كانت "باربورا كارلن" Barbro Karlen في زيارة إلى أمستردام، وعمرها عشر سنوات، فأرشدت والديها إلى منزل "آن فرانك"، رغم أنها تزور عاصمة هولندا للمرة الأولى. تعرّفت باربورا إلى غرفة "آن فرانك" بتفاصيلها، وقالت إنه كانت هناك صور لفنانين ومشاهير معلقة على الحائط.
الدليل السياحي في منزل فرانك، أكد وجود صور، لكن القيّمين على المتحف أزالوها للحفاظ عليها. كانت باربورا منذ صغرها تدعي أنها "آن فرانك" (1929-1945). وهي فتاة ألمانية يهودية، قضت في عمر 16 عاماً تقريباً في محرقة "أوشويتز"، واستطاع والدها أن ينجو ويعود إلى مكان سكنهم في أمستردام، فوجد مذكراتها ونشرها في كتاب تحت عنوان: "مذكرات فتاة صغيرة" The Diary of a Young Girl.
ولدت باربورا في السويد من والدين مسيحيين. وفي السنة الثالثة من عمرها، بدأت تقول إنها ليست باربورا بل "آن فرانك". استمرت بسرد أحداث من حياتها السابقة، وكانت غالباً تثير غضب محيطها، ويُنظر إلى قصصها على أنها تخيّلات طفولية شبيهة بصداقات خيالية. في عمر السبع سنوات تعرفت باربورا للمرة الأولى إلى آن فرانك، لكن ليس من خلال ذاكرتها، بل من خلال أستاذتها في المدرسة، لتدرك لاحقاً أن فرانك شخصية معروفة. برعت بربورا في الكتابة، فنشرت 11 كتاباً وهي في الـ16 من عمرها في السويد. وأصدرت عام 2000 كتابها "وعَوَت الذئاب: أجزاء من حياتين" And the Wolves Howled, Fragments of Two Lifetimes، روت فيه سيرتها، وكل ما خاضته في حياتها الحالية والسابقة.
ولكن ماذا يقول العلم؟
تكتسب قصة باربورا أهمية، باعتبارها واحدة من 2500 حالة، درسها الدكتور "إيان ستيفنسون" Ian Stevenson (1918-2007)، وهو طبيب نفسي وباحث، عمل في جامعة فرجينيا نحو 50 عاماً في كلية الطب.وقد ترأس قسم الطب النفسي نحو عشر سنوات، وأسس قسم دراسات الإدراك الحسي. بدأ ستيفنسون بحثه عن ظاهرة حديث الأطفال والأشخاص عن حياتهم السابقة، عام 1960، وراح يجول العالم، ويستمع إلى قصص أطفال وذويهم. وبعد وفاته، لا يزال البحث جارياً في جامعة فيرجينيا، من قبل الدكتور جيم تاكر، وهو باحث في علوم الطب النفسي والسلوك العصبي.
ورغم نشر دراسات ستيفنسون في أعرق المجلات العلمية عن مشاهداته، والقصص الموثقة التي سمعها، لم يتقبل بعض الأطباء والمجتمع الطبي والعلمي نتائج الدراسة. لكن أحداً لم يستطع إنكار المسار العلمي الصحيح، الذي اتبعه الباحث خلال دراساته. يوثق تاكر تجربته الشخصية، وأكثر من خمسين عاماً من بحوث ستيفنسون في كتاب "الحياة قبل الحياة" Life before Life.
وتوصلت الدراسة إلى نتائج غير تقليدية علمياً. فيقول الباحث إن الأطفال بين عمر السنتين والثلاث سنوات، يبدأون عادة الحديث عن حياة سابقة، وفي بعض الأحيان عن عائلاتهم السابقة، أو يتحدثون عن طريقة وفاتهم في الحياة السابقة. وتبين خلال البحث أن القصص كانت صحيحة غالباً، حتى أن البعض استطاع التعرف على أفراد من عائلاتهم من حياتهم السابقة. ويقول الباحثان إن لدى بعض الأطفال علامات عند الولادة، تتطابق في مكانها مع جروح في أجساد الأشخاص المتوفين. ويعرض الكتاب الحالات بشكل مباشر، ويطرح إمكانية أن يستمر "الوعي" بعد الوفاة. اللافت أن لبنان كان من بين البلدان الست التي سَهُل فيها البحث عن حالات أطفال، بالإضافة إلى الهند، وسيريلانكا، وتركيا، وتايلاند، وميانمار.
وثقت دراسات عدة قصص الأطفال الذين يتحدثون عن حياتهم السابقة... كيف يقارب العلم اليوم فكرة التقمص؟
أصر رامز منذ طفولته على التعرف إلى عائلته في حياته السابقة. أمثلة كثيرة عن التقمص ولكن لا براهينوفي مكان آخر من العلم، خصوصاً لدى علماء الفيزياء الكلاسيكي وفيزياء الكم، تصبح جدلية إمكانية وجود حياتين تفصيلاً بسيطاً. فيقدم هؤلاء الوعي على المادة، ويعتبرون أن الوعي يشكل المادة. وفي أحدث الاختبارات، يتغير شكل فوتون ضوئي في سفرها كلما نُظر إليها، فإما تأخذ شكل موجة، أو ذرة مسرعة. هذه الاختبارات تدعم قول أينشتاين إن الموت خدعة يشكلها الوعي، أو قد تكون حيوات عدة في عوالم متوازية.
