لا شك في أن اليمن بلد جميل، يحتل المرتبة الثانية على قائمة بلدان شبه الجزيرة العربية من حيث الكثافة السكانية إذ يعيش فيه حوالى 26 مليون نسمة. تحده من الشمال المملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان من الشرق، فيما يحيط البحر بحدود هذه الأمة القديمة من الجنوب والغرب. كما يُميزه عنصر بارز يتجسّد في كونه البلد الأشدّ فقرًا في شبه الجزيرة العربية لا بل هو في الواقع أحد أكثر البلدان فقرًا في العالم.
وتاريخ اليمن مع الإهمال طويل وصعب. إهمالٌ من السلطات السابقة، إهمالٌ من الجهات الفاعلة الإقليمية، إهمالٌ مما يسمى المجتمع الدولي. وهذا الإهمال يستمر بطرقٍ شتّى. أمّا أكبر التحديات فهو الحرب التي شبّت نيرانها منذ ما يزيد عن سنة، حربٌ ألحقت فيها الجهات الفاعلة المسلحة ومن دون استثناء الضرر بالسكان والبنية التحتية الاجتماعية الحيوية مثل المدارس والمستشفيات وقاعات العزاء والمنازل وغيرها. وقد لُمست انعكاسات العنف على نطاق واسع. فكل ما لم يتأثّر مباشرةً من فظاعة النزاع بات يتراجع تدريجيًا بسبب النقص في الأموال والموارد والقدرات أو بسبب القيود المفروضة على هذه الأخيرة. هذا وتزداد احتياجات الناس في حين تئن بنية البلد التحتية تحت وطأة هذا العبء المتواصل.
استهلت منظمة أطباء بلا حدود الطبية الدولية عملها بشكل متقطع في اليمن في العام 1986، واتّخذت أعمالها طابعًا متواصلًا منذ العام 2007، وزادت مؤخرًا وبوتيرةٍ سريعةٍ من حجم أنشطتها استجابة لاندلاع حرب شاملة وكارثة إنسانية أواسط العام 2015. تعمل منظمة أطباء بلا حدود في شمال البلد وجنوبه، وفي ثماني محافظات من أصل 22 وتصب تركيزها على مجموعة من الأنشطة بدءًا من توفير خدمات طبية مباشرة، مثل العمليات الجراحية المعقدة ورعاية الأطفال، وصولًا إلى تقديم الدعم على شكل حوافز مالية و/أو تدريبات لموظفي وزارة الصحة، علاوةً على توفير الإمدادات الطبية الأساسية. وبين الفترة الممتدة من آذار 2015 حتّى أيلول 2016 استُقبل 289,574 مريضًا في غرف الطوارئ؛ وأُجريت 24,326 عمليةً جراحيةً؛ وتلقى العلاج 51,048 جريح حرب وعنف؛ وأُجريت 19,868 ولادةً؛ واستقبل 19,862 طفلًا في قسم رعاية الأطفال الخاص بالحالات غير المرتبطة بالعنف؛ وأرسلت المنظمة نحو 1,760 طنًا من الإمدادات الطبية. وتنتشر مشاريع المنظمة في أرجاء خطوط جبهات المعارك، ويتأتى عن ذلك أحيانًا مخاطر كبيرة. كما امتدت أيادي الغدر إلى المرافق الصحية التابعة للمنظمة إذ تعرّضت هذه الأخيرة للقصف أربع مرات في العام المنصرم، ونجمت عن هذه الأعمال خسارة في أرواح المرضى والموظفين، وهي أعمال حرمت الآلاف من الرعاية الصحية المجانية الأساسية.
ذهبت إلى اليمن، وتحديدًا إلى العاصمة صنعاء، لأكثر من أسبوعَين لدعم فرق منظمة أطباء بلا حدود. ولم أكن آنذاك قد اكتشفت البلد بعد ولا خضت غمار الحياة فيه، وكانت نظرتي إليه شبه ضبابية. ومع ذلك استطعت أن أرى بوضوح من منظوري الغائم أنّه بلد يواجه شعبه ظروفاً شديدة الصعوبة لم تستطع رغم ذلك أن تطفئ شعلة لطفه المتواضع وروحه المرحة ورغبته الجامحة بتشارك قصصه المتناثرة، العادية والأسطورية على حدّ سواء.
