ازداد عدد الصينيين المهاجرين حول العالم ازدياداً كبيراً قبل نحو 60 عاماً. وفي منتصف القرن العشرين، مع بداية هيمنة الشيوعية على الصين، تضاعف أعداد هؤلاء المهاجرين لتكبر مجتمعاتهم المصغرة، وهي أحياء في مدن متعددة ممتدة من أمريكا الشمالية إلى أوروبا وصولاً إلى أستراليا والجزر الواقعة بينها وبين آسيا.
لم تكن هذه المجتمعات حكراً على الصينيين، بل كانت كمثيلاتها من المدن المصغرة المتضمّنة جماعات إثنية أو فكرية أو مجرد فئات مختلفة عن محيطِها، كحي "ليتل هافانا" الذي يُعد أشهر المناطق اللاتينية في الولايات المتحدة، ويقع في ولاية فلوريدا الأقرب إلى الجزيرة الكوبية، وقد سمي الحي تيمناً بعاصمتها، هافانا.
دمشق الصغيرة
تقع "ليتل داماسكوس"، أو دمشق الصغيرة في مدينة السادس من أكتوبر، على بعد 45 كيلومتراً من واحدة من أكثر عواصم العالم صخباً وازدحاماً، القاهرة. يشعر الداخل إلى دمشق الصغيرة أنه في مدينة سورية. يبدو الزحام فيها أقل من القاهرة، وشوارعها أكثر اتساعاً، وتضم مساحات خضراء تُذكر السكان بمدن تركوها خلفهم، مثل حلب ودمشق وغيرهما. وتشبه بعض شوارعها الضيقة حي الصالحية أو شارع الحمراء في دمشق، وهي تصدح باللهجة السورية وتعج بالمقاهي الشعبية المكتظة بالزبائن الذين يدخنون النرجيلة أو الشيشة. كذلك تنتشر فيها المطاعم السورية والمحال التجارية، وتجد كلمة "الشام" على معظم اللافتات المعلقة عند مداخل المحالّ: مثلجات "توت الشام"، عصيرات "أطيب شامي"، مطعم "الأموي الدمشقي"، "بهارات الغوطة الشامية" ومحمصة "يا مال الشام". حتى الحلاقة الرجالية نالت نصيبها، فتجد "كوافير اللمسة السورية الرجالي".يشعرك "ليتل داماسكوس" أنك في سوريا، يبدو الزحام فيها أقل من القاهرة وتشبه شوارعها الضيقة أحياء دمشق
السوريون في مصر
يقدر عدد السوريين المسجلين كلاجئين في مصر، وفقاً لمنظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بحوالي 127 ألفاً، فيما تقدر السلطات المصرية العددَ في إحصاءاتها الرسميّة بحوالي 350 ألفاً. ويعود الفارق الكبير بين الرقمين إلى الإجراءات المعقدة والروتينية التي تتطلبها سياسة منظمة اللاجئين، وتستغرق سنوات كي تعترف باللاجئ, وقد عزف بسببها العديد من السوريين عن التسجيل. كما أن عدداً من السويين دخلوا مصر بتأشيرة، وحصلوا على إقامات تسمح لهم بالعمل وفتح المحالّ، دون أن يكونوا لاجئين ويحصلوا على مساعدات المفوضية. على وجه العموم، يعيش السوريون والمصريون بانسجام كبير في معظم الحالات. كما أن الوجود القليل نسبياً لهم في مصر، بالمقارنة مع تعداد سكانها ومع أعداد السوريين في دول الجوار العربية، جعل أهل مصر أقل تذمراً من وجودهم، قياساً بحال السوريين المنتشرين في الأردن ولبنان حيث يعانون من تمييزٍ أكبر ضدهم. إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الفئاتِ الرافضةِ وجودِهم، وقد وبلغ أوج هذا الرفض في صيف عام 2013، بعد عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين بانقلاب عسكري قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. مما دفع بعض سكان الحي الدمشقي إلى العزلة لفترات، واختار بعضهم سحب أولادهم من المدارس وتعليمهم في المنازل. ويعاني سكان الحي السوري في القاهرة من مشكلة أخرى، ألا وهي تأزم القطاعِ الصحيِّ الحكومي، بالرغم من أنه متاح مجاناً. وقد أجبر سوء الاهتمام بالمشافي الحكومية والازدحام الكبير فيها مع نقص النظافة، العديدَ من المرضى على الاستعانة بالمشافي الخاصّة ذات التكاليف الباهظة، كحالِ أهل البلد الذين لا تسمح لهم إمكانياتهم الماديّة أن يستخدموا القطاع الخاص.صعوبات في الحصول على تأشيرات الدخول