من هذا المنطلق، قد يكوّن هذا الوعي شكلاً من أشكال ذاكرة لا مادية غير مرتبطة بجسدٍ أو بواقع حسي نسبي. ومن الأبحاث العلمية عن إمكانية الانتقال من حياة إلى أخرى بعد الموت، وارتباطها بالمادة والوعي، يعتبر التقمص أو التناسخ معتقداً ثابتاً في كثير من الأديان والثقافات.
التقمص والتناسخ في الأديان
يؤمن الهندوس بالـ"سامسرا"، وهي دورة دائمة لولادة الروح عدة مرات، بحسب قانون الفعل ورد الفعل. ويمكنها أن تنتقل من جسد إنسان إلى جسد بشري آخر، وحتى إلى جسد غير بشري، قد يكون حيواناً أو مخلوقاً مقدساً.أما عند البوذيين، فأفعال الشخص، إن كانت حسنة أو سيئة، تنتقل معه إلى حياة أخرى. فالبوذيون يؤمنون بالكارما، وبوذا كان يعيش حياة سابقة. إذ يُحكى أن بوذا بعد أن أصيب برجله، أعاد ذلك إلى تأثير الكارما عليه، فقال إنه قتل أخاه في حياته السابقة. أما في الديانات الإبراهيمية، فالتقمص غير موجود إلا عند فئات محددة وقليلة، منها الدروز على سبيل المثال لا الحصر.
يؤمن الدروز بانتقال الأرواح من جسد إلى جسد، وتسمى كل مرحلة "جيل". ويؤمنون أيضاً بمنطق المحاسبة من جيل إلى جيل، حتى الوصول إلى الحساب النهائي، الجنة أو النار. في المجتمعات الدرزية في لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، تعتبر قصص التقمص، وظاهرة تحدث الأطفال عن حياة سابقة، أمراً طبيعياً وشائعاً جداً. رامز شاب لبناني درزي، ولد في منطقة الشوف في جبل لبنان،
ويروي قصصاً لا تنتهي عن حياته السابقة. ما أن بدأ رامز بالكلام وهو في سنواته الثلاث الأولى، أصر على التعرف إلى عائلته في حياته السابقة، تذكر أسماءهم، واستطاع التعرف إليهم. يقول رامز: "في حياتي السابقة كان اسمي سعيد، قتلني شخص ينتمي إلى الحزب التقدمي الاشتراكي في الحرب اللبنانية، أواخر الثمانينات، بينما كنت أنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي". المفارقة أن رامز في حياته الحالية، ولد في عائلة تنتمي إلى الحزب الاشتراكي، وبحكم تأثير العائلة عليه، وتعديل رأيه السياسي، تماشى مع خيار عائلته الحزبي. ولا يزال رامز، بعد 30 عاماً على حادثة "التذكر"، على ارتباط وثيق بعائلته السابقة، فيحضر أفراح أفرادها وأتراحهم، ويشاركهم في بعض الواجبات الاجتماعية. وبعد وفاة والدته في الحياة السابقة، قبل سنوات قليلة، شعر بحزن شديد بحكم ارتباطه الوثيق بها.
يدعي بعض علماء الدروز أن التقمص موجود في الإسلام والمسيحية، بدليل وجود نصوص في الإنجيل والقرآن تفسر وتثبت ذلك. ويفسر البعض الجملة الواردة في الإنجيل: "عندما سأله نيقوديموس أجاب يسوع وقال له الحق أقول لك إن لم يولد أحد ثانيةً فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله"، على أنها دليل على أن المسيح تحدث عن التقمص. بينما التفسير الأكثر شيوعاً يؤكد أن "يولد أحد ثانية"، تدل على سر المعمودية، وعلى ولادة الإنسان من جديد، واتحاده مع المسيح عندما يتعمد. أما في القرآن، فورد في سورة البقرة: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يُحييكم ثم إليه تُرجعون". فيفسر البعض هذه الآية على أنها دليل آخر على التقمص، بينما يُفسر غالبية العلماء المسلمين "ثم يُحييكم"، بأنها "ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى". خلاصة ما كتب أن كل ما قدمته الدراسات والأبحاث، قدم الكثير من الدلائل، لعل أبرزها تلك التي وثّقها ستيفنسون.
وبعدما نشر دراساته وكتبه، كتب أحد النقاد في مجلة "جاما" الصادرة عن المؤسسة الأمريكية الطبية: "بما خص التقمص، قام ستيفنسون ببحث غير عاطفي ومضنٍ، واستطاع جمع حالات موثقة ومفصلة، والعدد الهائل لهذه الحالات لا يمكن تجاهله". بناءً عليه، فإن ما قُدم حتى الآن علمياً عن التقمص، أو الانتقال من حياة إلى أخرى هو دلائل فقط. والبراهين ليست موجودة بعد، ولم تطرح بعد الفرضية التي يجب تثبيتها أو نقدها. وحتى إثبات التقمص والتناسخ علمياً، تبقى تلك القصص لغزاً، ككثير من الحقائق العلمية، التي كانت في فترة من التاريخ عبارة عن "خزعبلات" وأساطير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...