اسمحوا لي أن أشارك معكم بعض القصص، وأجزاء الحوارات، والأحداث، على الأقل من أجل إعطائكم لمحة عن معاناة وكفاح شعب يتصدّر عناوين وتقارير البؤس، واليأس، والفشل البشري.
1.
"تأخرت تأشيرتك بسبب غارة جوية." "ماذا؟" "أجل، استهدفت غارة جوية الباحة الأمامية للمبنى الحكومي." "يا إلهي. هل الفريق بخير؟" "أجل، جميع الأفراد بخير، سيعودون غدًا للعمل على تأشيرتك." أجريتُ هذا الحوار مع زميل لي قبل أسبوع تقريبًا من انطلاقي من بيروت إلى صنعاء. وأشعر بالأسف فعلًا حيال ما سأقوله ولكنّ أوّل ما تراءى إلى ذهني في تلك اللحظات هو مدى كون هذا العذر الذي تفوّه به زميلي حيال تأخّر التأشيرة عذراً أقبح من ذنب. ولكن من الطبيعي على ما أعتقد أن يقوم المرء بردة فعل سخيفة حيال حادث غير طبيعي. وما اختبرته بعدئذٍ تجسّد بالخوف. كانت عائلتي قد طلبت مني ألا أسافر، لأسباب مفهومة. وارتسمت على وجوه بعض من أصدقائي نظرات يحتلها القلق بعد أن أتيت على سيرة رحلتي القادمة. وتملّكني التوتر مسبقًا ولم تساعدني ردة فعلهم على الإطلاق. وكلما اقترب موعد الانطلاق، واجهت صعوبة أكبر في النوم براحة. وراحت أسئلة متعددة تجوب ذهني حيال توقعاتي، وما سأراه، والمخاطر المحدّقة بي، ولكنني لم أمتلك إجابةً واحدة أقلّه. فقررت عندئذٍ التخلّص من هذه الأفكار والتركيز عوضًا عن ذلك على الاقتراحات اللازمة لأقوم بالعمل على أكمل وجه. ووجدتُ نفسي أخيرًا على متن طائرة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود تنطلق من جيبوتي باتجاه صنعاء. في تلك اللحظات، خدعتُ نفسي بالاعتقاد بأن المطبات الهوائية التي تهزّ الطائرة الصغيرة هي وحدها مصدر الإزعاج في رحلتي بأكملها. أجل، المطبات الهوائية هي مصدر الإزعاج الوحيد، وسأرى لاحقًا ما الذي ينتظرني. بدت الجبال أدناه غاية في الجمال. الجبال هادئة، أجل، ووحدها المطبات الهوائية هي المزعجة.2.
"أهلًا بكم في صنعاء!"، بهذه الكلمات رحب بنا زميل يمني. وانطلقنا بعدئذٍ على متن السيارة من المطار إلى أعماق صنعاء. وتحدثنا قليلًا ونحن في طريقنا إلى وجهتنا عن الحياة في العاصمة، وراح يشير بيده إلى مواقع غارات جوية سابقة ضربت المدينة على مدار العام. كنا منطلقين في جولة رهيبة في قلب ندوب الحرب التي لم تلتئم بعد. رأيت أقساماً من المباني المنهارة بسبب القوة الغاشمة للصواريخ، وملأت الأنقاض الأرجاء، وظهرت المعادن مشوّهة بالكامل. ولكن هذا المشهد مألوف بالنسبة إلي. فسبق ورأيتُه في صور ولقطات فيديو لسوريا وفلسطين ولبنان والعراق وأماكن أخرى امتدت أنياب الحروب إليها. هو مشهد معاكس للطابع العالمي للأنقاض والحطام. وتابعنا تقدمنا في قلب مدينة مزدحمة، واستمرت جولتنا مع استمرارنا برؤية المواقع التي استهدفتها الغارات الجوية.3.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه زميلي بعد أن قال لي: "أنت محظوظ". وتابع قائلًا: "الوضع أشدّ هدوءًا هذه الأيام." "حقاً؟ كيف كان قبيل وصولي؟" "كانت صنعاء تشهد يوميًا مجموعة من الغارات الجوية العنيفة جدًا، بحيث يهتزّ سريري. وتردّى الوضع لدرجة أنني كنت أستيقظ فجأةً على صوت السيارات المارة ظنًا مني بأنّها طائرات عابرة. يحصل ذلك نتيجة القلق؛ لعلّ الأمر أشبه باضطراب ما بعد الصدمة من نواحٍ متعدّدة". ويتوقف زميلي عن الكلام قليلًا، ثمّ يتابع قائلًا: "أنا بحال أفضل الآن، ما عادت السيارات المارة توقظني." وفي وقت لاحق من ذاك المساء، وبينما كنتُ مستلقيًا في سريري وسط أجواء هادئة لم يعكّر صفوها سوى نباح كلاب في مكان بعيد، سمعت فجأة صوت سيارة مارة. وما كان مني إلا أن رحت أتساءل هل أنا أيضًا بدوري سأصل إلى مرحلة أخشى فيها هذا الصوت.4.
