تدخل سيدة خمسينية إلى الصيدلية التي يعمل فيها خالد في أحد الأحياء الواقعة وسط العاصمة السورية دمشق.
تطلب ظرفاً من دواء مخصص لحالات الدوار، وترفض أن تشتري العلبة بأكملها رغم محاولات الصيدلاني لإقناعها بضرورة تناول كامل العلبة.
"يا أخي الدكتور قلي آخد الدوا لمدة عشرة أيام، وبعدين براجعه. ليش لأشتري كل العلبة ويمكن ما أحتاجها؟"، تبرر موقفها بحزم.
لا يملك الشاب ما يعينه أكثر على إقناع السيدة، التي تخرج مع ظرف الدواء ذو الحبات العشرة "منتصرة" وقد استطاعت توفير 500 ليرة سورية.
ورغم أن ظاهرة شراء ظرف واحد من بعض الأدوية ليست بالجديدة في دمشق، إلا أن خالد، والذي رفض استخدام اسمه الكامل، يرى أنها كانت مقتصرة على المسكنات بشكل أساسي.
أما اليوم فباتت تنطبق على كثير من أنواع الأدوية، نظراً للوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه البلاد خلال سنوات الحرب القاسية.
"كنا نبيع ظرفاً من السيتامول أو البانادول وذلك حسب حاجة المريض، واليوم كثيراً ما يطلب مني الزبائن شراء نصف ظرف، أو حتى حبتين"، يقول خالد مضيفاً في حديثه "حتى أدوية الالتهاب، يشتري بعض المرضى نصف الكمية المطلوبة منها أملاً في أن تكون كافية كي لا يضطروا لدفع كامل ثمن العلبة والذي قد يصل إلى ألفي ليرة سورية (4 دولارات)".
يؤكد الصيدلاني انتشار هذه الظاهرة بشكل أوسع بكثير في مناطق ريف دمشق والتي تقطنها أغلبية من الأسر متواضعة الدخل.
ولعلّ هذه المشاهدات طبيعية في بلد يعيش حرباً طاحنة وعقوبات اقتصادية أنهكت الملايين من سكانه على مدار السنوات الفائتة، وهي مشاهدات تلقي الضوء على عشرات البدائل التي استطاع سكان دمشق ابتكارها كي يتمكنوا من التعايش مع مدخول قليل يكفي بالكاد حاجات عائلاتهم.
أرقام تفصح عن الكارثة
وفق تقرير نشرته صحيفة الوطن السورية في مايو الفائت، يعيش 87.4% من السوريين تحت خط الفقر الأدنى بحسب معايير البنك الدولي (أي أقل من 1.25 دولار أمريكي واحد للفرد في اليوم)، وذلك نقلاً عن دراسة قام بها مشروع جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية للاستقصاء الوطني للشرق الأوسط. ويعني ذلك، كما تقول الصحيفة، انخفاض القوة الشرائية للأسرة السورية بشكل كبير، حيث "تحتاج الأسرة في سوريا ما يعادل ستة أضعاف متوسط الأجر الحالي"، وهو ما يؤكده تقرير نشرته جريدة قاسيون المحلية أوائل نوفمبر الماضي. وقد قدرت تكاليف المعيشة لأسرة سورية مؤلفة من خمسة أشخاص بقيمة 290 ألف ليرة سورية (أي حوالي 600 دولار أمريكي)، وهي تكاليف تشمل الغذاء الضروري والسكن والتنقلات والتعليم والألبسة والصحة والاتصالات، في حين لا يتجاوز متوسط دخل الأسرة 100 دولار أمريكي. وبالحديث عن تردي الوضع الاقتصادي، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار تراجع قيمة الليرة السورية لأقل من العُشر (من 46 ليرة سورية مقابل كل دولار أمريكي في العام 2010 إلى حوالي 540 ليرة سورية للدولار الواحد في شهر مارس الحالي)، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع قياسي في الأسعار حسب المكتب المركزي للإحصاء، والذي بلغ أواخر العام الفائت نسبة 521% عن العام 2010، وهو ما يمثل وفق المكتب "معدل التضخم الرسمي في سوريا، الذي يختلف بحسب القطاع المعيشي والمحافظة". أرقام وإحصائيات صادمة دون شك، لم تترك أمام آلاف العائلات بداً من البحث عن سبل تجعل معيشتها أكثر سهولة ويسراً، وتواؤماً مع دخلها المتواضع، الذي تتناقص قيمته الشرائية يوماً بعد آخر.دراجات هوائية في الشوارع
تقول رائدة، وهي سيدة من دمشق تبلغ من العمر خمسة وأربعين عاماً وفضت ذكر اسمها الكامل، إن معظم مناحي حياتها تغيرت خلال السنوات الخمسة الأخيرة، بطريقة لم تكن لتتوقعها يوماً. فقد خسر زوجها ورشة النجارة التي كان يملكها في إحدى ضواحي دمشق، ما اضطرار العائلة للنزوح والسكن بالإيجار في أحد أحياء العاصمة متوسطة الحال، وتوجه رب الأسرة للعمل في إحدى الورش داخل المدينة. تحاول أن تكون متفائلة، إذ تعتقد بأن الحرب الدائرة في البلاد أبرزت قدرة السوريين الهائلة على التأقلم مع أسوأ الظروف. تقول: "لم يترك سكان هذا البلد وسيلة للتحايل على الوضع الاقتصادي المتدهور إلا واتبعوها. أينما نظرنا نجد مظاهر جديدة لم نكن نعرفها قبل الحرب، وأعتقد بأنها ستستمر كنمط ثابت في حياتنا حتى بعد انتهاء الحرب".حلول مبتكرة للفقر في سوريا: كفتة بلا لحم، دواء بلا علبة وسجائر لم تسمع بها سابقاً
"هي وقفت على الدخان؟ بس والله طعمتو وريحتو بتقصر العمر أكتر من الحرب"ولعل أنماط المواصلات الجديدة التي كانت وليدة الحاجة أبلغ دليل على كلام رائدة، فالدراجات الهوائية باتت منتشرة بشكل غير مسبوق في شوارع دمشق، وعلى الأخص بين الشباب والفتيات، كما أن تقاسم سيارات الأجرة بين ركاب ذوي وجهات قريبة لبعضها البعض مع دفع مبالغ أقل كان حلاً لمشكلة ارتفاع أجرة تلك السيارات بشكل يفوق قدرة معظم السكان.
الكفتة النباتية، صديقة الجيب والصحة
يتسع نطاق تلك المظاهر ليشمل حتى الأطعمة، ومنها على سبيل المثال منتج جديد أطلقته شركة "البشر" منذ أسابيع وحمل اسم "كفتة بديل اللحمة"، وهو عبارة عن غذاء مستخرج من فول الصويا، ويمكن استخدامه كبديل عن اللحم الذي بات شراؤه مقتصراً على شريحة محدودة من السكان ذوي الدخل المرتفع مع تراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين أربعة وستة آلاف ليرة سورية (8 إلى 12 دولاراً). وانتشرت إعلانات المنتج الجديد في معظم شوارع دمشق، مشجعة الناس على شراء هذا البديل "الصحي والأكثر توفيراً بسعر ألف ليرة سورية للكيلوغرام الواحد"، وهو ما تؤكد رائدة نيتها تجربته خلال الأيام المقبلة. وفي حديث مع أحمد الذي يمتلك متجراً لبيع المواد الغذائية والمنظفات في حي البرامكة بدمشق، يشير إلى إقبال سكان المدينة ذوي الدخل المحدود والمتوسط على شراء المنتج المذكور، حيث لا يمر يوم دون أن يبيعه لأكثر من عشر زبائن على أقل تقدير. وبفكاهة واضحة يحيل أحمد الإقبال على "الكفتة بديلة اللحمة" إلى رغبة السوريين وخاصة الفتيات في المحافظة على رشاقته وصحتهم وعدم تناول أطعمة تحتوي على نسب عالية من الدهون، ويستطرد بالقول: "الكل يبحث عما هو خفيف على المعدة، وخفيف على الجيبة بالطبع".أوسكار، أختيمار، أوريس، كونتيننت
يضحك أبو كريم، والذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة في دمشق، عند سؤاله عن الكيفية التي يتدبر بها معيشة عائلته المكونة من خمسة أفراد بدخله الشهري الذي لا يتجاوز ثلاثمائة دولار. بابتسامة عريضة يشير إلى علبة سجائره التي كتب عليها اسم "أوسكار" ويقول "حتى الدخان لم يسلم من تبعات الحرب وتردي الوضع الاقتصادي، فكانت للأنواع التي اعتدنا تدخينها بدائل أقل سعراً، وبالطبع أسوأ طعماً وجودة". ويضيف أبو كريم أن أنواع الدخان التي كان كثير من السوريين يستهلكونها قبل الحرب باتت ذات أسعار باهظة قد تصل إلى 1300 ليرة سورية (حوالي دولارين ونصف)، في حين أن انتشار عشرات الماركات الجديدة والرخيصة شكّل حلّاً اقتصادياً لآلاف المدخنين. "أوسكار، أختيمار، أوريس، كونتيننت وأسماء أخرى لم نعرفها يوماً، لكن سعر معظمها لا يتجاوز مئتين وخمسين ليرة سورية (أي نصف دولار أمريكي). من أين منشؤها؟ الله بيعلم"، يقول أبو كريم، شارحاً أن هناك من يقول إنها مستوردة من إسبانيا، والبعض يتحدث عن بواخر تحوي مصانع وسط البحر المتوسط، تعمل على إنتاج هذا الدخان الرخيص وإرساله لأهل سوريا. "هي وقفت على الدخان؟ بس والله طعمتو وريحتو بتقصر العمر أكتر من الحرب"، يضيف متهكماً. يؤكد أحمد صاحب المتجر قول أبو كريم، إذ ينوّه لتوقف تعامله مع أنواع الدخان مرتفعة السعر والتي يقتصر الطلب عليها بحسب رأيه على الأحياء الأكثر ثراء، وتوجهه لبيع الأنواع الجديدة والرخيصة والتي تناسب المستوى المعيشي لمعظم المدخنين. ربما لم يتوقع كثير من سكان دمشق أن يدخلوا يوماً إلى محال بيع الخضار والفواكه ليطلبوا شراء حبة ليمون أو حبتي بندورة، أو أن يتنازلوا عن جزء من احتياجاتهم الأساسية أو عن مستوى معيشتهم، وهم المعتادون على شراء ما تحتاجه عائلاتهم دون أن يعيروا أدنى اهتمام للكميات أو الأسعار، إلا أن الحرب بكل تبعاتها هي سيدة الموقف اليوم وفي كافة أنحاء البلاد، وستبقى كذلك إلى أمد غير معلوم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...