شخصية مثيرة للفضول والجدل معاً، يسهل الحكم عليها بالسلب أو بالإيجاب بمجرد سماع اسم والدها، الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون طوعاً فيغضّون النظر عن تأمل تفاصيل حكايتها الفريدة التي تختصر مأساة شعب وتفتت دولة...
خطر لي أن أطلب مقابلتها خلال زياراتي للعاصمة الأردنية حيث تقيم منذ فرارها من العراق عقب الحرب الأخيرة التي أطاحت بوالدها من السلطة بعد ثلاثين عاماً أمضاها نائباً ثم رئيساً للجمهورية، لكنني كنت أتراجع عن تنفيذ الفكرة في كل مرة لأكثر من سبب.
اهتمامي بمتابعة مسارات الأحداث في حياة رغد صدام حسين أثاره ظهورها الإعلامي المتكرر وتصدّر اسمها وتصريحاتها عناوين الأخبار على مر العقد المنصرم، بل قبله أيضاً عندما أدهشت الملايين الذين تابعوا مقابلتها الأولى مع مراسل قناة العربية في الأردن بإعلانها ان أبناء عشيرتها يستحوذون لوحدهم على أكثر من نصف خزين الحقد والضغينة لدى بني البشر...
[caption id="attachment_89292" align="alignnone" width="700"]
صورة لصدام وعائلته عام 1988. تبدو رغد في الوسط[/caption]
رغد التي أذهلت العراقيين والعرب والأجانب وقتها بظهورها متزينة ومبتسمة بعد سقوط حكم والدها ومقتل شقيقيها وسجن أعمامها، بدت ممتنة للغزو الأمريكي، شامتة بمآل من تسببوا بقتل زوجها حسين كامل وشقيقه (زوج رنا صدام حسين) وتيتيم أبنائهم بعد فرارهم الصدمة إلى الأردن في منتصف التسعينيات، ثم عودتهم اللغز إلى بغداد بعد شهور، حيث لقي الرجلان حتفهما ذبحاً على أيدي أبناء القبيلة.
تصريحات ابنة الرئيس النارية تلك أعقبتها تحولات سريعة ومفاجئة دفعتني للبحث أكثر ومحاولة إدراك الدوافع الكامنة وراء التناقض في مواقفها.
جربت أن أضع نفسي في مكان رغد وأن أقرأ سلوكها ضمن إطاره الزماني والمكاني، الأمر الذي تعلمته خلال تجربتي القصيرة في عالم الكتابة والأدب، كان حتماً علي أن أعود إلى البدايات الأولى، ففعلت...
البدايات
أبصرت الإبنة الكبرى للرئيس الراحل النور في العام الذي شهد انقلاباً حمل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة الحكم في العراق وأسفر عن تنصيب والدها نائباً لرئيس الجمهورية فيه. ولدت رغد وفي فمها ملعقة من ذهب، إذ أقبل المناضلون السابقون على مباهج السلطة وترفها بشراهة ودموية الوحوش المتضوّرة جوعاً. الثراء السريع والسلطة المطلقة أسكرا صداماً كما أسكرا باقي رفاقه الخارجين من مخابئ قطاع الطرق. بات يرتدي أفخم الأطقم الأوروبية المنشأ ويتعطّر بشذى الزهور الفرنسية... وسامته وأناقته أثارتا إعجاب الكثيرين ونجحتا في إخفاء الأحقاد الطبقية التي حملها في داخله تجاه المجتمع وعقد طفولته التي بقيت تحكم تصرفاته حتى النهاية، خصوصاً علاقته المضطربة بوالدته التي ما فتئت تؤجج غضباً هائلاً ترك أثره على الكثير من القرارات التي اتخذها، وطريقة تعاطيه مع النساء المحيطات به، بل والإناث بشكل عام. نشأت رغد متنعمة بمظاهر الرخاء المادي، لكن أباها كان يعد "حريمه" كائنات من درجات دنيا، لذلك وعلى الرغم من انفتاح المجتمع وقتها واختلاط النائب الشاب بنخبه وسهره معها وهو يحتسي الخمر ويراقص الفتيات، لم يكن مسموحاً لرغد ووالدتها أن تظهرا في الصورة معه أو التعاطي مع الحراك الثقافي والفني النابض الذي ميّز العراق عن سائر البلدان المجاورة له منذ بدايات القرن العشرين.قصة رغد التي أذهلت العراقيين والعالم بظهورها متزينة ومبتسمة بعد سقوط حكم والدها صدام حسين ومقتل شقيقيها
"أفراد العائلات الحاكمة ليسوا بأفراد عاديين، وفي بعض الأحيان يصعب فهم مدى تعقيد حياتهم" تقول ابنة صدام حسينالقوانين الصارمة لأسرة صدام حسين لم تكن تسمح للنساء مثلاً بتناول الطعام مع الرجال في المحافل أو تتيح لهن المشاركة في اتخاذ القرارات المهمة، هن مجرد متلقيات للأوامر منذ ولادتهن حتى يتم تزويجهن في سن مبكرة من أبناء الأعمام والأخوال فتستمر دائرة الخضوع ومحو الهوية حتى الممات. بقيت رغد أسيرة قيودها الذهبية تلك حتى اقترنت وشقيقتها رنا (قبل أن تبلغا السن القانونية للزواج) من شابين من أبناء القبيلة، شبه أميين، هما حسين وصدام كامل اللذان اختبر الرئيس ولاءهما مراراً في مهمات تصفية خصومه ومنافسيه. تسلق الفتيان سلم النفوذ سريعاً حتى صار زوج رغد ذراع صدام اليمنى ووزيراً للتصنيع العسكري، الأمر الذي استفز باقي أفراد الأسرة وفي مقدمتهم الشقيقان عدي وقصي... عاشت ابنة الرئيس كابوس الضغينة والعداوة بين أبناء عشيرتها وزوجها ولم تتنفس هواء الحرية حتى هروبها معه إلى الأردن وإقامتهما فيه لفترة قصيرة انتهت بمجزرة مريعة عند عودة الركب التائب إلى بغداد. أمضت رغد السنوات التالية حبيسة قصرها مع الكتب والروايات الحالمة التي تركت أثراً كبيراً على شخصيتها، بل يمكن القول بأنها قد أعادت تشكيلها. في لا وعيها، قارنت رغد صدام حسين نفسها ببطلات الروايات التي قرأتها فأدركت بأن حياتها قد سرقت منها بغير وجه حق، وشعرت بجوع للفعل والتأثير على محيطها كما كانت تفعل شخصيات جين أوستن ودانييل ستيل (ظهرت الروايات في خلفية احدى اللقاءات المصورة مع رغد فيما بعد)... أمضت الأرملة الشابة أيامها الطويلة في أحلام يقظة عن مستقبل مشرق لها بعيداً عن أنياب ومخالب أب قاس لا يرحم وإخوة متربصين وقبيلة ناقمة ومتآمرة، حتى جاءها الفرج مع غزو العراق. تهاوت قضبان سجنها العتيد فجأة فحملت نفسها وأبناءها إلى حيث المال الوفير الذي كان زوجها قد هرّبه إلى الأردن كي تحتفل بحريتها التي طال انتظارها بين ربوعه. ظهرت على الناس مبتهجة ومستعدة لفضح ظلم والدها وبطشه، لكنها صُدِمت برد فعل الجماهير السلبي تجاه خطابها. لا العقل الجمعي الشرقي المنحاز للذكورية وسلطتها المطلقة تقبّل انقلاب الفتاة على أبيها، ولا العاصمة الأردنية التي تقطنها غالبية فلسطينية كانت مستعدة لإدانة صدام حسين الذي بات في نظر الكثيرين خليفة لصلاح الدين الأيوبي، محرر القدس من قبضة الغزاة... من جهة أخرى، صبّ العراقيون المهجّرون الذين التقت بهم رغد في الأسواق نقمتهم من أبيها وزوجها على رأسها فتناقلت الصحف واقعة تعرضها للبصاق من قبل سيدة عراقية خلال تسوّقها في واحد من متاجر عمان الشهيرة والشجار الذي دار بينهما بعدها. أما الغرب الذي اهتم بهروبها الأول مع زوجها وضجّ به فقد أشاح بوجهه عنها بعد سقوط بغداد ولم يعر تصريحاتها أذناً صاغية.