سمعت اليوم صوت أول غارة جوية. شُنَّت في أثناء الليل بينما كنت أتحدّث إلى صديقة تبعد آلاف الكيلومترات عني. سبق وسمعت صوت غارات جوية، ولكن عبر شاشات الحاسوب والتلفاز. ومع ذلك، لا تتّسم بالراحة تجربة تواجد المرء على مقربة من كهذا حوادث، وبالرغم من حصولها على بعد كيلومترات متعددة عن مكان تواجده وباعتباره بأمان إلى حدّ ما. بدا الصوت أشبه بدوي رعد عميق، إنّما رعد من صنع الإنسان. تلعثمت على الهاتف، وشعرت بأنّ حلقي يجفّ، وراحتَي يدَي تتعرقان. طلبت منها الانتظار دقيقة منصتًا بحذر بغية سماع الغارة التالية في حال حصولها. مرت الثواني ببطء شديد ولم أسمع شيئًا مجددًا فتابعت حديثي عبر الهاتف. أشعر بالتواضع أمام أولئك الذين يحافظون على رباطة جأشهم تحت وابل القنابل.5.
وجّهت زميلة يمنية الحديث إلي قائلةً: "سأريك كم يصعب على مواطن يمني أن يغادر البلد." وصعدنا بعدئذٍ على متن سيارة أجرة وتوجهنا إلى قلب صنعاء. وصلنا إلى مكتب الخطوط الجوية اليمينة، وتبعتها إلى الداخل وجلسنا برفقة موظف. سألَتْه بعدئذٍ ببراءة: "ما المطارات المتاحة أمام اليمنيين من أجل السفر؟" "يتوفر مطاران يعملان في اليمن، وهما مطار عدن في الجنوب ومطار سيئون في الشرق في حضرموت." وتابعت الحديث فسألت: "كم تبلغ كلفة السفر؟" "تبلغ حوالى 260 ألف ريال يمني بمعدل وسطي مقابل رحلة إلى الأردن انطلاقًا من عدن. والكلفة أشد ارتفاعًا عند السفر من سيئون بسبب المسافة." "هل من أماكن متوفرة على متن الرحلة؟" فأجاب الموظف بعد أن تحقق من حاسوبه: "الأماكن محجوزة بالكامل في الأسبوعَين التاليَين. هناك مقعد واحد شاغر في منتصف نوفمبر تشرين الثاني." توجهت إليه زميلتي بالشكر وخرجنا من المكتب. فقالت: "أرأيت؟". وما كان مني إلا أن قمت بعملية حسابية سريعة؛ يبلغ سعر تذكرة الطيران حوالى 250 ألف ريال يمني، أي ما يعادل ألف دولار أمريكي، وبالتالي هو مبلغ ضخم بالنسبة إلى أي فردٍ كان، وبالأخص بالنسبة إلى أولئك الأفراد في اليمن، بما أن متوسط الدخل للمواطن اليمني يقدّر بحوالى 200 دولار شهريًا. وعلّقتُ على الأمر باستياء قائلًا: "الكلفة باهظة فعلاً". فما كان منها إلا أن قالت: "هذا السعر هو فقط مقابل تذكرة سفر إلى الأردن. تخيّل كم أنت مضطر إلى الإنفاق إن أردت السفر إلى مكان آخر انطلاقًا من الأردن، ناهيك عن نفقات الإقامة في الأردن في حال كانت هي الوجهة التي ستستقر فيها. يجسّد ما سبق مثالاً بسيطاً عن التحديات التي يواجهها الناس هنا."6.
سمعت في إحدى الليالي سلسلة من الغارات الجوية في مكان بعيد. وعلى إثر ذلك، تملكني الانزعاج وخرجت لأدخّن سيجارة، ورأيت أحد الموظفين يجلس باسترخاء على مقربة من الباب، وكأنّه لا يشعر بالانزعاج بتاتًا. فسألته: "هل تردّد على مسمعك صدى تلك الغارات؟" فأجاب وقد علت وجهه ابتسامة دافئة: "أجل بالطبع، وهي بعيدة للغاية." "كيف اعتدت الأمر؟" وبعدما استغرق لحظة في التفكير قال: "أقطن في منزل صغير على أحد الجبال، وأنا أب لطفلَين. ذات مرة، ضربت غارات جوية مكثفة مستوى أشدّ ارتفاعًا في الجهة المقابلة من الجبل، في موقع لا يبعد كثيرًا عن منزلي. وتسببت الغارات باهتزاز المنزل وأوصدت بعنف شديد الباب الذي كان مفتوحًا للسماح بمرور الهواء خلال الصيف الحارّ. وراح طفلاي يصرخان وانتابهما خوف رهيب، فما كان مني إلا أن عانقتهما وطلبت منهما أن يهدآ وشرحت لهما بأنّه مجرد صوت عالٍ وبأنّ عليهما الاعتياد عليه." فما كان مني إلا أن سألته: "لمَ طلبت منهما الاعتياد عليه؟ حدوث هذه الغارات الجوية ليس أمرًا طبيعيًا، ألا تظنّ ذلك؟" "أنت محق، ليس بالأمر الطبيعي، ولكنني طلبت منهما الاعتياد عليه لأنّهما مرغمان على ذلك. ما من حل آخر أمامهما سوى التكيّف مع الوضع الراهن. هذا ما يقوم به أيضًا رجال أكبر سنًا ويتمتعون بنفوذ أكبر، وبالتالي، هل من خيار آخر متوفر أمام طفلَيّ؟"7.
"من أي بلدٍ أنت؟" "من سوريا." "سوريا! أهلًا بك! السوريون رائعون وهم يحتلون مكانةً خاصة في قلوبنا، وما يحصل في سوريا فظيع ومروع للغاية." "الوضع مماثل في اليمن، ما يحصل هنا أيضًا بمثابة مأساة حقيقية." "أجل، هذا صحيح، ولكننا نقف إلى جانب الشعب السوري." يشكّل ما سبق نموذجاً تقريبياً عن الحوار الذي يدور ما إن يعرف شخص يمني بأنني سوري الجنسية. فيسارع كلانا ليعرب إلى الآخر عن مشاعر التعاطف والتعازي. ولا مكان للشفقة في حوارنا، نحن فقط صديقَان حميمَان يجمعهما البؤس نفسه.8.
قال لي زميل يمني مفعم بالأمل: "ربّما يسعنا أن نحثّ اليمنيين على الذهاب إلى سوريا ورؤيتها في المستقبل." فأجبته قائلًا: "وربّما يمكننا في الوقت نفسه حثّ السوريين جميعهم على المجيء إلى اليمن." "ألن يكون الأمر إنجازًا رائعًا؟"9.
"اسمع يا يزن، ما رأيك بهذه الخطة؟ تحب النجمة الأمريكية العظيمة أنجلينا جولي أن تزور اللاجئين والمخيمات، فما رأيك لو نطلب منها المجيء إلى اليمن لرؤية البلد وشعبه. ربما عندئذٍ سيتلفت الناس أكثر إلينا ويولون المزيد من الاهتمام إلى التحديات التي نواجهها." ويُردف قائلًا: "أتساءل إن كانت ستمضغ القات معنا." سؤال وجيه، عزيزتي السيدة جولي: هل تقبلين أن تأتي وتقابلي الشعب وتلقي نظرة على التحديات التي يواجهها في اليمن؟ وهل تقبلين الجلوس برفقة اليمنيين ومضع القات والاستماع إلى قصصهم؟10.
"يقطن رجل سوري على مقربة من هنا، وهو في الواقع يمتلك مطعم الفلافل المتواجد في الجهة المقابلة من الشارع." "حقًا؟ أودّ أن أقابله". وهذا ما يحصل بالفعل بعد بضعة أيام. هو رجل نحيل وطويل تعلو وجهه ابتسامة عريضة، عرف مباشرةً من لجهتي بأنني سوري. أخبرته بأنني سمعت بأنّه يحضّر ألذّ فلافل، ولم أكن أجامله لأن الأمر صحيح، وأعربت له عن رغبتي بتذوقها. وبعد نقاش حيوي مطوّل أصرّ خلاله على عدم الدفع مقابل ما تناولته في حين كنت مصرًا على تسديد حسابي، توصلنا إلى حل يرضي الطرفَين، فدفعت بعد أن أجرى لي حسمًا، ورحنا بعدئذٍ نتحدّث. وسألته: "متى أتيت إلى هنا؟" فتنهّد وأجاب قائلًا: "منذ حوالى أربع سنوات. أنا من إدلب وغادرت بسبب الوضع في سوريا". ويتوقف لحظة عن الكلام وترتسم على وجهه ابتسامة عريضة ويتابع قائلًا: "لم أعرف بالطبع أنّني سأبقى عالقًا هنا وسط هذه الظروف في اليمن." "كيف حال عائلتك؟ أما زالت هناك؟" "أجل، لا أقوى على إحضار والدتي إلى هنا. على الأقل هي محاطة هناك بأفراد العائلة من إخوان وأخوات بالرغم من القصف. لن تشعر بالسعادة هنا بما أنها ستبقى وحيدة في المنزل بينما أنا أعمل. والعمل هنا شاق، ولا يسير على أكمل وجه، ولهذا طلبت منها البقاء في إدلب." يا لسخرية القدر، أن يحاول المرء الفرار من حرب ليجد نفسه في خضم حرب أخرى. كم من سوري آخر يعيش في ظل هذه الظروف؟ وكم من يمني في سوريا يعيش أيضًا في ظل هذه الظروف؟11.
"هل سبق وسمعت قصة مختار؟ مختار رجل فقد ساقه جرّاء من ألغام أرضية. بذل الأطباء ما في وسعهم وأوقفوا النزيف وساعدوه على الشفاء. وصُنعت له ساق صناعية. خضع لعلاج مع المعالجين الفيزيائيين وتعلّم كيفية المشي من جديد. وهل تدري ماذا قرّر مختار أن يفعل؟ اتّخذ قرارًا بالعمل مع المستشفى والأطباء للتحدّث إلى أفراد آخرين فقدوا أطرافهم، ليحثهم على عدم الاستسلام، وليريهم بأن الحياة تستمر. أشباه مختار كثر في اليمن إنّما لا يُسمع عنهم لسبب أو لآخر، وهم الأبطال المجهولون الذين يُبقون اليمن نابضًا بالحياة على الدوام."12.
يصرخ طبيب بحماس: "هيا، سترافقني!". سننطلق في جولة على المستشفيات الثلاثة، مستشفى الكويت الجامعي، ومستشفى الثورة، والمستشفى الجمهوري، التي تعمل منظمة أطباء بلا حدود معها وتدعمها في صنعاء. ويدير الطبيب نظام الإحالة الذي يُحيل بموجبه موظفي المنظمة المرضى وبالأخص المتواجدين خارج صنعاء ليتلقوا العلاج. وتغطي المنظمة تكاليف العلاج والأدوية والنقل والمعيشة. فأرافق الطبيب لأقابل المرضى الذين يزورون المستشفيات. ننطلق في جولة خاطفة ونقابل مريضاً تلو الآخر وطبيباً تلو الآخر. أقابل مريضة غارقة في غيبوبة بعد أن سقطت على الدرج. يجلس والدها إلى جانبها ويبذل الأطباء ما في وسعهم لإنقاذها ولكن المعطيات لا تبشّر بالخير. يتمدّد مريض آخر، وهو صبي صغير نجا من حادث سيارة، على بطنه ووجه متجّه إلى الجانب، عاجز عن الحركة. يتحدّث بشجاعة ويصغي جيدًّا إلى الأطباء. يعاني مريض آخر من مشاكل نفسية. كان يتجوّل في شوارع بلدته قبل أن تدهسه سيارة وتلوذ بالفرار. ينام على شرشف متسخ ويداه مقيدتان إلى جانبَي السرير وهو يتمتم. يشعر الطبيب الذي أرافقه بالغضب ويطلب من مقدمي الرعاية له أن يغيروا فراشه وملابسه بأخرى نظيفة. والمريض التالي هو جريح حرب خضع لتوّه لعملية جراحية لإخراج رصاصة من جسمه. عندما رأيته، كان يشعر بالضياع بسبب التخدير ويخوض غمار معركة ما متفوهًا بعبارات غريبة وطالبًا توخي الحذر من دون كلل ولا ملل، وكان أصدقاؤه يهتفون له. أمّا المريض الآخر فهو مزارع شاب من عبس نجا من غارة جوية. ظنّ كثيرون بأنّه لقي حتفه عندما أحضروه إلى المستشفى. كان جسمه أسود اللون جراء الحروق وتنتشر عليه لطخات من الدم الأحمر في الشقوق. ولكن الأطباء مسرورون جدًا اليوم بالنتائج التي وصل إليها بعد خضوعه لعمليات جراحية متعدّدة. ويخبرني الطبيب قائلًا: "عاد إنسانًا بنسبة 70 بالمئة الآن، وسيتمكن بفضل بعض العمل الإضافي من العيش حياة طبيعية نسبيًا". وقابلت بدوري هذا المريض: تهيمن الندوب على نصف وجهه وفقد عينًا أيضًا، ولكنه سيحيا وسيعيش أفضل من الآخرين بفضل شعلة الأمل التي لم تنطفئ في قلبه. والمريض التالي هو ضحية تعذيب. اعتُقل وتعرّض للتعذيب على يد الشرطة التي لم تلقِ به في المستشفى إلا بعد أن اكتشفت إصابته بفيروس يعتبر من المحرمات. واستُدعيت منظمة أطباء بلا حدود لتقديم الدعم في معالجته. يتمدّد على السرير كإنسان محطم. نتحدّث إليه بهدوء ويجيب بوصت أجش. والدته برفقتنا أيضًا وهي تحب ابنها حبًا جمًا ولا تفهم لماذا قسا العالم عليه إلى هذا الحدّ الكبير. ترفض فكرة عدم رغبة زوجها بأن يعود ابنهما إلى المنزل. أخبرناها بأنّها شجاعة وبأن دعمها المتواصل لابنها رائع. تبدأ بالارتجاف وتملأ الدموع عينيها بينما تشكر الأطباء على عملهم. بعد رؤيتي لهذا المشهد، أُحكم بقبضتي على دفتر الملاحظات الذي أحمله. ونتابع جولتنا ونقابل المزيد من المرضى في المستشفيات التي تستقبل مرضى إضافيين كل يوم. يتوجّه الطبيب إلى بالحديث عند نهاية الجولة قائلًا: "أنا فخور بما نحققه." ويضيف: "نحن نساعد الناس، ولكنني في الوقت نفسه أشعر بالحزن الشديد." "لمَ أنت حزين أيها الطبيب؟" "لأن العبء كبير ولا يسعنا إنجاز المهمات كافة. مقابل كل مريض تراه هنا، هنالك عشرة آخرون لا نملك القدرة على مساعدتهم. في كل مرة أزور فيها المستشفى، أرى المرضى وأفكّر بأولئك الذين ينامون بجانبهم والذين نعجز عن مساعدتهم. لا يسعنا القيام بكل شيء، وتسيطر هذه الأفكار على ذهني."13.
