على مدار عقود طويلة، ظلت التيارات الليبرالية العربية، تنذر نفسها للدفاع والترويج لقضايا الحريات وحقوق الانسان والديمقراطية، لكن حينما جاءت لحظة الاختيار والاختبار، تنكرت لمبادئها ودعمت الاستبداد وانضمت إلى صفوف الانظمة العربية القائمة في سبيل إقصاء خصومها من التيارات الاسلامية.
وشهدت الليبرالية بزوغ نجمها في العالم العربي على يد "رفاعة الطهطاوي" في منتصف القرن التاسع عشر، مروراً بمفكرين أسهموا في ترسيخها كتيار ثقافي وفكري في الساحة العربية مثل "عبد الرحمن الكواكبي" و"أحمد لطفي السيد" و"طه حسين"، وغيرهم.
وظلت تتبنى قضايا حرية الرأي والتعبير والفكر والابداع وتدافع عن حقوق وتمكين المرأة، وتطالب بتداول السلطة وسيادة دولة القانون والمؤسسات وعدم المساس بالحريات الشخصية، وقدمت بعض التضحيات في سبيل نضالها ضد قوى الاستبداد، غير أن عداءها للإسلاميين كان أكثر شراسة وأعمق من خصومتها وخلافها مع الانظمة العربية.
ولما كان مزاج جماهير ثورات الربيع العربي في بدايتها إسلامياً بامتياز، لم تعر القوى الليبرالية التوقير لنتائج صناديق الانتخابات وانحازت ضد مبادئها ولم تدعم الاطاحة بالحكومات المنتخبة قسراً فحسب، بل باركت قمع وسحق الإسلاميين تحت مبرر التخلص من الفاشية الدينية والقضاء على التطرف والارهاب.
ويرى البعض أن التيار الليبرالي يعد تياراً نخبوياً لا يملك أدوات الوصول إلى السلطة، وفقد بمواقفه الأخيرة مصداقيته في الشارع العربي، لكنه يظل بمثابة جماعات ضغط لها ثقل إعلامي وثقافي في قضايا حرية التعبير والإبداع، ونصيب في حسم الصراع المحتدم بين الأنظمة العربية وبدائلها من القوى والتيارات الإسلامية.
نماذج عربية متعددة
ازدواجية التيار الليبرالي العربي، وغضه الطرف عن الانتهاكات بحق خصومه الإسلاميين، تجلت في أكثر من تجربة سياسية. ففي الجزائر أيدت القوى الليبرالية إلغاء الجيش لنتائج الانتخابات البرلمانية التي ظهرت بشائر فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بها في مطلع التسعينات. وفي تونس، عقب ثورة الياسمين، لم تهدأ ثائرة القوى الليبرالية المناوئة للإسلاميين إلا بإخراج حركة النهضة من السلطة وتعيين حكومة محايدة، واستسلم إسلاميو تونس للتنازل عن السلطة قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، خشية مصير رأس الإخوان المسلمين الطائر في مصر عقب تحالف جمع بين قوى نظام مبارك والتيارات الليبرالية واليسارية، سمح للجيش بالعودة إلى السلطة مجدداً. أما القوى الليبرالية في السعودية، التي لا تعدو مجرد تيار ثقافي يتبدى في الإنتاج الأدبي والمقالات الصحفية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، ورغم أن رموزها انضموا منذ سنوات إلى تيار الصحوة الإسلامي في مطالب الإصلاح الداخلية، إلا أن الليبراليين السعوديين سرعان ما اتخذوا موقف الرفض لثورات الربيع العربي واتهموا الإسلاميين بركوب موجتها ورحبوا بقمعهم وإقصائهم ورفضوا الاعتراف بنتائج صناديق الانتخابات.ازدواجية وتناقض
يؤكد الدكتور جمال عبد الجواد، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، لرصيف22 أن التيارات الليبرالية العربية تعاني من الازدواجية والتناقض بين خطابها التنظيري ومواقفها العملية. ويوضح عبد الجواد أن للتيار الليبرالي شخصيتين، الأولى هي صاحبة الرؤية المبشرة والداعية للديمقراطية والحريات بمختلف أشكالها وأنماطها، والثانية باعتباره تياراً سياسياً يسعى لتحقيق رؤيته عبر الوصول إلى السلطة أو على الأقل أن يضمن ألا تكون السلطة في يد خصومه، ومع احتدام الصراع السياسي مع ثورات الربيع العربي كانت أولوية التيار الليبرالي الصراع على السلطة وليس الترويج والدفاع عن رؤيته. فالتيار الليبرالي أُجبر أن يختار بين وقوع السلطة في يد خصومه السياسيين مثل التيار الإسلامي وبين الاستقامة لمبادئه، وبالطبع فإن "قضية السلطة لا يعلى عليها شيء ومن هنا ظهر التناقض".لطالما كانت التيارات الليبرالية العربية تدافع عن الحريات والحقوق ولكن ها هي تفعل المستحيل لإقصاء التيارات الإسلامية
عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين، يتناسى الليبراليون العرب كل مبادئهم ويتغاضون عن كل الانتهاكات...ويبين الدكتور عبد الجواد أن كل التيارات السياسية شهدت هذا التناقض والتنكر للمبادئ، وتعرضت لاختبار صعب في ظل صراع عنيف على السلطة، مؤكداً أن الكل أحرج ميدانياً وأخلاقياً. وتنازلت القوى الليبيرالية عن قضايا الحريات خوفاً من الاستبداد الإسلامي وفضلت عليه الاستبداد العسكري، وذلك لأن الاستبداد العسكري مرتبط بقمع الحريات السياسية فقط، فيما يشمل الاستبداد الإسلامي قمع الحريات الفردية. ويقول عبد الجواد أن التيارات الليبرالية "تتجاهل انتهاكات حقوق الانسان والقمع الذي يتعرض له الإسلاميون ولا تستنفر إلا من أجل الممارسات أو الانتهاكات التي تطال أنصارها ومعتنقي أفكارها". والتيارات الليبرالية تضررت كثيراً من المواقف التي اتخذتها في ثورات الربيع العربي، وكان الرابح الأكبر دعاة القبضة والدولة القوية، وهي رؤية أدت إلى تراجع مناخ الديمقراطية والحريات للخلف في العالم العربي. وهناك تنوعات كثيرة في الليبراليين العرب اليوم، بحسب عبد الجواد، فمنهم أقسام ترغب في العودة إلى النضال من أجل قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأقسام ما زالت متخوفة من التيارات الإسلامية وما تعتبره فاشية دينية وتواصل انحيازها للأنظمة السياسية العربية القائمة ضماناً لعدم عودة الفاشية الإسلامية.
البون الشاسع
وأوضح الكاتب الصحافي "أسامة الهتيمي" لرصيف22 أن مواقف التيار الليبرالي من الحريات والديمقراطية يقف عند حد ما يراه هو صواباً، دون اعتبارات أو التفات حقيقي لمعنى التباين في الرؤى والأفكار، وبالطبع يجد أنصار هذا التيار مبررات لمواقفهم، يأتي في مقدمتها أن رفض فكر بعينه وحق التعبير عنه ليس إلا لأن هذا الفكر يصادر الآخر ويمنعه. واستناداً إلى ما سبق، فإن مدّعي الليبرالية كانوا أول من وقف في وجه جبهة الإنقاذ في الجزائر بعد فوزها في الانتخابات البرلمانية في التسعينيات من القرن الماضي، وكان المبرر وقتها أن أحد قادة هذه الجبهة أعلن أن الصندوق سيكون لمرة واحدة. غير أن نتيجة الموقف الإقصائي للإسلاميين الجزائريين، والذي يتعارض مع شعارات الليبرالية والديمقراطية، كانت دخول البلاد في صراع دموي امتد لسنوات طويلة ولا تزال الجزائر تعاني من آثاره حتى اللحظة، وهو نفس ما حدث في مصر عند فوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية، فضلاً عن الانتخابات الرئاسية. وكان من أهم نتائج هذا الموقف أن فقد الليبراليون مصداقيتهم لدى الشارع السياسي الذي أصبح يرد بسخرية واستهزاء على أي حديث لأحدهم عن الحرية واحترام إرادة الشعب وغيرها من العبارات التي فقدت مدلولاتها. ومن بين تناقضات الليبراليين أيضاً وقوفهم صفاً واحداً لشن حرب شرسة ضد الإسلاميين إذا ما رفضوا مثلاً ما يمارسه البعض من تزييف أو تشويه للقيم الإسلامية في بلد ما، فيما يغضون الطرف تماماً في حال وقعت انتهاكات حقوقية بحق أي تيار سياسي كان أو فكري يختلف مع التوجهات الليبرالية. ففي مصر شن الليبراليون حرباً شعواء لصالح "إسلام البحيري"، واستنكروا محاكمته بتهمة ازدراء الأديان فيما لم ينطق أحدهم ببنت شفة بشأن ما يحدث في السجون والمعتقلات وعمليات القتل الممنهجة داخل السجون.انقسام وتفتت
يقول الدكتور "مصطفى علوي"، استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، لرصيف22 إن "هناك تناقضاً واضحاً في أطروحات وأفكار القوى الليبرالية العربية، فقبيل الاستحقاقات الانتخابية يطرحون وعوداً وآمالاً عريضة سرعان ما تتغير، لعدم اقترابهم من هيكل العمل السياسي والمشاكل التي تواجه الجماهير وافتقارهم لآلية إيجاد الحلول الواقعية". ويشير أستاذ العلوم السياسية إلى أنه لا توجد قوى ليبرالية بالمعنى الحقيقي في البلاد العربية، وهي أزمة تعاني منها التيارات السياسية النخبوية مثل الليبراليين والاشتراكيين، كما أن هذه القوى تعاني من الانقسام والتفتت والصراعات الداخلية. وبرأيه، "أكبر دليل على ذلك ضخامة أعداد الأحزاب السياسية، فمصر وحدها لديها 106 أحزاب، بينما الأمر يختلف في الدول التي تعيش حياة ديمقراطية سليمة، إذ لا يوجد بها سوى 7 أو 8 أحزاب". ويظل التيار الليبرالي من أضعف التيارات في الحياة السياسية العربية، وفق رأي د. علوي، ورغم تحسن الظروف السياسية بعد عام 2011، فإن هذا التيار عاد بعد ذلك ليفقد مصداقيته ويتلاشى وجوده في الشارع العربي، فلا يمتلك القدرة على المنافسة في الانتخابات البرلمانية أو المحلية، ولا يستطيع التصارع على السلطة التي تنحصر بدائلها في التيار الإسلامي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.