شبه الجزيرة الايبيرية التي سكنها الأوائل ممن عبروا الحاجز المائي الفاصل بين القارة الأوروبية وقارة أفريقيا عند جبل طارق، اشتهرت في العالم الإسلامي بجنوبها الذي عُرف بالأندلس.
شهدت الأندلس تنوعاً في سكانها وثقافاتهم وخلفياتهم، فمع من بقي من سكان البلاد، جاء الأمويون، ومن صحبهم من سوريا ومن اليمن، وكذلك انتقل إليها جماعات من شمال إفريقية، فكانت فترة غنية بالتأثيرات المتبادلة، دامت ما يقارب الـ800 عام.
وازدهرت في الأندلس، خاصة في القرن التاسع الميلادي، صناعة الكتب، فكان يقال إن قرطبة "أكثر مدن الله كتباً"، وما كان ذلك إلا انعكاساً للحياة الثقافية الناشطة في البلاد.
هذا الانتاج الثقافي للأندلس، الذي ما زال يغني الثقافة العربية، قد أثّر بالأدب الأوروبي، خاصة الإسباني، وهو موضوع حديثنا.
لابد من الإشارة إلى الدراسات الهامة في العقدين الماضيين التي تناولت الثقافة الأندلسية وتأثرها وتأثيرها بثفافة الممالك الكاثوليكية في الشمال، وبثقافة شمال إفريقيا، إذ تتبع الباحثون معالم هذا التزاوج في عدة مجالات مادية وأدبية. نقدم واحدة منها هنا، ألا وهي الأمثال والملح في الأدب الشفوي والمكتوب.
التأثير في الأدب: ملح وأمثال وأشعار وقصص
يقول الدكتور أحمد السعدني، أستاذ الأدب المقارن، لرصيف22: “بدأت مظاهر التأثير والتأثر بين الثقافة الأوروبية لاسيما الإسبانية والثقافة العربية مع بدايات وجود الدولة العربية الإسلامية في الأندلس. ظهرت واضحة في عدة أشياء من أهمها شعراء التروبادور Troubadour، وهم شعراء وموسيقي القصور في الجنوب الشرقي لفرنسا الذين تأثروا بشعر الموشحات الأندلسية”.
والموشحات هي نوع شعري ظهر في الأندلس نهاية القرن التاسع الميلادي، ويقال أن الكلمة نفسها تروبادور قد أتت من الأصل العربي "طرب".
التروبادوريوضح السعداني أن كثيراً من الباحثين الأوروبيين يذكرون التأثير الواضح للثقافة العربية الإسلامية في الثقافة والأدب الأوروبي، إذ يذكر الكاتب والمفكر الإسباني بلاسيوس أثر الدين الإسلامي ورسالة الغفران لأبي العلا المعري في "ملحمة الكوميديا الإلهية" لدانتي.
بحسب كتاب "تأثيرات عربية في حكايات إسبانية: دراسات في الأدب المقارن" (2008)، الذي جمع فيه الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم مقالات نشرت متفرقة في اللغة الاسبانية للباحث فرناندو دي لاجرانخا، وترجمها للعربية، إن التأثر المتبادل بين الثقافتين في مجال الأدب، يمكن تتبعه في قصص متشابهة، إلا أنه لا يزال فرضيات بحاجة إلى أدلة تاريخية دامغة، ومع ذلك يمكن أن نجد فيه مجالاً غنياً للبحث والتنقيب.
المؤلفات العربية وتأثيرها على الثقافة الإسبانية
أهم الأمثلة على مصادر التأثير هي المؤلفات العربية التي لعبت دوراً ملموساً في مؤلفات الأدب الشعبي الإسباني. وتجمع هذه المؤلفات النوادر والقصص بمفهومها البسيط، والمأثور والأمثال، والحكم والأشعار، وبدأت تظهر في كل مجالات العلوم في الأندلس.
كان أشهرها مؤلفات الأدب دون شك، والتي لا تزال حتى اليوم محط اهتمام القراء في الشعوب العربية، مثل كتاب العقد لابن عبد ربه الأندلسي (940).
ويعتقد الباحثون أن المؤلفات العربية قد تركت أثراً على الثقافة الإسبانية عن طريق الترجمة أو الثقافة الشفوية.
يجد فرناندو دي لاجرانخا تأثر الأدب الإسباني بالمؤلفات الشعبية العربية في أعمال مثل سانتاكروث، خوان دي تيمونيدا، وكتاب "القونت لوقانور" لدون خوان مانويل.
أما الأمثال المتشابهة، فهي بدورها تشير إلى التأثير بين الثقافتين، كما بيّن الباحث غرثية غومث الذي بحث في التقاطع بين الأمثال العربية في حدائق الأزاهر وبين الأمثال الإسبانية لدى الماركيز دي سانتيانا.
تقول الدكتورة نورا علي، الباحثة في مجال الأدب المقارن، لـرصيف22: “أثّر الأدب العربي في الثقافات الغربية تأثيراً واضحاً، إذ نجد العديد من الأعمال الغربية قد أتت على شاكلة الكثير من الأعمال الأدبية العربية".
وتشير علي إلى تقارب الثقافتين الأوروبية والعربية من ثلاث جهات متلاحقة في القرون الوسطى: أولها جهة القوافل التجارية بين آسيا وأوروبا الشرقية والشمالية عن طريق بحر الخزر أو طريق القسطنطينية، والجهة الثانية جهة المواطن التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها زمناً طويلاً في سوريا ومصر وبعض البلدان الأخرى، أما الجهة الثالثة فهي الأندلس وصقلية التي قامت فيها دول المسلمين وانتشر فيها المتكلمون باللغة العربية.
في الصراعات على النفوذ والتوسع السياسي، تنقلّت قصص وحكايات ونوادر بين ثقافات عربية وإسبانية
القصة نفسها، ولكن بدلاً من الجامع، تدخل شخصيات القصة الكنيسة، وبدلاً من الخليفة المأمون، نجد الملك الموقر
حكاية "العيد والفقيه الفقير وحبات الترمس"
واحدة من الحكايات الذائعة الصيت في الأدب الإسباني. ذكرت في كتاب "القونت لوقانور"، كما في المشهد العاشر من مسرحية دون بدرو كالديرون دي لاباركا "الحياة حلم" من القرن السابع عشر، التي لا تزال مشهورة حتى اليوم، يحفظها معظم الإسبان.
دون بدرو كالديرون دي لاباركتحكي القصة في نسخة القونت لوقانور أن رجلاً كان متنعماً بثراء وجاه، دارت عليه الدنيا حتى أصبح فقيراً إلى حد العوز. وفي أحد الأيام، لم يجد معه إلا حبات من "الترمس"، فجلس يتذكر عزّه الذي زال، ودمعت عيناه وهو يأكلها. ولكنه حينها رأى رجلاً آخر بجواره يلتقط قشر الترمس الذي يلقيه ويأكله من شدة حاجته.
تختتم القصة في كتاب القونت لوقانور، ببيت شعر يعطي مغزاها: "لاتقنطنْ أبداً من الفقر، فهناك أسوأ منك في العسر".
أما في نسخة كالديرون، فالقصة تحكي عن عالم فقير في أبيات هي التالية: "يحكون أن عالماً/ كان فقيراً بائساً/ يلتقط العشب ويأكله/ قال لنفسه: ترى من الذي يكون أسوأ مني حالاً؟/ حين أدار رأسه/ ألفى إجابة السؤال/ ثمة عالم فقير/ يلتقط العشب الذي يطرحه".
قدّر البعض أصل الحكاية في قصة تماثلها، هي "حكاية الدرويش" عند الشاعر الفارسي الشهير سعدي الشيرازي (1210 ـ 1291 أو 1292)، وهي عن فقير لا يستطيع شراء حذاء، فيجد السلوان عندما يقابل في مسجد في الكوفة فقيراً مبتور القدمين.
رسالة القصة الوعظية هي التواضع في وجه المصائب، ومنها المثل الذي لازال سارياً: "من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته".
وهناك قصة مشابهة عن عبد الرحمن القنازعي الذي يصفه المترجمين بالعالم الزاهد الورع (عاش في القرن العاشر الميلادي)، وصلتنا في كتاب ابن سعيد "المغرب في حلى المغرب"، من القرن الثالث عشر ميلادي، وهو قد نقلها بدوره، كما يدّعي، عن نص لابن بشكوال ضاع ولم يصلنا.
يقول عبد الرحمن القنازعي: "كنت بمصر وشهدت العيد مع الناس، فانصرفوا إلى ما أعدوه، وانصرفت إلى النيل، وليس معي ما أفطر عليه إلى شيء من بقية ترمس بقي عندي في خرقة، فنزلت على الشط، وجعلت آكله، وأرمي بقشره إلى مكان منخفض تحتي، وأقول في نفسي: ترى إن كان اليوم في مصر في هذا العيد أسوأ حالاً مني؟ فلم يكن إلا أن رفعت رأسي، وأبصرت أمامي، فإذا برجل يلقط قشر الترمس الذي أطرحه ويأكله، فعلمت أنه تنبيه من الله عزّ وجل، وشكرته".
