تُشبه جدران المنازل القائمة على طرفي شارع سوريا الغربال. الثّقوب التي تجتاح جدران المباني تعكس جولاتٍ من العنف الذي يحتدم بين فترةٍ وأخرى.
فصندوق البريد، أي شارع "سوريا"، على الرغم من مساحته المحدودة، وفصله بين منطقتين هما جبل محسن، أو جبل العلويين، وباب التّبانة، استحوذ منذ العام 2011 على لقب المنطقة الأكثر اشتعالاً، وباب الحرب الأهلية المفتوح على شكلٍ مصغر، يُستخدم تارةً لتوجيه الرسائل ما بين الأطراف اللبنانية المتخاصمة، وطوراً لتنفيس الاحتقان الشعبي، تفادياً لمواجهاتٍ أكبر لأسباب سياسية مذهبية.
مشروعاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، نقل القيّمون على المشروع صندوق الفرجة وحملوا ما فيه للعامة، بهدف إظهار الصورة الحقيقية من العاصمة الثانية للبنان، طرابلس.
يصف القيمون على المشروع الشارع بالفاصل الملموس والمعنوي بين التبانة وجبل محسن، وقد نجحت الأزمة المشتعلة في سوريا، على بعد 40 دقيقة من طرابلس، في أن ترخي بظلالها على الحياة اليومية للسكان في هاتين المنطقتين. ومن سخرية القدر أن يحمل خطّ التماس اسم شارع سوريا.
ينقل المشروع شهاداتٍ حية لسكانٍ من على ضفّتي الشارع الحيوي، فشارع سوريا هو منفذ أبناء الجيل لمدارسهم وأشغالهم والشريان الذي يغذي منطقتهم.
آلاء مهنى تتذكر طفولتها منذ كانت في الثانية عشرة: "لا سلام في منطقتنا، لا مجال للأحلام والطموحات".
[caption id="attachment_87841" align="alignnone" width="700"] آلاء مهنى[/caption]
جل ما يتمناه المرء هو النجاة من رصاصة قناصٍ أو قذيفة هاوٍ يريد التسلية، أو تقاضي مبلغٍ من المال جراء توتير الأجواء. الفقر أجبر كُثُراً على حمل السلاح، فالسلاح لم يعد في المنطقتين زينةً للرجال، بل باباً للرزق. أهلها طيبون كما يصفهم أحمد البالغ من العمر 23 عاماً، لكن العوز لا يعرف طيبةً ولا محبّة.
خلف كل ثقبٍ من ثقوب مباني شارع "سوريا" حكاية. يكفي أن تضع عينك في ثقبٍ من الثّقوب، لتشاهد حكايةً من حكايا صندوق الفرجة الطرابلسي. مقاطع عديدة قد يراها الناظر من خلف تلك الحفر، قصصٌ عن المنطقة الأكثر فقراً وبطالةً في لبنان، بعدما شاء المتخاصمون أن يحوّلوها إلى أرضٍ سورية الهيئة، يحكمها الاقتتال الأهلي، بين جبلٍ أقلّوي خائف من محيطه الطرابلسي، يؤيّد النظام في سوريا، وأكثريةٍ تحاصر الجبل، تؤيّد المعارضة السورية. مع أن الجبل يشبه التبانة والمنكوبين وسوق الخضار والقمح في طبيعة أهله ولهجتهم، وفي مستواهم الاجتماعي والعلمي، وفي فقرهم وبطالتهم، مما جعل منهم أدواتٍ يستغلها السياسيون للتفاوض في البازارات بالدم. ولم ينفعهم تشابههم في تفادي سقوط 200 قتيلٍ من أبناء المدينة.
"شارع سوريا" احتضن حزينٌ لأننا نتقاتل...
بينما تتمايل بقايا الستارة على نافذة منزلٍ قريب، يخترق صخب الشارع صوت الآذان، ومعه يخترق صوت هنا عواد المشهد: "سكان المنطقتين مسلمون، نحن مسلمون، ومع ذلك نتقاتل، هذا يحزنني. كان زوجي يملك صالة عرض كبيرة للسيارات في شارع سوريا. بعد اندلاع الاشتباكات توقف توافد الزبائن، بعضهم كان يأتي من بيروت، حال الخوف ما بينهم وبين زيارة طرابلس. اضطر زوجي في نهاية الأمر إلى إقفال المحل. وسرعان ما استنزفت مدخّراتنا. فعائلتنا تتكوّن من سبعة أفراد". [caption id="attachment_87842" align="alignnone" width="700"] هنا عواد[/caption] لم يكن الامر سهلاً على زوج هنا، عانى من اكتئابٍ حاد، أجبرها على الخوض في سوق العمل، كطاهيةٍ في مطبخ إحدى المنظّمات. "في إحدى المرات اضطررت إلى الهرب إلى منزل شقيقتي في شكّا، التي تبعد 20 دقيقة من هنا. شعرت كأنني في بلد آخر. هنا نسمع الرصاص وصوت القذائف طوال الوقت، ويتعذّر علينا تأمين الطعام والمياه، نشعر بالانقطاع عن المناطق الأخرى في لبنان. سيطرة المجموعات المسلحة على حمص كانت كفيلةً بتحويل حياتنا لجحيم"، تقول نسرين، التي تقطن في جبل محسن، وتحلم بتأمين حياةٍ رغيدةٍ لبناتها لا أكثر، حياة آمنة من دون الاضطرار للنزوح كل فترة.لأيمتى؟
تدور شواية الدجاج، أو "الفراريج" أمام واجهة أحد المطاعم الشعبية في الشارع، يلهو أمامها بعض الفتية، وعلى المقلب الآخر، سيداتٌ قررن تبادل الأحاديث من على الشرفات، تمتزج أصواتهن مع أصوات باعة القهوة والعصائر. لا يمكن للزائر أن يميز بين ساكنٍ للجبل وساكنٍ للتبانة أو المنكوبين. ربما، عند اشتعال الجبهة، يتمترس كل طرفٍ خلف جماعته، ويبدأ الساسة بتحضير أوراق التفاوض، فمن غير المسموح أن تمتدّ أو تطول الاشتباكات، إذ أن الطبقة السياسية على اختلافها واختلافاتها، ترفض الحرب الأهلية. بدأت اللجنة الدّولية للصليب الأحمر عملها في شارع "سوريا" منذ نوفمبر 2014. عدّة مشاريع أُنجزت بهدفٍ واحد، تطوير مقوّمات الحياة في المنطقة، ومحاولة محاربة الفقر بمشاريع صغيرة، ومحو الأميّة، بطموحٍ ثابت، هو مسح الصورة النمطية السائدة عن شارع "سوريا"، أنه شارعٌ يفصل بين منطقتين للمجرمين، في حين أنه شارعٌ يفصل بين مبانٍ اجتمع سكّانها على الحلم، حلمٍ بحياةٍ كريمة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين