في العام 1960، شهد العالم أول مناظرة مصوّرة بين مرشحَيْن للرئاسة الأميركية. ظهر كل من ريتشارد نيكسون وجون كينيدي على شاشات التلفزة أمام حوالي 70 مليون مشاهد، بينما نُقلت مجريات المناظرة على المذياع لحوالي 25 مليون أميركي.
كانت المنافسة شديدة الحدة بين المرشحين وسط ظروف سياسية ضاغطة، محلياً وعالمياً، لكن الصورة لعبت دوراً مفصلياً في في ترجيح كفة أحدهما على الآخر.
لم يكن فارق العمر بينهما يتخطى الأربع سنوات، لكن الاختلاف الكبير في المظهر الخارجي لصالح كينيدي جعل المشاهدين أكثر تعاطفاً معه، علماً أن من استمع إلى المناظرة عبر المذياع مال تلقائياً إلى نيكسون.
على التلفاز، بدا مرشح الحزب الديموقراطي أكثر أناقة وثقة، فيما ظهر نيكسون متقدماً في السن ومتعباً. بحسب الروايات آنذاك، فقد رفض المرشح الجمهوري وضع الماكياج على وجهه وهو الخارج حديثاً من أزمة صحية، بينما حرص كينيدي على أخذ حصة كبيرة من الراحة والاستعداد الجيد للمناظرة، شكلاً ومحتوى.
أثبتت تلك المناظرة الشهيرة تأثير الصورة في صناعة السياسي وعلاقته بالناخبين، ومع الوقت، خلال فترة الثمانينات تحديداً، أصبحت صورة السياسي ركيزة أساسية من ركائز شعبيته، متفوقة بذلك على إنجازاته أو مواقفه، بينما كان التسويق السياسي عبر وسائل الإعلام يلعب لعبته.
ولأن العمر يترك آثاره على الوجوه، ولأن السياسة مرهقة، جسدياً ومعنوياً، بدأ لجوء السياسيين حول العالم إلى عمليات التجميل يتضاعف، بينما أخذ في الدول العربية بعداً آخر، انطلق من تمسك البعض بالسلطة لسنوات طويلة ومن التوريث السياسي في عمر متقدم مقابل الظهور بمظهر "الشباب الدائم" بفضل التجميل.
جمال رغم القباحة
كان الملك لويس الرابع عشر أكثر ملوك فرنسا الذين تركوا وراءهم عدداً لا يُحصى من الرسومات التي تظهره قوياً وجميلاً، وتصور مفاصل حياته حتى العودة إلى فترة طفولته. لكن المؤرخين يقولون إن الملك ما كان بهذا الجمال، بل أقرب إلى القبح، غير أنه كان يطلب من رساميه تعديل صوره ليبدو أكثر جمالاً. مع الوقت، قام الرسامون بذلك من تلقاء أنفسهم، يدفعهم السائد بشأن "كمال" الملك. اليوم، لم يعد تعديل الصورة ضرورياً، طالما أتاح التطور تعديل الأساس مباشرة. بداية انتشرت عمليات التجميل وسط الفنانين، وبين النساء تحديداً، ومع الوقت وصلت إلى السياسيين الذين تخطت نجوميتهم نجوم الفن، وباتوا يصبون اهتمامهم على الشكل بدءاً من اللباس إلى الشعر ونضارة البشرة ولمعة العينين وصولاً إلى تغييرات جذرية من شفط وشدّ وبوتوكس وتغيير حجم الأنف أو رفع العينين. هي غواية الصورة إذاً كما يصفها أحد أطباء التجميل الأمريكيين متحدثاً عن عمليات تجميل أجراها لنواب ووزراء من أجل أن يبدوا "أكثر شباباً وقوة وصحة". يقول "عندما كان أحدهم يحضر إلى العيادة كنت أعرف أنه يفكر في الترشح للانتخابات بعد مدة"، ويضيف في حديثه لـ"نيويورك تايمز" قائلاً "يفضل هؤلاء أن يحيطوا عملياتهم بسرية تامة، كما أنهم ينكرونها إذا ما ووجهوا بها".بين جون كيري وفلاديمير بوتين... مبضع تجميل
هذا الكلام أتى مع انتشار الأخبار عن خضوع هيلاري كلينتون في العام 2006 لحقن الوجه بالبوتوكس وعمليات شد، وقد رافقه انتقادات نسائية ضد الاستهزاء بكلينتون كونها سيدة بينما يتم تجاهل الرجال في هذا الشأن. وكانت الأخبار ظهرت عن خضوع جون كيري وأرنولد شوارزينغر لمبضع جراحي التجميل، فقد عمدا إلى شد الوجه وحقن البوتوكس، في حين أقدم جو بايدن على زراعة الشعر. يحضر في البال هنا فيل غرام، المرشح للرئاسة في تكساس عام 1996، الذي كان يسأل مراراً "هل يمكن أن يُنتخب رئيس قبيح في الولايات المتحدة؟"، كما تحضر حال أن ويليام تافت كان آخر رئيس سمين للولايات المتحدة ودوايت إيزنهاور آخر رئيس أصلع. في المقابل، يصف المتابعون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه مهووس بمظهره الخارجي. حرص بوتين على إظهار قوته البدنية في مناسبات عدة، وتباهى مناصروه بقوته وبقدرته على جذب النساء. لكن الأمر لم يقتصر على القوة الجسدية، إذ يظهر بوتين ورغم سنواته التي تخطت الستين بوجه خال من التجاعيد، التي قد يظهر بعضها قليلاً وسرعان ما تعود لتختفي. ينفي طبيبه الخاص بشكل متكرر خضوع الرئيس للتجميل، لكن التقارير العالمية تؤكد أنه قام بشد الوجه وحقن الوجنتين وإزالة الترهلات تحت العينين، فضلاً عن مكافحة التجاعيد بشكل مستمر من خلال البوتوكس.برلوسكوني وبلير... وسمار الوجنة الفاضح
من اشتهر بقيامه بالتجميل كان كذلك السياسي الإيطالي سيلفيو برلوسكوني الذي صرح قبل ترشحه للانتخابات بأنه قام بعملية شد للوجه وزرع شعراً للظهور بمظهر أكثر شباباً. وعرف برلوسكوني بطلاء بشرته بكمية كبيرة من مساحيق التجميل لتلوين سحنته بشكل ظاهر، ووضع كحل أبيض داخل العينين. ولا تنسى الصحف البريطانية ذلك اليوم الذي تصدر فيه رئيس الوزراء طوني بلير الصفحات الأولى بخبر إنفاقه 1800 جنيه استرليني بين عامي 1999 و2005 على مستحضرات التجميل و791 جنيه على أخصائيي التجميل. كما يذكر أن رئيس الوزراء البريطاني قد أفرط في استخدام مسمر البشرة في إطلالاته التلفزيونية مع بدء حرب العراق. ولا تنتهي القائمة مع سياسيين غربيين خضعوا للتجميل وأنفقوا مبالغ كبيرة على مستحضراته مثل نيكولا ساركوزي ودومينيك ستراوس-كان ورئيس وزراء إيرلندا بيرتي آهيرن وغيرهم.القذافي الأشهر عربياً... لكنه ليس وحده
شبيهة الأسباب التي تدفع الساسة العرب لإخفاء أمراضهم ووعكاتهم الصحية، بتلك التي تدفع العديد منهم لإجراء عمليات للتجميل. الشباب الدائم في عهد النجومية السياسية التي كرسها التلفزيون وبعده وسائل التواصل الاجتماعي، يعد ورقة رابحة للسياسيين العرب الذين أمضوا سنوات طويلة في مواقع سلطة، في وقت يفتقر عالم السياسة إلى عنصر شبابي حقيقي فاعل. يعتبر الرئيس المخلوع معمر القذافي من أشهر العرب الذين لجأوا إلى عمليات التجميل، من عمليات حقن وشد للوجه وزراعة وصباغة الشعر، كشف بعضها أثناء توليه الحكم، وأكثرها بعد سقوطه. وقد أجرى عدد من هذه العمليات داخل دهاليز سرية في قواعد عسكرية لإبقائها سراً. وفي العام 2011، أعلن الجراح البرازيلي لياسير ريبيرو أنه أجرى عملية زرع خلايا دهنية مستخرجة من بطن القذافي في وجهه خلال العام 1995، وهي عملية تستمر فعاليتها لخمس سنوات وتمنع ظهور التجاعيد. ويحضر في الإطار الكلام عن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الذي لم تنتشر أخبار واضحة عن إجرائه لعمليات التجميل، لكنه شغل متابعين كثر بتقدمه في العمر وتوعكه الصحي من دون أن يتغير شكل وجهه أو يغزو البياض شعره. وكذلك يُذكر كيم جون أون، الذي لم يتغير شكله مع الوقت، في حين يتحدث البعض عن خضوعه لتصغير الكتلة الدهنية المتراكمة تحت ذقنه. وفي لبنان، الذي يعد مركزاً عربياً مهماً في عمليات التجميل، يزور كثر من السياسيين عيادات هؤلاء الأطباء. ويتساءل البعض إن كان الرئيس الحالي ميشال عون منهم، إذ تخطى الثمانين من دون أن تظهر التجاعيد على وجهه. بدوره، لم ينف الوزير السابق وئام وهاب قيامه بعملية زرع شعر بعدما انشغلت وسائل التواصل بذلك، وقال إن المظهر الجميل والأناقة يعززان رغبة الجمهور بالاستماع إلى ما ستقوله. ولا ينسى المصريون "فضيحة" عضو مجلس الشعب السلفي أنور البلكيمي، الذي ادعى أنه تعرض لهجوم مسلح ألحق الأذى بوجهه، ليتبين لاحقاً أنه خضع لعملية تجميل لأنفه، أدى إلى إقالته من "حزب النور" كما من البرلمان.صورة دوريان غراي
لم يكن ما سبق انتقاصاً من حق أي إنسان في التحكم بشكله بالطريقة التي تناسبه، بل إضاءة على وطأة الصورة التي تُعلي الشكل على كل ما عداه. في السياسة قد يبرر الأطباء أهمية خضوع السياسيين للتجميل من خلال إزالة خطوط الجبين الذي تظهر الشخص غاضباً أحياناً ولو لم يكن كذلك، أو شد الوجه وإزالة ترهلات العيون التي تظهر السياسي متعباً أو يشعر بالملل. لكن الأمر مع السياسيين، وتحديداً العرب، هو أبعد من تجميل وجه، هو دورة متكاملة تبدأ بالتوريث لا الكفاءة، وتنتهي بترهل النظام وتعفنه من الداخل بينما يحرص القالب على ادعاء الجاذبية. تحضر هنا صورة دوريان غراي للكاتب أوسكار وايلد، الذي اشترى الشباب الدائم من خلال صورة (روحه) رسمها له بازل هوروولد وأحبها حتى الثمالة، فبقي جسده جميلاً يلاحق الملذات، بينما حملت صورته المرسومة التي حاول مداراتها بكل الأشكال آثار آثامه واللعنات التي طاردته. في كل يوم كان دوريان (الجسد) يزداد جمالاً بينما تظهر الجروح والدمامل والتجاعيد الشيطانية على صورة دوريان (الروح). انتهى الأمر بالشاب إلى محاولة تدمير الصورة عبر قتل الموجود فيها، في تلك اللحظة سقط دوريان الجسد أرضاً بكل بشاعته، وتطهرت الصورة من آثامها لتعود إلى جمالها السابق. هو صراع الجسد والروح، صراع السلطة على كل شيء. ما يظهره دوريان في النهاية هو الحقيقة، تلك الحقيقة التي تريد فعلاً لا تصريحاً أو شكلاً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...