تتوجّه إحدى الممرضات في المستشفى إلي بالحديث متذمرةً وتقول: "كيف يفترض بنا أن نعيش؟". لم يتلقَ الطاقم الطبي أجره منذ ما يزيد عن شهرَين لأنّ وزارة الصحة بكل بساطة لا تمتلك المال. "لا يمكنني أن أستقل سيارة أجرة أو حافلة كل يوم، ولا يمكنني أن أملأ سيارتي بالوقود بما أنني لا أملك المال. أجبني، كيف يعيش المرء؟ كيف يأكل؟ كيف يحيا؟" فأسألها: "لمَ تأتين إلى المستشفى للعمل إن كنت لا تتقاضين أجرك؟" "وكيف أمتنع عن ذلك؟ أنا أعمل في مستشفى، فكيف لا أحضر وأعمل وأقدّم العون؟" لولا أمثالها االذين يبقون عجلة البلد تدور بغضّ النظر عن الصعوبات، لكانت الأزمة الإنسانية في اليمن اتّخذت طابعًا أشدّ كارثيةً يصعب تخيله.14.
أنا الآن في الشمال وتحديدًا في بلدة خمر بمحافظة عمران التي تبعد حوالى ساعتَين بالسيارة عن صنعاء والتي يتطلّب الوصول إليها عبور نقاط تفتيش يديرها مقاتلون شباب، علاوةً على عبور حقول القات الخضراء الخصبة، والتكوينات الجبلية الضخمة، والمنازل الحجرية الرائعة. أمّا الطقس فهو أشدّ برودة. يتم اصطحابي إلى مستشفى متواضع في بلدة خمر يعمل فيه موظفو منظمة أطباء بلا حدود وتُعرض علي في الداخل الأقسام والأجنحة المختلفة. ونصل بعدئذٍ إلى قسم الأطفال وتعرب لنا إحدى الممرضات عن شعورها بالإحباط. فتخبرنا قائلةً: "نواجه المشاكل مع بعض من الأهالي. يهمون بالمغادرة ما إن تسنح أمامهم الفرصة بالرغم من عدم حصول أطفالهم على العلاج بالكامل." يبدو أنّه أسلوب معتمد ويزيد من مخاوف الطاقم الطبي الكبيرة. ولكن لمَ قد يفعلون ذلك؟ لمَ قد يعرّض الأهل أطفالهم للخطر؟ ويشرح لي طبيب هذا الواقع قائلًا: "لأنّهم يقومون بعملية حسابية. يأتون إلى هنا سعيًا خلف العلاج لأطفالهم، وكل لحظة يمضونها بعيدًا عن المنزل والعمل بمثابة خسارة كبيرة للوقت والمال. ينتظرون مطولًا وعندما يسمعون بأن أحدًا ما، سواء كان صديقاً أو شخصاً غريباً، يعود أدراجه إلى منطقتهم، يغتنمون الفرصة لأنّهم يجهلون متى ستسنح فرصة أخرى مماثلة أمامهم. يفكرون بأولادهم الآخرين، والمسألة عبارة عن عملية حسابية وهي صعبة من دون أدنى شكّ."15.
أدخل إلى جناح في مستشفى في بلدة خمر يُعنى بتغذية الصغار، والأطفال غالبًا. أكتشف هناك عدداً كبيراً من حالات سوء التغذية ويُخبرني الموظفون بأن لا وجود لحالات سوء تغذية حاد حاليًا. وأتوجّه بعدئذٍ إلى غرفة مريضة، وأراها مستلقية على جانبها، وعيناها كالزجاج تتحركان بسرعة في الاتجاهات كافة وكأنهما تبحثان عن شيء ما إنّما تعجزان عن إيجاده. ويدخل في فتحتَي أنفها أنبوبَين بلاستيكيَين يزودانها بالعناصر الغذائية المنقذة للحياة، في حين يتواجد والداها إلى جانبها. أوجّه أولًا الحديث إلى والدها. يجلس هذا الأخير على سرير متعامد مع سرير ابنته، ويحدثني ونظره مثبّت على ابنته. ويقول بهدوء لدرجة أنني اضطررت إلى الاقتراب منه لأسمع كلماته: "عجزت عن المجيء في وقت أبكر. لم أملك ما يكفي من المال، وبالكاد أنجح بإيجاد عمل." أمّا زوجته، وهي والدة المريضة، فتقف عند الطرف السفلي للسرير تراقب الممرضة وهي تعالج ابنتها بعناية. وأستهل حديثي مع الوالدة التي تجيب بجرأة وحيوية أكبر مقارنةً بزوجها. "تبلغ ابنتي عامَين. سأموت إن فقدتها، ماذا سأفعل من دونها؟" "ما اسمها؟" فتجيب بمزاح: "تدعى مسيرة، ولكن توجّب علينا تسميتها صائمة". وأفهم بالكامل الدافع خلف هذا المزاح؛ هو مزاح ساخر يشكّل الملاذ الأخير في الأوقات العصيبة. ننظر إلى مسيرة بهدوء بينما تواصل عيناها التحرك عشوائيًا في الاتجاهات كافة وكأنهما تبحثان عن شيء ما إنّما تعجزان عن إيجاده.16.
