتته روح القديس ساروش بصحبة الملاك أدار، ليأخذاه في رحلة إلى السماوات، وقاداه حتى ولج الملكوت وهام في سعادة خالصة، ومرّ بسكان السماء وشاهد حياتهم الأبدية المُنعَّمة. كما رأى القديس الزرادشتي أن الأعمال الحسنة للشخص تتجسد في هيئة فتاة جميلة، بينما تأتيه أعماله الشريرة في صورة عجوز قبيحة شمطاء.
ويستمر الكتاب الفارسي في وصف معراج أرتا فيراف، الذي واصل الارتقاء في السماء حتى بلغ الإله "أهورامزدا"، خالق الكون ومصدر ضيائه، وتحدث إليه الإله وطلب منه العودة إلى الأرض كرسول منه، يخبر الناس بما رأى وسمع في السماء، ويدعوهم لعبادته والصلاة له.
وتحمل إلينا الديانة الزرادشتية قصة معراج أخرى في كتاب "زرادشتناما"، وتحكي لنا كيف حصل زرادشت نفسه على إذن من الإله ليصعد إلى السماء، ويطوف بالجحيم حيث قابل "أهيرمان"، الشيطان.
يعتبر المعراج الزرادشتي من أول قصص الصعود إلى السماء المُسجلة في الأديان خلال التاريخ الإنساني، فقد ظهرت الزرادشتية ما بين سنة 6000 قبل الميلاد إلى سنة 600 قبل الميلاد، وسادت إيران نحو 1000 عام متصلة، لكن قصة أردا فيراف ليست أغرب ما يثير التساؤلات حول العلاقة بين الإسلام والزرادشتية.
فمن أبرز التشابهات بين الديانتين أن الزرادشتية فرضت الصلاة على أتباعها خمس مرات يومياً، في مواقيت مرتبطة بحركة الشمس. فنجد أن الصلوات كانت كالتالي: صلاة عند بزوغ الفجر، وصلاة عند الظهر، وصلاة بعد الظهر، وصلاة عند الغروب، وصلاة الليل.
واستمراراً للتشابهات المثيرة، فقد كان الزرادشتيون يتوضأون قبل الصلاة، ثم يرتفع الجرس من المعبد ليذهبوا ويصلوا فيه، تماماً كما نرى في الوضوء الإسلامي، وصلاة الجماعة. وفي صلاتهم يتوجه الزرادشتيون صوب النار باعتبارها رمزاً للرب، بنفس مفهوم توجه المسلمين صوب مكة.
وفي الزرادشتية يبعث الناس يوم القيامة، فتوزن أعمالهم، وينجو من العذاب من ثقلت موازينه بالأعمال الصالحة. ثم يأمر الرب "أهورامزدا" عباده بالاتجاه إلى جسر يعبر فوق جهنم (الصراط)، فيمر المؤمنون فوقه ببساطة ويتسع أمامهم كلما مشوا عليه، ولا تصيبهم النار. أمَّا الأشرار الأشقياء فيعانون عند عبور الصراط الذي يشبه في دقته الشعرة، وفي حدته السيف، فيعجزون عن المشي ويهوون في النار ليخلدوا فيها أبداً.
وبحسب كتاب "زرادشت والزرادشتية" للدكتور الشفيع الماحي أحمد، الباحث بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود، وصف زرادشت الإله "أهورامزدا" بأنه الإله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، وهو الضياء اللامحدود، ومحرك العالم وملك الأشياء، ولا يحده مكان أو زمان، ولا تخفى عليه خافية، وكلها صفات تحملها العقيدة الإسلامية كما نعرفها اليوم.
كيف تشابهت أحداث المعراج الإسلامي مع مثيلاتها في الديانات الأخرى؟ الرحلة مثيرة للغاية، وعامرة بالتساؤلات
تكتسب أحداث المعراج أهمية خاصة في علم الأديان المقارن، لتشابهها مع العديد من القصص في ديانات سبقت الإسلام
إيتانا... الصعود المقدس عند البابليين
إلى جانب الزرادشتية، تتشابه أحداث المعراج الإسلامي مع أسطورة الملك إيتانا البابلية، والتي نقلتها إلينا بعض الألواح الأثرية، بحسب الموسوعة البريطانية.
تبدأ القصة بأنه لم يكن هناك ملك على الأرض، حتى قررت الآلهة أن تصطفي واحداً، فوقع اختيارها على إيتانا، فحكم شعبه على خير وجه، ولكنه عانى من أن زوجته لم تمنحه وريثاً، ولم يكتمل لها حمل قط، وأصبح الملك العظيم مهدداً بأن يموت دون وريث يعتلي العرش من بعده.
وكان الحل الوحيد أمام إيتانا أن يصل إلى نبتة الولادة، أو شجرة الولادة التي تنبت في السماء، وكان مطلوباً منه أن يصعد بنفسه لإحضارها، ليظفر بالوريث الذي يحلم به. وعلى هذا تضرع إيتانا للإله شَمَشْ، فاستجاب لصلواته وأمره بالسير إلى جبلٍ معين، حيث سجن نسراً مارقاً في حفرة عقاباً له على إخلافه بعهدٍ مقدس.
كان خلاص إيتانا من لعنته يتمثل في الحصول على مساعدة هذا النسر في بلوغ النبتة، فعمل على إنقاذه من حفرته، واعتنى به، ومكافأة له على نبله أخذه الطائر العظيم إلى السماء.
لا نعرف على وجه الدقة كيف كانت رحلة إيتانا، نظراً لأن اللوح الأثري الذي دونت عليه القصة تكسر في أكثر من موضع، ولكن الجزء السليم منه ذكر أن الملك البابلي الصالح بلغ السماء، وهناك انهار شبه فاقد للوعي. ولكن مهما كان مسار الأحداث فقد عاد بجزءٍ من نبتة الولادة، ورزق ابناً هو الملك "بالح".
