لم يكن "محمد حلاوة" يعلم أن شراءه دراجة هوائية عام 2008، للذهاب بها إلى مقر عمله، كمحاولة للتغلب على زحام الشوارع في القاهرة، سيكون بداية صداقة حقيقية بينهما، حتى بات يزور بها محافظات مصرية عدة، ليتعرف على المصريين خارج القاهرة عن قرب، وعلى نفسه "بعيداً عن صخب المدينة التي أصبحت تتسم بالقبح"، كما يقول.
تخرج حلاوة من كلية الحقوق بجامعة عين شمس، لكنه لم يجد نفسه في المحاماة، واتجه لممارسة الترجمة، فعمل مترجماً في بضع منظمات دولية.
يقول: "عام 2008 كان مقر عملي في الدقي القريبة من وسط القاهرة، ومقر سكني في المعادي، وكنت أذهب يومياً للعمل بسيارتي. ومثل ملايين المصريين أقف ساعات طويلة في إشارات المرور المختلفة بسبب الزحام، ففكرت أن أشتري دراجة هوائية".
ويكمل: "تعجب بعض زملائي في العمل من الفكرة، لكنني كنت مصراً على القيام بذلك، إذ كنت قد وصلت لمرحلة لم أعد أطيق فيها الزحام المروري، ولم تكن فكرة الدراجات منتشرة كاليوم، كان الأمر غريباً، وكثيراً ما سمعت جملة: هي فكرة كويسة لكن ليس في شوارع القاهرة".
من كوكب آخر
اشترى حلاوة الدراجة من النوع الجبلي لأنه وجده الأنسب لشوارع القاهرة غير الممهدة. ويوضح: "قبل أن أذهب بها لعملي قررت أن أقوم بتجربة يوم العطلة، جهزت الدراجة وذهبت بها من المعادي حتى الدقي، فاستغرق الأمر ساعة، كانت المسافة نحو 15 كيلومتراً، لم أشعر بأي تعب، بل شعرت بنشاط شديد، لكن النظرات من حولي كانت غريبة، وكأنني من كوكب آخر، وبعض الناس كان يبتسم". وبعد يومين من استخدام الدراجة، أصبح هو نفسه يشعر أن ما يقوم به أمر طبيعي للغاية، وتقبل زملاؤه الموضوع، وبدأ البعض بالتعبير عن إعجابه بالفكرة.يوميات واحد راكب عجلة
بعد سنوات من عشق الدراجة، قرر حلاوة أن يترك العمل الثابت ويبدأ رحلة العمل كمترجم حر، يعمل من المنزل. يقول: "في هذا الوقت شعرت أنني أريد أن أنظم وقتي وفقاً لجدولي والتزاماتي وأولوياتي، ومن بينها أن أتمكن من القيام برحلات طويلة بالدراجة، الأمر الذي كانت ساعات العمل اليومية النظامية تحول دون تنفيذه".رحلة للتعرف على المدن المصرية وسكانها بالدراجة الهوائية..
"صعب أن تقوم برحلة طويلة بالدراجة وتكون بعدها مثلما كنت قبلها".. حكمة شاب مصري يكتشف مصر على دراجةرحلته الأولى كانت مع اثنين من عشاق الدراجات، تعرف إليهما عبر فيسبوك، وكانت إلى الغردقة وسفاجة، ومنها إلى قنا، وصولاً إلى أسوان. ويوضح: "خيّمنا خلال هذه الرحلة على جانب الطريق، ثم في بعض الأماكن غير المتوقعة، كداخل بنزينة مثلاً، أو في أحد المساجد". ويقول حلاوة: "قبل أن أبدأ تلك الرحلة، لم أتخيل أنني سأسافر كل هذه المسافات، لكن بعد أن قطعت أول 100 كيلومتر في اليوم بالدراجة، اكتشفت أنني قادر على فعل أي شيء". [caption id="attachment_86890" align="alignnone" width="700"] دروب وأروقة مدينة القصر الأثرية الإسلامية[/caption] يحكي حلاوة عن رحلته الطويلة التالية بالدراجة: "رحلتي الثانية، فضلت أن أقوم بها وحدي، وكان لدي أكثر من هدف لذلك، فكانت بداخلي رغبة في إعادة اكتشاف المصريين في مختلف ربوع مصر، كما كنت أرغب في إعادة اكتشاف نفسي". أراد حلاوة السفر للتعرف على عادات وتقاليد وطباع الناس، بعيداً عن صخب المدينة وتلوثها. كنت أنوي القيام بالرحلة والاستمتاع بها بدون الحاجة للإعلان عنها سوى لأصدقائي المقربين. لكن صودف أن التقيت بمجموعة من الأصدقاء، لديهم مشروع يهدف لإعادة اكتشاف القيم الإنسانية الموجودة في الحضارة المصرية عبر العصور المختلفة، ولما كنت معجباً بمشروعهم، فكرت أن أقوم بتعريف الناس بهذا المشروع "أصل ووصل"، من خلال الرحلة". ويضيف: "أطلقت مدونة باسم "يوميات واحد راكب عجلة"، لأوثق فيها كل ما سيقابلني من أحداث في الرحلة، وشعرت أن هذا قد يفيد غيري، كما قد يشجع الكثير من الناس الذين يحلمون باستخدام الدراجة بصور مختلفة، لكن ربما يمنعهم الخجل". ويوضح حلاوة: "فكرة أن تسير مسافات طويلة بالدراجة تستحق التنفيذ، فيمكنها أن تساعدك على رؤية التفاصيل من حولك بشكل مختلف. لكن الحياة ليست وردية دائماً، فهناك صعوبات كثيرة قد تجد نفسك تواجهها، كلاب تظهر فجأة وتطاردك، وتصبح مهمتك أن تهرب منها، كما قد تقوم كمائن الشرطة في بعض الأحيان بتحذيرك من قطاع الطرق على بعض الطرقات. يجب أن تتحلى بالحذر وأنت تسير بالدراجة هناك". وخلال تلك الرحلة، سافر حلاوة إلى مدن مصرية عدة، منها الواحات البحرية، والفرافرة، ثم الداخلة، مروراً بالخارجة، وصولاً إلى محافظة الأقصر، ليكون إجمالي ما قطعه بالدراجة في نهاية رحلته هو 2200 كم. [caption id="attachment_86891" align="alignnone" width="960"] مزار "السلام"، في مقابر البجوات المسيحية[/caption]
الدراجة تفتح لي الأبواب المغلقة
حين يصل المغامر المصري إلى مدينة ما، يبدأ بالتعرف على الناس الذين يعيشون فيها، وحين يعلم سكان المدينة أنه جاء إليهم مسافراً بالدراجة، يتعاملون معه بترحاب، ويقدرون أنه سافر كل هذه المسافة للتعرف إليهم. يقول: "كأن الدراجة هي كلمة السر التي تفتح لي أبواب بيوتهم المغلقة، وقلوبهم أيضاً، أعقد حوارات مع سكان المدينة، خصوصاً كبار السن الذين يحكون لي عن عاداتها وتقاليدها، كما أقابل الأجيال الجديدة وأعرف منهم همومهم وأحلامهم، وأزور الأماكن التاريخية في كل مدينة". ويتابع: "كلما ابتعدت عن القاهرة وجدت أن الناس يتمتعون بدرجة أكبر من هدوء الأعصاب والراحة النفسية". ويضيف: "وجدت أنه كلما ابتعد الناس عن المدينة والتكدس والتلوث، يصبحون أفضل، وحياتهم أجمل وأبسط. مثلاً حين زرت قرية القصر في الداخلة، كانت خطتي أن أقضي فيها يوماً واحداً ثم أكمل رحلتي، لكني قضيت خمسة أيام بسبب طيبة سكانها". [caption id="attachment_86944" align="alignnone" width="700"] جدران ضريح الشيخ نصر الدين، في الجامع المعروف بأسمه، بمدينة القصر الأثرية[/caption] وفي طريق السفر، قابل حلاوة تفاصيل عدة: "أثناء توجهي للواحات البحرية قابلت أسرة فرنسية مكونة من رجل وامرأة وأطفالهما، يقومون برحلة بالدراجات، تعرفت إليهم وقضيت معهم ليلة، كان الأمر مثيراً. ربما لو كنت مسافراً بالسيارة مسرعاً لما انتبهت لوجودهم ولا توقفت للتعرف إليهم". اكتسب محمد من سفره بالدراجة قدراً كبيراً من الصبر والتصالح مع النفس. يقول: "أثناء السفر بالدراجة لديك فرصة للجلوس فترة أطول مع نفسك، كما أنك تتذوق الجمال والطبيعة من حولك، هي تجربة متكاملة تجعلك أكثر نضوجاً، وتعطيك الفرصة لتعيد تقييم كل الأشياء. كما أن الأمر لا يخلو من التحدي لأنك تتغلب على مخاوفك، وهذه تجربة عميقة في حد ذاتها. باختصار شديد، صعب أن تقوم برحلة طويلة بالدراجة وتكون بعدها مثلما كنت قبلها". سفر محمد حلاوة بالدراجة داخل مصر ليس نهاية أحلامه، يجهز نفسه الآن لمغامرة أكبر، هي رحلة إلى كل الدول التي يمر بها نهر النيل، من المصب حتى المنبع. يختم: "الرحلة تحتاج إلى تجهيزات وأبحث حالياً عن راعٍ يمولها، ومثلما تعرفت إلى الناس داخل مصر، حلمي أن أتعرف إلى البشر خارج بلدي وأقترب منهم أكثر من خلال السفر بالدراجة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...