ثلاثون سيدة يظهرن عشيّة كل أحد على شاشة "ال بي سي آي" LBCI، معبّرات عن رغباتهن، وعما يفتنهن في الرجل: جسده، شكل مؤخرته، تقاسيم عضلاته، ابتسامته، شعره... ثم يخترن شاباً ليخرجن معه عند انتهاء الحلقة.
فكرة برنامج "نقشت" لا تحمل أي جديد، تشبه برامج الساعات المتأخرة على معظم القنوات العالمية، لا فحوى ثقافي أو علمي. البرنامج سطحي الشكل والمضمون، لكنه يشكل ثقلاً في لعبة الـ"Rating" التي لحست دماغ معظم القنوات اللبنانية.
الـ"Rating" وانعدام المعايير... كل الأسلحة مباحة في الحرب
بعد انقطاع التمويل السياسي، مع الطّفرة الإعلامية في الخليج واستحداث قنواتٍ فضائية جديدة، خسر الإعلام اللبناني رافداً مالياً أساسياً، مما اضطره للبحث عن بدائل إضافية مع الإعلانات. زادت مصائب الإعلام اللبناني المرئي المادية بوجود مواقع التواصل الاجتماعي، ففرضت برامج كـ"Take me out نقشت" نفسها. حرب كسب المشاهدين أثّرت على المحتوى، فبات عرض الأجساد وتسليع المرأة كما الرّجل، عادياً. قد يظن البعض أن القنوات الإعلامية هي من تفرض أجندتها على المشاهد، لكن المشاهد هو من يحدّد الأجندة، فهو من يعطي البرامج فرصاً للنجاح وهو من يسهم في إقصائها. يجمع الرأي العام على انتقاد برامج فؤاد يمين وتمام بليق (بلا تشفير)، ومع ذلك، يشاهد البرنامجين بشكلٍ دوري، والدعاية السلبية التي ينالها البرنامجان لا تفرق عن الدعاية الإيجابية في ميزان المُعلن الاقتصادي، لا يعنيه المحتوى أو الشكل ما دامت سلعه ومنتجاته تُعرض على الشاشة في وقت الذروة، وتالياً، لا يعني مالكو المحطات رأي الجمهور السلبي ما دام يشاهد البرامج، ويؤمن مدخولاً مادياً لصندوق القناة."إذا زعجك غيّر"؟
طالب المنتقدون الرقابة بإيقاف البرنامج، فردّت محطّة "ال بي سي آي" على منتقديها بطريقة مستفزّة. بادرت القناة إلى تأنيب منتقديها ومشاهديها، "احملوا الريموت كونترول وبدّلوا المحطة". ببساطة، أعجبكم أم لم يعجبكم، البرنامج مستمر. لم تعِ القناة أن نجاحها مرتبطٌ أساساً بمن تهاجمهم، إذا قاطعوها وقاطعوا برامجها لن يتضرروا هم بل القناة. تدخّل الرقابة في المحتوى مرفوض لما يشكّله من مسٍّ بالحريات، لكن الفوضى الإعلامية أيضاً مرفوضة، والتفلّت من الضوابط والرقابة الذاتية (بحدها المعقول) يعتبر انتهاكاً للحريات وتعدياً عليها أيضاً. بدل أن تدعو المحطة مشاهديها لتبديل القناة ومشاهدة برامج أخرى، عليها أن تطوّر فكرة البرنامج تطويراً يتناسب وما يطلبه المشاهدون. يشبه "نقشت" المجتمع اللبناني إلى حدٍ بعيد، الفارق الوحيد أن ما يُقال في السر وبصوتٍ خافت، يقال على الهواء وأمام الملايين. إبقاء البرنامج في صيغته الحالية قد يصل مرحلة خدش الحياء العام، وقوانين الدولة اللبنانية تحاسب على مواد شبيهة، مع أن "نقشت" ليس الوحيد، فالأفلام اللبنانية عانت من مقصّ الرقيب الأمني والديني على حدٍّ سواء، دائماً بحجة حساسية المجتمع تجاه المواد المطروحة. تعاطي القناة مع المشاهد غير مقبول، الحل ليس بتعميم الفوضى الإعلامية ولا بتبديل المحطة. لتعرض ال بي سي آي مثلاً أفلاماً إباحية وإن لم يعجب المشاهد، فليغيّر المحطة! الغرق في لعبة الـ"Rating" والنشوة بالريادة بحسب الإحصاءات لا يبرّران المهزلة الحاصلة، وعرض برامج سخيفة فارغة. انتقاد "نقشت" لا يعني انتقاد القناة بالمجمل، وليس جزءاً من حرب القنوات الحاصلة، وإن حاولت قناة منافسة، مثل "ام تي ڤي" MTV، إظهاره كذلك."حذارِ صورة المرأة اللبنانية وأخلاق أطفالنا"
في موقف لافت، اجتمعت الأضداد السياسية على مطلب إيقاف برنامج "نقشت". وزير الإعلام ملحم رياشي اعتبره مخلاً بالآداب، ومثله فعل رئيس لجنة الإعلام في البرلمان، النائب حسن فضل الله، ليكمل النائب هادي حبيش المشهد بتخوّفه من نتائج البرنامج وما يذيعه على الاطفال، متجاهلاً أمراً أساسياً، لمَ يشاهد الأطفال برنامجاً كهذا في الأساس؟ وإن شاهدوه بسبب إهمال الأهل أو تجاهلهم محتواه، فالحل بسيط، بتغيير القناة موعد عرضه لساعةٍ متأخرة، وعليه، لن تشاهد الشريحة العمرية المصنفة كأحداثٍ البرنامج. الدعوة لإيقافه من قبل السياسيين، أي تحفيزهم الرقابة كي تتحرّك، بحجة الحرص على الآداب العامة كوميدية نوعاً ما. هؤلاء الحرصاء على المرأة اللبنانية فاتتهم تعليقاتهم وتعليقات زملائهم على اقتراح قانون تجريم التحرش الجنسي الذي طرحه النائب غسان مخيبر واعتبروه مادةً مضحكة. فبال مخيبر المرتاح أصبح بالهم هم أيضاً عند طرح موضوع "نقشت" ومحتواه. بالهم مرتاح لدرجة تجاهل مشكلة التحرش، ورفض حق المرأة في منح الجنسية لأبنائها، وهم، أي النواب، حتى الأمس القريب كانوا يرضون للمغتَصبة أن تتزوّج من مغتصبها، وبمواد قانونية كالمادة 503 وغيرها. هم أيضاً لم يظهروا حزماً في حماية المرأة من التّعنيف الأسري، وأسماء ضحايا التعنيف كرولا يعقوب ومنال عاصي ورقية منذر وغيرهن أشهر من أسماء العديدين من مَن يحملون صفة نائب في البرلمان. تشويه صورة المرأة اللبنانية لا يرتكز على برنامجٍ سخيفٍ فارغ، بقدر ما يرتكز على تهميشها في الحياة السياسية واليومية، وحرمانها حقوقها الطبيعية كإنسان، فبدل أن يظهر النّواب حرصهم على سمعة المرأة، كان الأجدى بهم العمل على صونها وتكريمها. الحكم على المرأة اللبنانية من خلال برنامج هو أمرٌ مبالغٌ فيه، فالمشاركات يمثّلن أنفسهن، ويمثّلن على المشاهد في الوقت نفسه. المرأة اللبنانية تبرز في ميادين علمية وأكاديمية وثقافية وفنية وغيرها، وهي بطبيعة الحال، لن تحصر نفسها بصورةٍ نمطية يقدّمها "نقشت"، مع أن الحضور في البرنامج، لو كان من الذّكور، لكانت ردود الأفعال أخفّ وطأة. فمعظم البرامج الكوميدية اللبنانية تحوي مقالب ونكاتاً ذكورية، لا يتوقّف عندها أحد، لأن الأمر عادي بالنسبة لما اعتاده المجتمع اللبناني، أمّا أن تظهر سيدات ويظهرن ما يرغبن فيه، فذلك يعني كسراً للتابوهات والمحظورات المجتمعية بالنسبة لكثيرين. لن تلغي إدارة ال بي سي آي البرنامج، وهذا مؤكد، لأسباب أساسية، منها قدرته على جذب المشاهدين ونجاحه في حصد الـ"Rating". وتدخل الرقابة، إن حصل، يشكّل مساً بالحريات العامة والإعلامية، وسابقة ستتبعها سابقات مماثلة. من يعترض على البرنامج، يمكنه شلّه ومقاطعته، وتالياً حرمانه من عوامل نجاحه الأبرز، إلا إذا قرّرت القناة تطويره إلى صيغة تكسبه نوعاً من القبول المجتمعي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...