ويرجح المؤرخون أن يكون الملك إيتانا الذي ذكرته الأسطورة هو نفسه الملك إيتانا الذي حكم مدينة كيش في جنوب بلاد ما بين النهرين، في وقتٍ ما من النصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد. وإلى جانب أنها من القصص الأولى التي ذكرت الصعود إلى السماء في التاريخ الإنساني، فهي أيضاً من أوائل القصص التي عرضت توق الإنسان إلى وريث يحمل اسمه، ويكون امتداده في الحياة.
إيليا... المعراج اليهودي في نيران الرب
تستمر أصداء قصص المعراج في الأديان وصولاً إلى العهد القديم، والذي ذكر قصة إيليّا النبي، ذلك الرجل الصالح الذي عاش محارباً عبادة الأوثان والشرك بالرب، متحملاً في سبيل إيمانه مشقة التحدث إلى العباد، ومحاربة الملوك الظالمين، ومحاولات اغتياله المتلاحقة التي نجا منها بمعجزات إلهية.
وفي أيامه الأخيرة على الأرض، كان إيليّا برفقة تلميذه وابنه الروحي إليشع في طريقهما إلى الأردن، وإذ اعترضهما الماء رفع إيليّا ثوبه وضرب به فانشق الماء وعبرا معاً، وإذ استأنفا السير جاءت مركبة نارية وفرسان، وحملت إيليّا إلى السماء، وبقي رداؤه مع إليشع.
كما يذكر العهد القديم قصة أخنوخ، وهو رجل صالح آخر عاش في معية الرب حتى أصعده إليه ليعيش في رحاب السماء. فجاء في سفر التكوين "وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ". وفي الرسالة إلى العبرانين بالعهد الجديد، جاء أن "بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ. إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ".
وتُفسَّر الآيات بأن الرب أصعد إليه أخنوخ الصالح ليعيش في السماء، على أن يعود قرب نهاية الزمان ليشهد قدوم المسيح الدجال، ويقاتله جنباً إلى جنب إيليّا حتى يُقتلا ويذوقا الموت.
اختلافات إسلامية حول رحلة الإسراء والمعراج
رغم أهميتها الروحانية الفريدة في العقيدة الإسلامية، لم تسلم أحداث الإسراء والمعراج من أن تكون موضع خلاف واختلاف بين الفقهاء، وأصبح معتاداً أن ينبثق جدال يتجدد كل عام، مرتكزاً على نقاط محددة، هي:
1. اختلاف الوقائع بين القرآن والأحاديث
تعتبر تفاصيل الإسراء والمعراج المذكورة في الآيات القرآنية قليلة للغاية، مقارنة بمثيلاتها في الأحاديث العديدة التي ذكرها ابن عباس والمنسوبة للنبي محمد.
امتلأت تلك الأحاديث بتفاصيل غير منطقية، مثل أجنحة البراق الستمئة، وتخيير محمد بين الخمر واللبن، وهي تفاصيل يتمسك بها كثيرون من السلفيين دون جدال، بينما يرفضها المفكر الإسلامي محمد شحرور المحسوب على القرآنيين، فيقول إنها بهارات أضيفت للقصة، ومحض إسرائيليات تسللت للثقافة الإسلامية.
2. الفصل بين الإسراء والمعراج
ويذهب بعض المفسرين إلى أن واقعتي الإسراء والمعراج منفصلتان، حدثت كل منهما في توقيت يختلف عن الأخرى، ويستدلون على هذا بأن القرآن ذكر تفاصيل الإسراء في الآيات الأولى من السورة التي تحمل الاسم نفسه، بينما لم تذكر أيّة تفاصيل تخص المعراج إلا في الأحاديث "المنسوبة" للنبي.
لكن جانباً آخر ينبري للدفاع عن هذا بأن آيات سورة النجم (7: 18) ذكرت أحداث المعراج، وعليه تكون أحداثه حقيقية، وأن محمداً ارتقى فعلاً إلى حيث قابل الله.
3. تحريم الاحتفال بالإسراء والمعراج
كالعادة، يعتد قطاع كبير من المسلمين، بأن "ليس للمسلمين إلا عيدان" لتحريم الاحتفال بأيّة مناسبة بخلاف عيدي الفطر والأضحى، وهو ما يتمسك به السلفيون أكثر من سواهم، فيذهبون إلى أن الاحتفال بالإسراء والمعراج محض بدعة لم يسبق للنبي محمد وصحابته الاحتفال بها، مؤكدين أن حكمها يراوح ما بين التحريم القاطع والكراهة.
يخالف هذا الرأي السيد وليد مطر، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر بالقاهرة، ويقول لرصيف22 إن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج واجب على المسلمين، وهو ما استدل عليه من القرآن نفسه.
ويتابع مطر: "ليلة الإسراء والمعراج لها أهمية عظيمة في الإسلام، والآيات الأولى من سورة الإسراء تعتبر احتفاءً من الله بها"، ويتابع أن رحلة الإسراء والمعراج لم يثبت أنها وقعت في شهر رجب، وأجمع المسلمون على موعدها هذا بالتقريب، معتبراً أنها: "كانت اتصالاً عظيماً بين السماء والأرض".
وما بين تشابهاتها المثيرة مع سابق الديانات، والسجالات الفكرية المتعددة المتعلقة بها، تبقى رحلة الإسراء والمعراج حدثاً له أهميته، يكشف جوانب عدة من العقيدة الإسلامية، ويلقي ضوءاً خاصاً على تفاصيلها المتشعبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...