يتصل بي رجلان يتواجدان في بلدة حوث إلى الشمال ويطلبان مني الانضمام إليهما. فأسألهما: "ما الذي تفعلانه هناك؟" "تعال وسترى!". أصعد باتجاههما وأجدهما جاثمَين فوق حفرة ينبعث منها الدخان. هما يطهوان جنادب التقطاها من الحديقة. يُرياني كيف يقشران هذه الحشرات ويطهوانها، والأمر شبيه بطريقة تحضير الروبيان. حاولت تذوقها ولكنني لم أمتلك ما يكفي من الشجاعة للقيام بذلك. وسألت عوضًا عن ذلك: "كيف هو مذاقها؟" فأجاب أحدهما: "كمذاق العسل يا صديقي." ويُردف الآخر قائلًا: "الأمر مضحك؛ يخشى المزارعون في أكثر مناطق العالم الجنادب لأنّها تأكل محاصيلهم. هنا، هي التي تخشانا لأننا نأكلها!". وتعمّ موجة من الضحك على الدعابة التي تفوّه بها الرجل، ونتحدّث بعد ذلك عن سياسات الغذاء، وكيف ينظر كل مجتمع سلبًا إلى عادات طهو المجتمعات الأخرى. ويضيف أحد الرجلَين بينما تعلو وجهه نظرة تأملية: "سيضطر العالم بأكمله إلى تناول الجنادب يومًا ما. هو طعام شهي في الوقت الحالي ولكن مع ارتفاع أسعار المأكولات والأحداث التي نشهددها، سنجد أنفسنا جميعنا تناولها كطعام أساسي."17.
أُسدلَ الستار على رحلتي إلى اليمن بغمضة عين، وها أنا على متن طائرة شبيهة من حيث الحجم بتلك التي نقلتني إلى البلد قبل بضعة أسابيع. تتزاحم في رأسي الأفكار والصور حيال كل ما اختبرته في أثناء إقامتي. أشعر وكأنّ العالم تغيّر، ولربما الأمر صحيح من ناحيةٍ ما بما أنّه تم انتخاب "قائد" جديد لقوة عظمى بينما كنت في اليمن. أنا توليفة من الأفكار والأحاسيس. أشعر بالذنب لقدرتي على القدوم إلى اليمن ومغادرته بينما يُحرم كثيرون من هذا الامتياز. أشعر بالذنب لإثارة قلق أصدقائي وأفراد عائلتي بالرغم من كوني بأمان طوال فترة إقامتي، وفي حين لا يشعر الملايين من اليمنيين ولو بمقدار ضئيل من الأمن والأمان. أشعر برابط قرابة مع مجتمع يعاني من تبعات حرب ابتلى بها بلدي أيضًا، مع شعبٍ لم يتردّد في الإعراب عن لطفه أمامي وإظهار تعاطفه معي بالرغم من التجارب والمحن اللامتناهية التي يواجهها. يتملكني القلق والتوتر والإحباط والسخط. أشعر بأنني عديم الفائدة ولكنني مفعم بالأمل على حدّ سواء. أحاول أن أخدع نفسي كما فعلت سابقًا بغية التخفيف من اضطرابي الداخلي بينما تقلع الطائرة عاليًا وبكل حرية فوق جبال اليمن وسحابه. لا بدّ أن مصدر الإزعاج هو المطبات الهوائية. أجل، أنا قلق من المطبات الهوائية وحسب. ولكن في الحقيقة، لم يكن من أثر للمطبات الهوائية هذه المرة.رسم عمر خوري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين