كان لأهل الشام الذين هاجروا إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر الفضل والريادة في نقل مصر التي كانت مهيأة تماماً لاستقبالهم إلى مكانة علمية وثقافية مرموقة ومتميزة، وأدخلوا فيها أنظمة العمل الخاص أو ما يسمى حالياً (بالقطاع الخاص)، وطوروا في النظام الاقتصادي وأنشأوا المصارف، ولهم دور الريادة في العمل الثقافي في مصر.
لماذا هاجروا إلى مصر؟
يقول المؤرخ المصري عاصم الدسوقي لرصيف22 إن من أهم الأسباب التي دفعت الشوام للهجرة إلى مصر كان الصراع الطائفي الذي أحدثه العثمانيون بين المسلمين والمسيحيين في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1861، والذي عرف وقتذاك بـ"حوادث الستينيات"، كذلك الصراع الملّي بين الدروز والموارنة في جبال لبنان، ما دفع كثيراً منهم للهجرة إلى أوروبا، ومنهم من هاجر إلى أمريكا، وهاجرت أعداد منهم إلى مصر.ويوضح وجيه كوثراني في كتابه "السلطة والمجتمع والعمل السياسي، من تاريخ الولايات العثمانية في بلاد الشام" أن طلائع المهاجرين الشوام كانوا من أولئك الذين عانوا من الاستبداد والظلم الذي لحق بهم بسبب آرائهم السياسية ودعواتهم التحررية ومناداتهم بالإصلاح.
مشاركتهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المصرية
يروي حلمي إسماعيل في كتابه "دراسات في الحالة الاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر" أن الشوام انخرطوا في الأنشطة التجارية وعملوا كموردين للسلع والمنتوجات وخصوصاً الأقمشة الحريرية والقطنية التي كانوا يجلبونها من أسواق دمشق وحلب.
كذلك قاموا بشراء العقارات والتزام الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء مصر، وامتد نشاط بعضهم ليشمل استيراد سلع من بلاد اليمن والهند إلى مصر، واعتمد محمد علي على أعداد منهم للإشراف على زراعة بعض الأصناف الجديدة التي جلبوها معهم.
أما عن إسهامات الشوام الثقافية المصرية فيقول المؤرخ الدكتور ياسر ثابت لرصيف22 إن الشوام ساهموا في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في مصر، وكان أغلبهم من ذوي التعليم العالي، وساعدتهم ثقافتهم وأفكارهم على تقبل المفاهيم الغربية والعمل بها.
وأضاف أن ميلهم إلى العمل في ميدان الصحافة ساعدهم على نشر الأفكار والآراء الجديدة في المجتمع المصري.
وقد برز في النقاش حول مسألة القومية العربية والتنوير الفكري، كلٌ من يعقوب صروف (1852- 1927) وشبلي شميل (1850-1917) وفرح أنطون (1874- 1922) وجرجي زيدان (1861- 1914)، وسليم النقاش وأديب إسحق (1856- 1885).
كما ازدهر المسرح والدراما في مصر بفضل مشاركة الفرق الوافدة من الشام اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأولى الفرق الشامية التي هاجرت إلى مصر هي فرقة سليم النقاش وأديب إسحق التي وفدت عام 1876.
فلنتعرف هنا على أبرز أعلام أهل الشام الذين هاجروا إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر:
رجل الأعمال حبيب باشا السكاكيني
ولد في دمشق حوالي عام 1843 لأسرة مسيحية، ولم تعرف عن نشأته معلومات كثيرة فالتأريخ لحياته بدأ منذ قدوم أسرته إلى مصر. ومع ترسيخ قواعد العائلة في مصر حصلت على لقب "السكاكيني" لاشتغال والده بمهنة صناعة السكاكين.
عمل حبيب السكاكيني بشركة قناة السويس، وشارك في بناء دار الأوبرا المصرية، واستطاع خلال تواجده في مصر أن يقيم علاقة جيدة مع السلطان عبد الحميد الذي وهبه قصراً عثمانياً في القاهرة عام 1882 عُرف لاحقاً بـ"سرايا السكاكيني". وحصل على لقب باشا وأصبح من أشهر أغنياء مصر أنذاك، وتوفي بالقاهرة عام 1923.
الأخوين صيدناوي (سليم وسمعان صيدناوي)
ينتمي الأخوان صيدناوي (سليم وسمعان) إلى أسرة مسيحية عاشت في مدينة دمشق السورية. انتقلا عام 1878 إلى مصر وقاما بإنشاء "محلات صيدناوي" التي لا تزال تعمل في مصر حتى الآن.
منح الخيديوي عباس حلمي الثاني سمعان صيدناوي لقب بك عام 1904. وتوفي هذا الأخير في فرنسا عام 1936 عن عمر ناهز الثمانين عاماً بعد فترة من وفاة أخية الأكبر سليم.
عبد الرحمن الكواكبي
أبرز وجوه النهضة العربية ومن أشهر روادها في القرن التاسع عشر، وواحد من الذين أسسوا الفكر القومي العربي.
ولد الكواكبي عام 1855 بمدينة حلب السورية، وبدأ حياته صحافياً ومحرراً في جريدة "الفرات" الصادرة في حلب، واشتهر بالمقالات التي تفضح فساد المسؤولين. تنقل بين آسيا، وسواحل أفريقيا، ومصر، حيث اشتهر وذاع صيته وأصبح له تلاميذ ومريدون كثر. توفي عام 1902 في مدينة القاهرة وقال البعض إنه مات مسموماً. من أشهر أعماله كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد".
محمد رشيد رضا
ولد عام 1865 في قرية القلمون بجبل لبنان. يعد من أبرز مفكري الإصلاح الإسلامي في القرن التاسع عشر. هاجر إلى مصر عام 1898، وتتلمذ على يد العلامة المصري الشيخ محمد عبده، واشترك في تأسيس مجلة "المنار" على غرار مجلة "العروة الوثقى" بمصر.
وجد رضا في الهجرة إلى مصر الميدان المناسب للعمل الفكري والإصلاحي الذي طمح إليه وجاهد من أجل توصيله للناس. وقد بدأ حياته الفكرية الإصلاحية على نهج معلمه عبده ولكن في آخر مراحل حياته تبنّى أفكاراً سلفية قبل أن يتوفي بمصر عام 1935.
كان لأهل الشام الذين هاجروا إلى مصر في منتصف القرن 19 الفضل في نقل مصر إلى مكانة علمية وثقافية مرموقة
استقروا فيها وأحبوها، وساهموا في ريادتها...
الأخوان تقلا (سليم وبشارة)
ولد الأخوان تقلا بلبنان، وعرفت أسرتهما بآل البردويل، ونسب أبوهم إلى أمه تقلا فعرف أولاده بسليم وبشارة تقلا.
تعلم سليم في مدارس بلدته وأكمل دراسته بالمدرسة الوطنية ببيروت، ثم عمل في تدريس اللغة العربية في البطريركية، وألف كتاب "مدخل الطلاب إلى فردوس لغة الإعراب"، قبل أن يهاجر إلى مصر عام 1874.
تبعه إلى مصر أخوه بشارة الذي جاء ليساعده في إنشاء مطبعة وجريدة عرفت باسم "الأهرام" عام 1875. في عام 1892 توفي سليم تقلا في القاهرة، وتوفي بعده أخوه في عام 1943. وتبقى صحيفة الأهرام المصرية علامة بارزة على دور أهل الشام في الحياة الصحافية المصرية.
نعوم شبيب
يعتبر من أبرز المهندسيين المعماريين في مصر. هو من أصول لبنانية. ولد في القاهرة عام 1915، وتوفي في كندا عام 1985. أسس في القاهرة شركة معمارية عرفت بشركة نعوم شبيب عام 1940 تخصصت في أعمال العمارة والبناء.
ومن أهم الأعمال المعمارية التي برز بها شبيب في الحياة المصرية برج القاهرة عام 1961، ومبنى جريدة الأهرام عام 1968، وسينما ومسرح علي بابا، ومدرسة القللي الخيرية، ومبنى كايرو موتور لتجارة السيارات، وكنيسة سانت كاترين، وكنيسة سانت تريز.
جرجي زيدان
ولد في بيروت عام 1861 لأسرة مسيحية فقيرة. هاجر إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر الميلادي والتحق بكلية الطب، ولكن ظروف الحياة اضطرته إلى البحث عن عمل ليتمكن من استكمال تعليمه، فعمل في تحرير جريدة الزمان.
وفي عام 1892 صدر العدد الأول من مجلة الهلال التي أنشأها في القاهرة بالاشتراك مع أبنه إميل. أعاد كتابة وقائع كثيرة من التاريخ العربي بأسلوب روائي مخلفاً لنا عشرات الكتب، قبل أن يتوفى عام 1914.
يعقوب صروف
ولد عام 1852 في قرية الحدث بلبنان. أرسله والده للتعلم في مدرسة الأمريكان في عبيه، وبعدها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت فحصل على شهادته عام 1870. تولى بعد ذلك إدارة مدرستي الأمريكان في صيدا وطرابلس.
في مطلع عام 1876 اشترك مع فارس نمر في إنشاء مجلة "المقتطف" التي استمرت في الصدور قرابة تسع سنوات تقريباً. وفي عام 1888 نقل نشاط المجلة إلى مدينة القاهرة، واشتهرت في معظم البلدان العربية وساهم من خلالها في نشر الثقافة والفن العربي، وظل يشرف على إصداراتها حتى توفي في القاهرة عام 1927.
شبلي شميل
ولد شبلي شميل في لبنان عام 1850، وتخرج في الكلية البروتستانتية التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، قبل أن يكمل دراسة الطب في باريس.
بعدها هاجر إلى مصر مع النازحين من بلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر، وأقام في مدينة الإسكندرية، ثم انتهى به الأمر في القاهرة.
أصدر شميل عام 1886 مجلة "الشفاء". يعتبر من أوائل المفكرين العرب الذين تحدثوا عن نظرية التطور في الصحف والمجلات، وألف كتاباً بعنوان "فلسفة النشوء والارتقاء". شارك عام 1914 في إصدار صحيفة "المستقبل الأسبوعية" التي لم تستمر طويلاً. وتوفي في القاهرة عام 1917.
خليل مطران
ولد عام 1872 في مدينة بعلبك بلبنان، وتلقى تعليمه بالمدرسة البطريركية ببيروت. عمل في صحيفة "البيان العربي" متتلمذاً على يدي "الأخوين خليل"، وإبراهيم اليازجي، وكان لقراءته أدب شعراء وأدباء أوروبا أثر كبير في بناء فكره ووعيه الأدبيين.
تنقل مطران بين باريس والقاهرة وعمل في جريدة الأهرام المصرية، وساهم في انشاء "المجلة المصرية"، وجريدة "الجوانب المصرية" لمناصرة الحركة الوطنية التي كان يتزعمها مصطفى كامل باشا قبل أن يتوفى بالقاهرة عام 1949.
بديعة مصابني
ولدت في دمشق عام 1892 لأب لبناني وأم سورية. سافرت مع والدتها إلى أمريكا الجنوبية، واستقر بها الحال في مصر عام 1919، أي إبان الثورة المصرية التي تزعمها سعد زغلول في ذاك الوقت.
اجتهدت في تعلم الغناء، وشكلت فرقة غنائية عرفت بفرقة "بديعة مصابني" التي تخرج منها عدد كبير من الفنانين، منهم فريد الأطرش، وتحية كاريوكا، وسامية جمال، ومحمد الكحلاوي، ومحمد فوزي. ظلت بديعه مصابني متزعمه حركة المسرح الاستعراضي المصري نحو ثلاثين عاماً، وتوفيت عام 1974.
آسيا داغر
ولدت عام 1901 بقرية تنورين في لبنان، وبدأت حياتها الفنية في التمثيل. شاركت في بطولة فيلم "تحت ظلال الأرز" الذي عرض عام 1922، وانتقلت عام 1923 إلى مصر مع شقيقتها ماري وابنتها ماري.
اهتمت منذ قدومها إلى مصر بالعمل في مجال التمثيل وشاركت في بطولة أول أفلام السينما الصامته في مصر عام 1927 وهو فيلم "ليلي" من إنتاج عزيزة أمير. وفي مطلع العام 1927 أسست أولى شركات الإنتاج السينمائي في مصر والعالم العربي وهي "شركة لوتس فيلم" لإنتاج وتوزيع الأفلام.
ساهمت داغر في رفد السينما المصرية بمخرجين كثر منهم هنري بركات، حسن الإمام، حسن الصيفي، حلمي رفلة، كمال الشيخ، وغيرهم. وتوفيت في القاهرة عام 1986.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.