في عام 245 هـ/859 م، في وادي فاس، بني أول مبنى لمسجد القيروان، الذي تحول إلى مدرسة ثمّ جامعة، وضمّ مكتبة ذاع صيتها عبر العصور.
كانت فكرة بنائه من فاطمة الفهرية، التي تبرعت بالمال لإقامته بعد أن انتقلت مع أسرتها من القيروان إلى فاس، ويخمّن المؤرخون بأنها قامت بذلك بدعم ومباركة الأمير يحيى بن إدريس.
تقع مكتبة القرويين التاريخية في وسط المدينة القديمة في فاس، التي كانت تعد العاصمة الثقافية للمغرب قبل إنشاء العاصمة، مدينة الرباط. والمكتبة هي جزء من مجمع يعد من أهم التراث الحضاري الإسلامي، ويضم جامعة القرويين ومسجد القرويين. والمجمع والمدينة القديمة مصنفان ضمن المواقع الأثرية التي يجب حمايتها من منظمة الأونيسكو.
ويعتبر المجمع الذي أنشىء في العام 859 ميلادياً أقدم جامعة في العالم استمرت في عملها بدون توقف. وكان المجمع مركزاً لتدريس علوم الدين والفقه واللغة العربية حتى العقود الأولى من القرن العشرين، عندما تحولت إلى جامعة بالمعنى المعاصر وتم ضمها إلى قائمة الجامعات المعترف بها في المملكة المغربية، ولكن ما زالت المواد الرئيسية على علاقة بالفقه واللغة.
وتضم قائمة العلماء والمؤرخين والشخصيات البارزة في تاريخ المنطقة الذين تخرجوا من جامعة القرويين أعلاماً مثل ابن خلدون والفيلسوف ابن رشد وموسى ابن ميمون والديبلوماسي والمفكر الفاسي الحسن الوزان المشهور بلقب ليو أفريكانوس.
وتعد مكتبة القرويين أيضاً من أقدم المكتبات في العالم، إلا أنها أغلقت حتى عام 2012، عندما طلبت الحكومة المغربية من المهندسة المعمارية عزيزة الشوني البدء بعملية إعادة ترميم للمكتبة وتجهيزها لإعادة افتتاحها هذا العام.
كما نعرف من النقش المحفور على جدرانها، أضيفت المكتبة عام 750هـ/1349م، بأمر من السلطان أبو عنان فارس المريني (795هـ/1358م)، ووسّع بناءها السلطانُ أحمد المنصور الذهبي السعدي (1012هـ/1603م).
مع بداية القرن العشرين، كان بين جدران المكتبة أكثر من 1600 مخطوطة، و400 كتاب، كما أنها احتفظت بهدايا منحت لأمراء المغرب، وأهم جزء من مكتبة السلطان محمد بن عبد الله، التي وزعت على مدن المغرب.
من أعرق مخطوطاتها نسخة من القرآن الكريم من القرن التاسع مكتوبة على الطريقة الكوفية على مخطوطات مصنوعة من جلد الجمل، بالإضافة إلى نسخة من مقدمة ابن خلدون عليها إمضاء المؤرخ الأسطوري نفسه، ومخطوطات بقلم ابن رشد، وإحدى النسخ النادرة للعلامة ابن الطفيل وكتابه الأعجوزة الطبية.
لم يكن في المغرب أشهر من القرويين، التي كانت مصدر فخر لسكان المدينة، وللمغرب الإسلامي الأوسع، فنالت دعماً سخيّاً من حكّام الأندلس، إذ تخبرنا كتب التراث بأن جامعها أصبح جامع الخطبة في القيروان في عام 307هـ/919، وجاء ذلك على يدي الأمير أحمد بن أبي سعيد، بتمويل من قرطبة، من خزانة الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر لدين الله.
كما أنّ المظفّر ابن الوزير الشهير المنصور، عندما زارها في عام 388هـ/998م، أراد أن يضيف بصمته لهذا المبنى الذائع الصيت، فأمر ببناء قبّة ومنبر.
ولعل أروع جوانب تاريخ هذا المجمع المميز هو أن الحكام الذين توالوا على حكم المغرب، رغم خلافهم مع ممن سبقهم، فإنهم بدون استثناء، عملوا على تجميل القرويين وتوسيع مبناها، ولكأنها أصبحت مجالاً للتنافس البناء، إذ حرصت الأسر الحاكمة على أن يرتبط ذكر اسمها بها.