تبدّل الخطاب
كمطربة تعتلي خشبة المسرح فيقابل الجمهور غناءها بالصفير والاستياء، شعرت رغد بخيبة أمل ووجع فقرّرت أن تعدّل خططها وتثأر لكبريائها الجريح. ابتدأت برفع راية والدها التي مرّغها وحل العثور عليه مختبئاً في حفرة أشعث أغبر، ذليلاً يعبث به جنود الاحتلال كيفما شاءوا، وأعادت إحياء الشعارات العروبية التي كان يستخدمها في خطبه فتعالت صيحات الاستحسان ودوى التصفيق الهادر من جديد... حصلت رغد صدام حسين على مأربها، عثرت على المصباح السحري الذي سيحقق لها ما حلمت به طويلاً، ستكون الوريثة التي تُفرش لها السجادات الحمر حيثما حلت وتُقابل بالحفاوة والتكريم، سيكون ذلك ردها على كل من عايرها أو أساء لها، ولتذهب الحقيقة والمصداقية إلى الجحيم! كما رمزت زهرة اللوتس لملك آل بوربون الغابر في فرنسا، وكما تتصدّر الأسود والحيوانات الأسطورية شعارات الأسر الملكية في بريطانيا وسائر أوروبا، قررت رغد أن تتخذ من نسر الجمهورية في العراق شعاراً لها ولمراسلاتها الشخصية بل قامت بوضعه على علب خط المجوهرات الذي أطلقته بالشراكة مع دار شهيرة في عمان. الشعار نفسه ظهر لاحقاً على بطاقات الدعوة لحفل زفاف ابنتها الذي أثار بإسرافه الفج استنكار كثير من مواطنيها الذين كانوا يعيشون جحيم وويلات الإرهاب اليومي في العراق... تعالت صيحات الاحتجاج على سلوك رغد المستفز بين من بقي من عشيرة والدها في البلد، لكن سكرة النفوذ كانت قد استبدت بالسيدة وما عادت تلقي بالاً لأي من الانتقادات التي طالتها بعد نشر صورها وهي تقلد بناتها الأوشحة الحريرية والأوسمة المذهبة، تماماً كما اعتاد أبوها أن يفعل من قبل. تعاطفي مع محنة ابنة الرئيس الراحل وتفهّمي لبعض مبررات تصرفاتها لم يحولا دون استيائي مما أدلت به في حديثها الصوتي الأخير مع مراسل قناة السي أن أن والذي أثار العديد من علامات الاستفهام عن دلالة توقيته ومحتواه. حلل البعض بأنه قد تم بإيعاز من الجهات الرسمية الأردنية بعد شيوع مزاعم عن علاقة رغد بتنظيم داعش وتمويلها لعملياته الإجرامية سراً، لكن مع غياب الأدلة على تورطها المباشر في دعم الإرهاب، يبقى الحديث عن الموضوع رجماً بالغيب يصعب تأكيده أو نفيه وإن كنت شخصياً أرجح الرأي الأخير، خصوصاً بعد سماعي حديث "الوريثة" مع محاورها "الصامت" والذي كشف عن تماه مؤسف ومرضي مع الأوهام والخيالات. "أفراد العائلات الحاكمة ليسوا بأفراد عاديين، وفي بعض الأحيان يصعب فهم مدى تعقيد حياتهم"، أجابت رغد عند سؤالها عن الصراعات الدموية التي اندلعت ضمن نطاق أسرتها... استوقفني استخدامها لمُسمّى العائلة الحاكمة، خصوصاً أن العراق قد نبذ الملكية منذ عقود واستبدلها بالنظام الجمهوري الذي لا يعترف بالسلالات الوارثة. ظننت لأول وهلة أن التعبير قد خانها فربما قصدت أن تقول "عائلة الحاكم" لكنها عادت لتكرر المفردة نفسها، بصيغة الجمع هذه المرة، عندما صرحت بأن "حكمنا" لم يشهد وما كان ليسمح بظهور داعش ونظيراتها، ثم مضت لتؤكد أن "عائلتنا" لم تتبنَّ مثل تلك المفاهيم مطلقاً."حكمنا؟" "عائلتنا؟"... حقاً؟
ظهر جلياً من سياق الحديث أن رغد قد قررت أن تبرر أمام نفسها وأبنائها المذبحة التي طالت زوجها على أيدي أفراد "العائلة" بكونها حدثاً غير استثنائي عند النظر إليه ضمن إطار تأريخ "الأسر الحاكمة"، وبذلك فهو لا يدين أياً من الأطراف المعنية به. إن لم تصدقوا ما تقوله السيدة، فلتنظروا الى المسلسلات المدبلجة التي راجت خلال السنوات الماضية عن مكائد قصور السلاطين وحريمها ولتتفرّجوا على مشاهد قطع رؤوس الوزراء والإخوة والأبناء وتدحرجها على بلاط الأرضيات في كل حلقة... أمر عادي، تلك هي طبيعة الحكم وأهله! السذاجة والنكران لم يتوقفا عند هذا الحد للأسف، فعند سؤال رغد صدام حسين عن ديكتاتورية الوالد أجابت: "نعم، كانت هناك قسوة، وفي بعض الأحيان الكثير منها، ولكن العراق بلد يصعب حكمه... الآن فقط بدأ الناس يفهمون ذلك" عندما يبلغ عدد الضحايا مئات الآلاف، بل الملايين (لو أخذنا في الحسبان مسؤولية صدام عن تدهور الوضع الأمني والنزاعات الدينية والطائفية التي تلت سقوطه، فهو من استفز القبلية والعصبية المذهبية في البنيان المجتمعي بعد أن قرر التلفع برداء التدين والعشائرية عقب هزيمته النكراء في الكويت)... عندما تمتد الخسائر لتشمل أجيالاً متعاقبة وإرثاً حضارياً اندثر أو كاد، لا أعتقد أن مفردة "قسوة" هي الاختيار الأمثل لتوصيف ما حدث في عهد الوالد يا رغد. عراق اليوم يعيش وضعاً مأسوياً بالتأكيد، أتفق مع رغد حسين على أن الحال الآن أسوأ مما كان عليه خلال سنوات "حكمهم"، لكن السبب الوحيد وراء ذلك هو ارث الدم والعنف والتدمير الحثيث للمجتمع المدني بمعاول صدام والمحيطين به على مدى عقود "هيمنتهم" على موارد البلد الذي كان غنياً ذات يوم ليس فقط بثرواته الطبيعية، بل أيضاً بعقول شعبه وعلومه وآدابه وفنونه التي باتت شريدة المهاجر في شتى بقاع الأرض... الهلاوس، كما يبدو، لم تقتصر على رغد بل استحوذت أيضاً على ابنتها حرير حسين كامل التي أنشأت مؤخرا قناة خاصة بها على يوتيوب، استهلتها برفع شريط دعائي عن سلسلة ستقدمها وتكرّسها للحديث عن عظمة الوالد والجد. ظهرت حرير في "التريلر" وهي تتهادى تحت وطأة طبقات ثقيلة من مساحيق التجميل مع إلقاء ركيك ولغة جسد متصنعة كأنها تقدم برنامجاً عن مطربات الغجر وراقصاتهن، إذ كان الجد والوالد مولعين بهن. ينبغي أن أتوقف الآن، لا أريد لمقالتي أن تنزلق الى منحدرات السخرية والتجريح وإن استدرجتني أفعال وأقوال "الوريثات" لها فذلك بالتحديد ما جعلني أصرف النظر عن موضوع مقابلة رغد صدام حسين ومحاورتها... ماذا كنت سأقول لها؟ هل هي بحاجة لمن يوضّح لها طبيعة شخص والدها وأفعاله وهي أدرى الناس بها؟ هل كنت سأستطيع السكوت لو ردّدت أمامي مزاعمها التي تتشدّق بها أمام الجماهير الشقيقة المُغيّبة عن حقائق موثقة ومصورة ومنشورة؟ ما جدوى مواجهة سيدة اختارت طوعاً أن تعيش النكران وفي أي اتجاه سيأخذنا حوار مثل ذاك؟ لكن دعكم عني فقد أكون متحاملاً على الإرث وأهله، تعالوا نفكر في محاور آخر، أو ربما مُحاوِرة هذه المرة... ما رأي السيدات الوريثات اللاتي حملن مقولة الرئيس الراحل "الإنسان موقف" شعاراً تمثّلن به في مناحي حياتهن لو تجاذبن أطراف الحديث مع عراقية مثلهن هي زينب سلبي، الإعلامية والناشطة النسوية المعروفة عالمياً ومؤلفة كتاب "بين عالمين: الفرار من الطغيان" عن حياتها في العراق كابنة لطيار صدام الشخصي وصديقة مقربة من ابنتيه؟ ما رأي رغد لو جلست مع رفيقة صباها التي ضم كتابها تفاصيل تقشعر لها الأبدان عما كانت شاهدة عليه من "مواقف" وفضائح؟ هل تجرؤ سليلة "المواقف الكثيرة" على المواجهة؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين