تنتشر في مصر بضعة مكاتب توفر لطلاب الدراسات العليا المصريين والعرب رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه جاهزة من دون أن يبذل الطالب جهداً يُذكر.
لا نتحدث هنا عن شهادة مزورة أو غير معترف بها، بل عن شهادة حقيقية يقوم باحث شاب بالعمل عليها نيابةً عنك مقابل مبلغ مالي متفق عليه لتقدمها للجامعة التي ترغب في الحصول على درجة علمية منها.
"درجتك العلمية أسهل مما تعتقد" كانت هذه هي الجملة الأبرز في منشور على إحدى صفحات فيسبوك المصرية، مع شرح يفيد بأن الصفحة لمركز تعليمي يساعدك على إنجاز شهادة الماجستير أو الدكتوراه من أهم الجامعات المصرية الحكومية.
بإمكاننا أن نكتب لك الرسالة بأنفسنا
تواصل رصيف22 مع الرقم المذكور في المنشور، لتكون هذه بداية رحلتنا في سوق بيع الشهادات العلمية في المحروسة. لم يكن العنوان الذي أعطاه لنا القائمون على الصفحة صعباً. إنه مكتب خدمات طلابية في أحد الشوارع المواجهة لجامعة القاهرة في منطقة بين السرايات، إحدى مناطق حي الدقي قرب جامعة القاهرة، وهي مشهورة بوجود مكاتب تصوير المستندات التي يستفيد منها طلاب الجامعة. "ما هي الخدمات المتاحة لطالب يرغب في عمل ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة القاهرة؟" طرح رصيف22 السؤال على الموظفة الشابة الجالسة وراء مكتب خشبي صغير داخل المقر. "يمكننا أن نكتب لك proposal (مقترح) الرسالة التي ستعرضها على الكلية، وإذا وافقوا على الرسالة، هناك اختياران، إما نساعدك في جمع وترجمة أي أبحاث تحتاجها لرسالتك، أو ننهي لك الرسالة لتقدمها بعد ذلك بنفسك للكلية. لكن هذا سيكلفك أكثر". أجابت الموظفة.تنتشر في مصر مكاتب توفر لطلاب الدراسات العليا رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه جاهزة دون جهد يُذكر
"يمكننا أن نكتب لك الرسالة التي ستعرضها على الكلية... وننهيها لك لكن هذا سيكلفك أكثر"وقالت إن تكلفة إنجاز الرسالة 25 ألف جنيه مصري (حوالي 1370 دولاراً)، مؤكدةً أن هذا السعر للمصريين، لكنه سيكون ثلاثة أضعاف للعرب، أما الدكتوراه فتكلف 40 ألف جنيه (حوالي 2250 دولار) على أن يزيد السعر لحوالي 6500 دولار للطلاب العرب. بحسب الموظفة، فإن الباحث يعرض فكرة الرسالة على المكتب، الذي يكلف بدوره معيداً من الكلية، يتعاون مع المكتب، بكتابة الفكرة بشكل علمي، ومن ثم يقدم الباحث التصور لإدارة الكلية التي تعرضها بدورها على مجلس الكلية ليحدد الموافقة أو يطلب تعديلات. في حال طلبت الكلية تعديلات يعود الباحث للمكتب، الذي يتولى أمر التعديل، ويعطيها مرة أخرى للباحث، وحين توافق الجامعة يبدأ المكتب في تنفيذ الرسالة. ويستغرق التنفيذ حوالي ستة أشهر ثم يسلمها المكتب للباحث حتى يقدمها للجامعة، التي تحدد موعداً لمناقشتها. وفي النهاية، يحصل الباحث المزعوم على الدرجة العلمية من دون أي مجهود. علماً أن المركز يشترط أن يكون الطالب الراغب في الحصول على الرسالة مسجلاً في إحدي الجامعات المصرية. وتلتزم الجامعات بقوانين التعليم في مصر، وهي أن يكون الطالب حاصل على شهادة الليسانس من جامعة أو معهد معترف به، وحصل على شهادة التوفل في اللغة الإنجليزية.
أزمة ضمير
داخل بهو كلية الإعلام بجامعة القاهرة كان موعد رصيف22 مع أسماء رمضان، المدرّسة المساعدة بقسم الصحافة. بهدوء تقول: "تدعي هذه المكاتب أنها تساعد الباحثين، لكنها في الحقيقة أكبر كارثة تواجه البحث العلمي في مصر". من وجهة نظر رمضان، فإن هذه الكيانات تمنح بعض الأشخاص درجات علمية دون أن يعرفوا المعنى الحقيقي للبحث العلمي ولا يستطيعون تنفيذه ولا استخدام أدواته. الأزمة الأكبر بحسب رمضان هي أن بعض الأساتذة المشرفين على رسائل هؤلاء الأشخاص لا يقومون بمراجعة المحتوى العلمي للبحث بشكل جاد للتأكد من صحته وصلاحيته، مما يجعل الأمر يمر مرور الكرام ويمنح هؤلاء الدرجات العلمية دون مجهود يذكر. "في المقابل، يشعر الباحثون الحقيقيون بالأسى جراء ذلك، فمن يمتلك الأموال يشتري البحث ويأخد الدرجة العلمية بينما الباحث الحقيقي يبذل مجهوداً مضنياً ويستهلك سنوات عمره لإجراء الأبحاث"، تضيف رمضان. وتكمل "هنالك غياب واضح للضمير في هذه الأزمة، فلا ضمير لمن يدفع ولا ضمير للمراكز التي تبيع ولا ضمير للمشرفين المجيزين لتلك الأبحاث".إفساد للمنظومة التعليمية
بالقرب من مكاتب خدمات الطلاب المنتشرة أمام جامعة القاهرة، وقفنا مع أسماء قنديل، الصحافية بمؤسسة روز اليوسف القومية، والحاصلة على ماجستير من كلية الإعلام، والتي عانت كثيراً حتى حصلت على الدرجة العلمية. تشير بيدها وهي تقول: "بعض هذه المكتبات تقدم رسائل جاهزة للباحثين المصريين والعرب، فتختصر على الباحث كل خطوات البحث العلمي التي يتكبدها الباحثون الحقيقيون لتخرج الرسالة إلى النور". برأيها، يدفع الطالب آلاف الجنيهات وبعد ذلك يحصل على رسالته، على طبق من ذهب، بعد دفع العربون والاتفاق مع المختص على الفصول النظرية وترجمة الدراسات الأجنبية وكتابة النتائج والقيام بالتحليل الإحصائي. وتقتصر مهمة الطالب على استلامها دون عناء يذكر. الحل بحسب قنديل هو وجود رقابة صارمة على المكاتب التي يتبين أنها تقوم بمساعدة طلبة الدراسات العليا في إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه من الألف إلى الياء.البرلمان ضد الشهادات المضروبة
في بداية شهر مارس الفائت، تقدمت إيناس عبد الحليم، عضو مجلس النواب المصري، ببيان بخصوص ما أسمته "الشهادات العلمية المضروبة"، وقالت في بيانها أن مصر تتصدر عربياً سوق الشهادات العلمية، علماً أنها قبلة الدارسين العرب الأولى. تقول عبد الحليم لرصيف22: "يجب أن لا تقف الحكومة المصرية صامتة أمام انتشار هذه الأماكن، التي يقبل عليها البعض للحصول على شهادات علمية لا سيما الماجستير والدكتوراه، بسبب الوجاهة الاجتماعية التي تضيفها هذه الشهادات". تقول عبد الحليم انها تستغرب أن بعض الدارسين العرب في مصر قادمون من دول بها جامعات تحتل مراتب متقدمة في التصنيفات العالمية، لكن استغرابها زال حين حققت في الأمر، فاكتشفت أن السبب هو الخدمات التي توفرها لهم هذه المكاتب. تغيب الرقابة الحكومية، بحسب عبد الحليم، عن هذه المكاتب وهو ما جعلها أقرب لمافيا تبيع الشهادات لكل من يريد بمقابل مادي. "الأمر سيؤثر سلباً علي سمعة مصر العلمية وسيصبح التعليم فيها بلا قيمة". تقول عبد الحليم.القانون خارج نطاق الخدمة؟
يرى المحامي المصري أحمد أبو المجد أن الإشكالية تكمن في صعوبة إثبات أن هذه المكاتب تقوم بعمل الرسالة للباحث من الألف إلى الياء، فهي تسجل نفسها قانوناً كمكاتب تقدم خدمات للدراسين، ومنها نسخ الرسائل وتنسيقها، وطباعتها وتجليدها، لكن ما يحدث طبعاً غير ذلك. يضيف أبو المجد: "من الناحية القانونية، هناك قوانين تضبط الأمر، لكن واقعياً لا يتم تنفيذها، فسرقة الأبحاث العلمية تخضع لقانون 82 لسنة 2002 بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية، وغرامة السارق تراوح بين 5000 و10000 جنيه، أو الحبس ثلاث سنوات حسب تقدير القاضي، علاوة على غلق المنشأة". لكن الإشكالية من وجهة نظر أبو المجد هي أن الباحث الحقيقي الذي قام بالرسالة فعل ذلك بالاتفاق مع المكتب وحصل على مقابل مادي، وبالتالي فهو شريك في الجريمة ولن يبلغ أن هناك باحثاً آخر سرق مجهوده. لذلك، يحتاج الأمر من وجهة نظر أبو المجد لمجهود من الأساتذة المشرفين على الرسائل للتأكد أن الباحث قام بالفعل بعمل مجهود حقيقي، وأن رسالته فعلاً تجاري مستواه العلمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت