شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أنا وسعاد ونعيمة

أنا وسعاد ونعيمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 20 مارس 201704:24 م
لا أخجل من حقيقة أنني كنتُ أتمنى في صغري أن أكون راقصة. في صغري فقط. كنتُ أستشعر بحس البنت الغريزي أن الرقص مهنة حرجة لا يقبلها البيت والعُرف والمجتمع. لذلك لم أتمنَّها إلا مثل "فيروز الصغيرة" من دون أي اعتبار لما يُسمى "عمالة الأطفال". فأنا لم أكن إلا طفلة تجري وراء متعها البريئة. كنتُ أجلس كالصنم أمام بطلتي الجميلة الناعمة "نعيمة عاكف" أحبها كلها، خفة ظلها وجسدها المرن وجريها ولعبها وهرجها ومرجها وشقاوتها وسخريتها غير المحدودة. أحفظ اسكتشاتها الغنائية وأداءها ونظراتها الكوميدية وملابسها المهلهلة في "لهاليبو" و"مليون جنيه" وأحار لحيرتها في "تمر حنة" وأتخيل حيرة المرأة الواقعة بين حب رجلين وأنا الطفلة التي لا تمتلك آنذاك حتى حب رجلٍ واحدٍ. ولا يكاد الفيلم ينتهي حتى أنسحب إلى غرفتي وأقف أمام المرآة التي بالكاد استطيع بلوغها وأحاول تقليد فنانتي المفضلة في كل ما تفعل. Naima_AkefNaima_Akef كنتُ أعي تمامًا وأنا في الرابعة من عمري الجدل الكبير الذي دار بين أمي وأبي حين أعلنتُ رغبتي في أن أرقص الباليه أو ألعب الجمباز، أيهما أقرب للموافقة. رفض أبي الرجل الصعيدي الفكرة. كيف لابنة الأسرة الصعيدية العريقة التي تمتد جذورها في 3 بلاد كما يقول دائمًا أن "تلبس لبس البنات الخليعة" وأن تتشقلب في الهواء على حبل أو أن تجري بجزمة باليه ليتلقفها ولد مايص مايع يقف في نهاية خشبة المسرح ويحملها فوق كتفيه. كان يمكن لأبي أن يتمنى موته الحتمي دون أن يرى ابنته في موقف كهذه. ناهيك بأن قانون عائلتي الصعيدية ربما يقضي بقتلي أو وأدي حية إن وافق هو على ذلك. سمعتُ الجدل جيدًا وخزَّنته ذاكرتي الطفلة التي ربما لم تعِ أغلبه لكن قلبي استشعر الرفض جيدًا. وانتهى حلم القفز واللعب وحذاء "البلارينا"، وبتُّ أتابع أفلام نعيمة عاكف بكثير من الاستسلام وكثير من الشغف ولم أعد أدخل غرفتي بعد الفيلم مُطلقًا. Suad_HusniSuad_Husni بعد سنوات قليلة لطشني عفريت سعاد حسني. حفظت أفلامها عن ظهر قلب واحتفظت على جهاز الكمبيوتر الخاص بي بنحو 6000 صورة لها بين صور كواليس أفلامها وصور حضورها المناسبات العامة وصور جمعتها بزملائها الفنانين. امتلأ حائط غرفتي بصورها المختلفة حتى أصبحت سعاد "تيمة" وأسلوب حياة أعيشه وليس مجرد نجمة أحببتها كالكثيرين غيري. علَّقتُ ورقة صغيرة على باب غرفتي كتبت عليها "وما نيلُ المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا كدهوه" كما قالتها في "خللي بالك من زوزو". وأصبحت هي بأفلامها وأدوارها مضرب المثل في حديثي. أقول لصديقتي الكثيرة الخروج والسهر: احترمي المجتمع ولا تفعلي كسعاد في الثلاثة يحبونها. وأنصح أخرى: تمسكي بحبك حتى وإن أحببتِ قاطع طريق ودافعي عن اختيارك كما فعلت سعاد في المشبوه. وهكذا. كانت سعاد حية من لحم ودم تعيش معي أحلام مراهقتي وأتعاطف معها سينمائيًا وحقيقةً. حين ماتت سعاد وكنت وقتها أنتظر نتيجة الثانوية العامة بكيتُ وعشتُ طقوسًا جنائزية في البيت. تابعتُ بشغف أخبار القتل/ الانتحار الذي تعرضت له سعاد. ولأنني طالما تقمصتها و"عشتُها وتلبسني عفريتها" كدتُ أجزم أن التي مثل سعاد لا تنتحر أبدًا، وإن كانت لا بد فاعلة فكان الأولى بها أن تفعل حين انحسرت عنها الكاميرات وتغير شكلها وجسدها عن الفراشة التي كنا نعرفها. سعاد لن تعرف كيف تنتحر. ومرت السنوات ووقع في يدي كتاب لصحفي مصري اسمه "سيد الحراني" يحكي فيه محاولة تجنيد سعاد حسني لمصلحة المخابرات المصرية ويحكي أن المخابرات ذاتها تراجعت عن هذا القرار السفيه إذ لم تترك سعاد القاصي والداني إلا و"أسرَّت" له أنها عميلة مخابرات. تراجعت المخابرات بجلالة قدرها عن تجنيد الفراشة التي لا تكف عن الطيران، والتي هي أقوى من القيود وأصعب من التتبع وأكثر شيوعًا من السرية. تراجع الجهاز عن تجنيدها وسرَّحها سرًا كما جنَّدها، رغم أن استقطابها تم بخديعة إيقاعها في حب أحد ضباط المخابرات الذي أوهمها أنه ضابط فرنسي. وهو ما أكد ظنوني بأن جنيتي الجميلة ما كانت لتقتل الحياة بداخلها البتة. وبعدما عايشت الحياة، ورأيتُ منها ما رأيت واختبرَتْ مني ما اختَبرَتْ أصبحت أتفهم ذلك الانسحاب الطوعي والقوقعة التي يخلقها المرء منَّا حول نفسه ولا يعطي مفتاحها لأحد. أعرف أن هناك لحظة في الحياة تُبغضُ فيها الحياة وتهرب من العيون/ الكاميرات/ الأصدقاء، كل من يعرفونك ويهمُّون بالسؤال: "مالك؟". وبين نعيمة التي التهم حياتها السرطان، وسعاد التي تكتل عليها المرض والإهمال ظللتُ أنا حبيسة هاتين البطلتين اللتين تلبستا حياتي وتقاسمتا حائط غرفتي، حتى أنني عندما أحببتُ كان الحب في نظري "يا واد يا تقيل" و"الشاب الأسمر جنني". وإلى هاتين الناعمتين الشقيتين الخالدتين سلامٌ.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image