فقد زينها المرابطون، وأعاد الموحدون بناء أجزاء منها، وأما بنو مرين (المرينيون الذين حكموا البلاد بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر)، فهم بدورهم أثروا البناء وبنوا مكتبته، وبعدهم السعديون، الذين أضافوا لها جناحي النافورتين، على شاكلة ما يعرف بـ"بهو السبع" في قصر غرناطة، وتحت حكم الأسرة العلوية، تمّ تكريم هذا المبنى واحترام تاريخه، كما تمت إعادة اكتشاف التزيين الذي أضافه المرابطون قبل 8 قرون.
تتذكر عزيزة الشوني مرورها قرب باب المكتبة المغلق في طفولتها، إذ إن عمها كان يمتلك ورشة في حي النحاسين في المدينة، وكان والد جدها في القرن التاسع عشر أحد الطلاب الذين درسوا في المكتبة، وكان يذهب إليها من قرية بعيدة لتلقي العلم. وتصف الشوني أول زيارة لها للمكتبة بأنها "سحرية".
في الغرفة الأولى للمكتبة، قاعة قراءة ودراسة فخمة، توجد فيها طاولات وكراسي من الخشب العتيق، بالإضافة إلى منقوشات تاريخية من شتى العصور والعائلات التي حكمت مدينة فاس منذ إنشاء الجامعة والمكتبة.
تعتبر القرويين التي أنشئت في العام 859 أقدم جامعة في العالم استمرت في عملها بدون توقف إلى اليوم
تذكير بأن الذي أنشأ أقدم جامعة ومكتبة في العالم كان امرأة، والذي أعاد ترميمها أيضاً هو امرأة
وفي الصالة المحاذية، مجموعة ضخمة من الكتب والمخطوطات والموسوعات في مجالات التاريخ والدراسات القرآنية والإسلامية والصوفية والأدب العربي. ودخول المكتبة هو فعلاً تجربة يصعب وصفها، مع وجود عصارة الأدب والتاريخ العربي الإسلامي.
إحدى غرف المكتبة متصلة بالمسجد ولها أربعة أقفال، لكل قفل منها مفتاح خاص، كانت في القدم موزعة على أربع شخصيات بارزة في المجتمع الفاسي، وكانت توضع هنا المخطوطات الثمينة جداً، ولا يمكن فتح الباب إلا في حضور الأشخاص الأربعة لمنع السرقة.
يأمل القائمون إعادة إعمار المكتبة وتحويل الغرفة إلى صالة لعرض مقتنيات الجامعة الثمينة عند افتتاحها للزوار.
أما الكتب والمخطوطات المتعرضة للتلف بسبب قدمها فهي في جناح خاص للمكتبة، كما تم بناء معمل لحفظ المنسوخات المهترئة في المكتبة لم يكن من قبل، يضم جهازاً لإزالة التراب وجهازاً لترطيب المنسوخات لمنع التشقق، وماسحاً ضوئياً لإظهار أي تلف في المخطوطات.
وتركّز أيضاً عمل المهندسين على إعادة ترميم نظام الصرف الصحي في المكتبة، والذي كان بإمكانه إتلاف أجزاء منها بسبب تسرب المياه والرطوبة، وإعادة إعمار الأجزاء التي كانت آيلة للسقوط.
تقول الشوني: "يجب أن تستمر المكتبة في الحياة. وأتمنى أن يتم افتتاحها قريباً حتى يأتي الناس ويستمتعوا برؤية المخطوطات للمرة الأولى، وأن يعتبرها الناس كبيوتهم. فقيمة المكتبة ليست أن تكون مكاناً للسائحين، ولكن أيضاً أن تعمل وتستمر. أنا أريد لأطفالي أن يصبح بإمكانهم رؤية هذه الحضارة".
تُعدّ عملية إعادة ترميم المكتبة، التي تفقدها العاهل المغربي محمد السادس العام الماضي، من بين أهم مشاريع إعادة إعمار مؤسسة تعليمية تاريخية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التأكيد على دور المرأة في التاريخ الإسلامي والعربي، لأن الذي أنشأ أقدم جامعة ومكتبة في العالم كان امرأة، والذي أعاد ترميمها أيضاً هو امرأة.
المصادر: "تاريخ جامعة القرويين"، لعبد الهادي التازي؛ مقالة "فاس" لهنري تِرّاس، ونسخها اللاحقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين