في حين أحدثت كارثة انتخاب ترامب هزّة وجودية، وموجة قلق في نفوس الناس حول العالم، أثبت العمال العرضيون، والطلاب، والنقابيون، أنهم الأكثر تجاوباً مع الواقع الفاشي الذي ينتظرهم. إحدى الوسائل التي يلجؤون إليها هي المطالبة بأن تصبح مقارّ عملهم وحرم جامعاتهم "ملاذات" لمن سيشهدون تعديات على حرياتهم وكبحاً لحقوقهم.
على سبيل المثال، طالَب طلاب الدراسات العليا في جامعة نيويورك، من خلال نقابتهم، مع مختلف المجموعات الطلابية، وأعضاء من هيئة التدريس في الجامعة، أن تُعلن إدارة الجامعة حرمها "حرماً ملاذاً" Sanctuary campus. ترتكز الفكرة الكامنة وراء الحرم الملاذ، والمدينة الملاذ، على "إنشاء أماكن تحمي الأشخاص الأكثر ضعفاً في بلادنا" و"احترام مبدأ ضرر للفرد هو ضرر للجميع". وبالرغم من رفض جامعة نيويورك وجامعة هارفرد إعلان حرميهما ملاذاً، يستمر الطلاب بالسعي لتحقيق هذا المطلب، بالضغط على الإدارة من خلال العمل الجماعي مستوحين ذلك من نماذج تتضمن العمل التضامني نفسه في أماكن أخرى.
إن مطالبة الطلاب حول العالم بأن يكون حرم جامعاتهم "حرماً ملاذاً" تعني الضغط على إدارة الجامعة لأن تضع قوانينها الخاصة الحامية، ولا تسمح لقانون دولة مائع أن يهدد طلابها ومجتمعها. هذا المطلب ليس مطلباً كلياً، بل هو أوليّ من شأنه الضغط على سائر المجتمع ليحذو هو أيضاً حذو الحرم الجامعي. فهذا ليس إلا موقفاً، وهذا الموقف محق لكنه لا يؤسّس مذهباً سياسياً، بل يؤكد حقاً هو "أن يكون أضعفنا مرفوع القامة". هكذا تُبنى ثقافة قادرة على احتواء الكارثة ومحاربة الخطر الفاشي.
وربما بإمكاننا أن نتعلم من هذه المبادرة في لبنان، حيث لا وجود لسياسة تعليمية، في وقت تتهدّد الجامعات، الخاصة والرسمية، بأن تتحوّل إلى مساحات أمنية تتحكّم بها سائر القوى السياسية المسيطرة، خانقةً أي خطاب أو فعل يعادي هيمنتها الأيديولوجية. وبذلك يكون الحرم الجامعي، ومعه المدينة بأكملها، نقيض المكان الآمن، أي الحرم الملاذ أو المدينة الملاذ.
وبطبيعة الحال، رغم تاريخ طويل من الأحداث التي حوّلت الحرم الجامعي في لبنان إلى مساحات أمنية، آخرها حدث الجامعة اللبنانية الأخير، والتهديدات التي تلقتها عضوة في النادي العلماني في بيروت، وتعرض أعضاء مناصري النادي نفسه إلى الضرب بعد تحقيقهم نتائج إيجابية في انتخابات الجامعة الطلابية، والاعتداءات المختلفة على الطلاب في السنوات الماضية، وعودةً إلى ما كان يحدث خلال فترة الوصاية السورية على لبنان، لم تقدّم الحكومة، ولا إدارات الجامعات والمدارس، أي مشاريع أو تدابير تحمي حقوق وحريّات الطلاب والمواطنين. بل على العكس تماماً، رأينا انتهاكات لهذه الحريات واعتقالات ظالمة، وتخاذلاً فاضحاً ومخجلاً، علاوةً على إهمال الدولة عن الجامعة اللبنانية بأكملها.
هذه التعديات تمتد خارج الجامعة طبعاً إلى المساحة السياسية عامةً، إن كانت ضد نقابيين مثل روز أو سوجانا، أو ضد اللاجئين السوريين في سائر القرى اللبنانية، أو ضد الشعب اللبناني كله عبر سرقة الساحل والشواطئ العامة والفساد المتفشي.
يتضح لنا من هذه اللائحة القصيرة أن حرم الجامعة يخضع بشكلٍ أو بآخر للسلطة السياسية والأمنية التي تحتكر البلد، وأن الجامعات لا تحرص على تأمين جوّ تعليمي خالٍ من التهديدات على حرية التعبير والممارسة الفكرية. تحت غطاء دينيّ، يتم إغلاق ممارسات تكريمية ومناهج تعليمية. وجراء هشاشة رجولية، يتم الاعتداء على طلاب من قبل الفريق الأمني لأحد السياسيين. ومع غياب قانون يعاقب التحرش اللفظي والجسدي، يتم الاعتداء لفظاً وفعلاً على من يختلفون عن سائر الناس في مذهبهم الجنسي، داخل أو خارج حرم الجامعة. هذه الاعتداءات تتم معالجتها أولاً بأخذ موقف جماعي ضدّها تحت مظلّة الحرم الملاذ الآمن. مع غياب موقف كهذا، سيستمر الاعتداء على حقوق الناس تحت حصانة الصمت.
ليس تقاعس الإدارات الجامعية بأمرٍ مفاجئ، فهي ليست إلا امتداداً للسلطة السياسية المهيمنة. وفي ظل أحداث سياسية ومجازر افتخر بها البعض وتعزَّى بها البعض الآخر تتشكّل حقيقة واضحة، وهي أن العالم كما يبيّن نفسه لنا يصبح أكثر خطورةً يوماً بعد يوم. لنتذكر أن الأشياء دائماً أكثر خطورة مما تظهر عليه في البداية. حاضِرنا انضم إلى مستقبلنا في كونه غير آمن وغير متوقع. أن نجعل من حرم الجامعة والمدينة ملاذاً آمناً هو اعتراف أولي بالخطر الفاشي الذي يهددنا. ومن بعد، أو بالتزامن مع حرم الجامعة، علينا العمل كي ُتفتح أبواب كل قرية ومدينة في الداخل والساحل اللبناني لكل لاجئة ولاجئ مهجّرين، وأن تستبدل يافطات منع التجوّل بيافطات تقول إن "اللاجئين مُرحّب بهم هنا". ومع مجيء الحكومة الجديدة ومعها المناصب الوزارية الجديدة مثل وزارة دولة لشؤون المرأة ووزارة دولة لشؤون النازحين، فلنجعل من مطالبنا واقعاً يجب على الحكومة الاعتراف بها، وأن لا ننتظر استجابة هذه الحكومة لمطالبنا. في المستقبل القريب لن نسمح للفاشية أن تكسب شبراً واحداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 23 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com