يعتقد فرناندو دي لاجرانخا أن قصة القنازعي هي أصل القصة الإسبانية، فهي تختلف ببعض التفاصيل، ولكنها تشبهها في المغزى وبـ"حبات الترمس". كما قد تكون القصة قد وجدت طريقها إلى ابن سعيد متأثرة بالنسخة الإسبانية، عندما نقل قصة القنازعي.
حكايات "التينات الثلاث"
نختار حكاية ثانية لتتبع التأثير العربي بالأدب الإسباني، وهي قصة "التينات الثلاث"، من حكايات لويس دي نبيدو في "كتاب النوادر".
الكونكستور دييجو دي روخاس
تحكي القصة أنه في أحد الأعياد، وضع ثلاث تينات على مائدة الكونكستور دييجو دي روخاس (1544) (وكونكستور هو لقب يطلق على الجنود الفاتحين، والمغامرين، والمستكشفين الإسبان بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر). كانت له شهية في التهامها، ولكنه اضطر لاستخدام المرحاض، وحين عاد وجد أن أحد الغلمان قد التهم إحداها، وحين سأله: "قل لي كيف أكلتها، ألم تخش شيئاً؟" فهم الغلام السؤال حرفياً، وعاود فعلته فأكل تينة ثانية ليبين لروخاس كيف أكلها، بدهشة، فأخذ دييجو دي روخاس التينة الباقية، ليأكلها قبل أن يلتهمها الغلام!
يرى فرناندو دي لاجرانخا أن للقصة حكاية مشابهة في كتاب "حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر" لابن عاصم الغرناطي (1426).
كما تتكرر القصة عند الكاتب براويلو فوث (1865) في كتابه "حياة بدرو سابوتو"، وتتشارك مع القصة العربية بتفاصيل أكثر (منها إرسال التين إلى الملك)، ولكنها تأخذ صبغة هزلية، وهي أطول من نظيرتها العربية.
يشير الباحث إلى أن هذه الحكايات، وكذلك الأمثال والنوادر، من الممكن أن تكون قد تنقلت بين الثقافتين بالطريق الشفوي على يد الموريسكيين، الذين اعتنقوا الدين المسيحي بعد الإسلامي، والذين عاشوا في شبه الجزيرة الأيبيرية ثمّ رُحّلوا إلى شمال أفريقيا، فكانوا، على قساوة تجربتهم، جسوراً بين الثقافتين.
حكاية الجامع
يحدد فرناندو دي لاجرانخا حكايات عربية في كتاب ملتشور دي سانتاكروث "الأيكة الإسبانية" (Floresta Espanola)، ويتتبع أصولها العربية، من أقوال مأثورة وحكايات معروفة.
عظمة الأندلس من تنوّع سكانها وتمازج ثقافاتهم: محلية، شمال أفريقية، ومشرقية بدأت مع من عبروا مضيق جبل طارق
يشير كيف تتغير تفاصيل القصص: فبدلاً من دخول الجامع، تدخل شخصيات القصة الكنيسة، وبدلاً من شخصية الخليفة المأمون على سبيل المثال، نجد الملك الموقر، ويستبدل الثري الذي فقد كل شيء في النسخة الإيبيرية العالم الفقيه الذي عانى الفقر، كما رأينا في قصة "الترمس".
"حكاية الجامِع" هي إحدى القصص الفكاهية التي وردت في كتاب "الأيكة الإسبانية"، وهذا نصها: "سأل عريف تلميذاً: كم عدد بنات عمك، فأجابه باللاتينية: أربع "أوانٍ" كل واحدة ذات مذاق لذيذ".
ولهذه الحكاية مقابل في الأدب العربي، يشبهها في صغرها وفي مقصدها، في كتاب "الأذكياء" لأبي الفرج بن الجوزي (1200).
تقول الحكاية: "قال الجاحظ، قلت لأبي سعد الطفيلي: كم أربعة في أربعة؟ قال: رغيفين، وقطعة لحم"، وكذلك "قال المبرد، قِيل لطفيلي: كم اثنين في اثنين؟ فقال أربعة أرغفة"، وثالثة "قال أبوهفان: قِيْل لطفيلي: كم أربعة في أربعة؟ قال: ستة عشر رغيفاً"!
إن تتبع سيرة الحكايات والأمثال في تنقلها بين الثقافة العربية والإسبانية لا يخدم عنوان المقالة، إذ تضيع فكرة "الأصل" في شبكة غنية من التأثيرات المتبادلة، حضنتها الثقافة العربية الغنية. ومع أن الأندلس وممالك الشمال قد شهدت صراعات سياسية وحروب عديدة، إلا أنها في حياتها الثقافية، كانت تتناقل القصص والفكاهة والنوادر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...