لم يشهد الحي نمواً في السنوات الأخيرة، بقدر ما شهده مع بدء هجرة السوريين إلى القاهرة عام 2012. فقد كان الدخول إلى مصر سهلاً لا يحتاج لأكثر من جواز السفر السوري. ثم تغيرت المتطلبات مع حلول عام 2013 بعدما وضعت الحكومة المصرية، كمعظم الدول العربية، المزيد من العقبات أمام دخول السوريين، الذين باتوا يحتاجون لتأشيرة دخول صعبة المنال وموافقة أمنية قبل الإقامة في أرض النيل. كما أن رسوم الحصول على الإقامة وإجراءاتها أصبحت تكلف مبالغ كبيرة وتستغرق الكثير من الوقت حينما تدخل في دوامة البيروقراطية الحكومية. وقد أشار تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن مصر رحلت عدداً من السوريين إلى بلادهم، فقصد أغلبهم البحر مهاجراً إلى أوروبا.مكان ليس للجميع
يعيش معظم السوريين المقيمين في القاهرة في "ليتيل دامسكوس" التي تشعرهم بشيء من الألفة والحنين إلى الوطن. لكن الجو المألوف واللهجة ليسا كافيين لجعل المكان ملائماً وحاضناً للجميع. فالحالة المادية للكثير منهم تجعل السكن في حيهم باهظاً، لا سيما أن كثراً تركوا مدخراتهم وممتلكاتهم في بلدهم. وقد ساهم ارتفاعُ بدل إيجارات المنازلِ وقلة فرص العمل المتاحة إلا للحرفيين المهرة، في جعل المعيشة صعبة للكثير من سكان دمشق الصغيرة، فاضطروا للانتقال للعيش في مناطق شعبية.هل يبقى أم يزول؟
حي دمشق في القاهرة ليس إلا واحداً من الأحياء التي خلقها الوجود السوري في مدن الاغتراب الجديدة. فهناك أيضاً في تركيا، التي استقر فيها حوالي مليوني سوري، منطقة فاتح في اسطنبول، وهي شبيهة بحي سوريا الصغيرة. وقد يخفى على الكثيرين أنه كان في الماضي في جزيرة مانهاتن بنيويورك حي يُعرف بالاسم ذاته، سوريا الصغيرة، بين نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. لم يكن الإسم حينها يدل على سوريا التي نعرفها اليوم، إنما على دول بلاد الشام التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية. لم يبقَ للحي الآن أثر يذكر، وانتقل سكانه للعيش في مناطق نيويورك المختلفة. في القاهرة، يبدو "ليتل دامسكوس" مشابهاً لأمثاله من أحياء المدن المصغرة حول العالم. الفرق يكمن في ارتباط سكانه بالمكان. ربما حداثة عهد الحي، أو كونه نتيجة حرب أهلية وحزن ودمار، جعلت معظم السوريين يرون منزلهم هذا مرحلةً مؤقتة. فالحي الذي ما زال فتياً لا يعد وطناً حقيقياً لدى كثيرين لا يرون بديلاً عن العودة إلى سوريا بعد نهاية الحرب، ولو أن هذه العودة تبدو بعيدة مع إتمام الحرب عامها السادس من دون أي بشائر لنهاية قريبة. فهل تعيش دمشق الصغيرة في القاهرة كالمدن الصينية حول العالم، أم تختفي ولا يبقى منها سوى الذكرى كما الحي السوري القديم في مانهاتن؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...