"منقبة وأصلّي لكن لا أتحدث عن عقيدتي، وأخطط للسفر حول العالم، وأريد الاستقلال عن أسرتي والهروب من سلطة الأب. لا أعرف عن السلفية والإخوان أي شيء. أقرأ القرآن ولا أكتب على صفحتي “أميرة بحجابي”. منقبة ولا أرتدي “جوانتي” يخفي يدي، ولي أصدقاء رجال. مقتنعة بالنقاب، وأكتب روايات".
لم تنتهِ ياسمين حسن، صاحبة رواية «ماريا»، من جملتها حتى رن الهاتف بدعاء «سبحانك ربي سبحانك، سبحانك ما أعظم شأنك» بصوت الشيخ السيد النقشبندي، وعلى الشاشة اسم المتصل... «ماما». على كرسي، بين عشرات من نسخ رواية «ماريا»، بدأت الكاتبة تتلقَّى أسئلة زوّار حفل توقيع الرواية الأول: «أليس من حق القارئ أن يرى وجه الروائي حتى يتعرف على انفعالاته؟ يبكي أو يضحك أو يتعجّب من السؤال؟»، فأصدرت ضحكة بصوتٍ عالٍ، وقالت: «أنا أضحك كده... بصوت». لم تمنع ضحكة «ياسمين» الأسئلة عن جلبابها الأسود، الدخيل على الوسط الثقافي في القاهرة، وفتحت حواراً آخر لا يمسّ الرواية، إنما يدور حول الفتاة التي تستفزّ الجميع من وراء النقاب، و«تكتب روايات». كان حفل التوقيع مزدحمًا بالقرّاء، ولا يسمح بالاعترافات. ولكن لقاءً آخر سمح برفع «النقاب» عن بدايات الروائية المنقبة.
"الكتابة عارية لا تفسد الوضوء"
قبل أن تقرأ ياسمين مشهداً ساخناً في رواية «ماريا» توقّفت قليلاً، وروت قصة سؤال تلقته في صندوق الرسائل بفيسبوك: هل يمكن أن تكتبي مشهدًا جنسيًا؟ وقالت: «عرفت أن صاحب الرسالة لم يقرأ لي أبداً». وضع صاحب السؤال «ياسمين» في قالب «المنقبة» الذي يفرض عليها أن تكون محافظة اجتماعياً، وتكتب نصوصاً دينية، وقصصاً للأطفال، بينما هي لم تستسلم للتصوّر التقليدي: «أكتب مشاهد ساخنة أحياناً، ولكن جزءاً من الحياة الإنسانية... فالجنس والأكل والنوم عمليات حيوية لا بد منها لاستمرار الحياة... والجنس، تحديداً، ليس حاجة معيبة». بالنسبة إلى ياسمين، سيصبح الأمر «غير لائق» لو كتبت عن بطل رواية يتناول الطعام في كل مشهد. فالطبيعي أن يأكل، لكن الأدب مكثّف والتكرار يجعل النصّ سخيفاً، ومبتذلاً... وتضيف: «الجنس كذلك، لو كان فيه مشاهد كثيرة خارج خط سير الرواية سيصبح مبتذلاً أيضاً». تتجرّد صاحبة «ماريا» من أفكارها خلال كتابة نص روائي، وساعة الكتابة تنتقل من حالة إلى حالة «من نفسية البشر إلى نفسية الآلهة». وتفسّر ذلك: «كتابة رواية يعني أنني أخلق مجموعة أحداث، وشخصيات. وإذا خلقتهم على هيئة ملائكة لا يخطئون، ولا يرتكبون آثاماً وذنوباً، فسأكتب رواية مزيّفة وتافهة وأكذوبة كبيرة، وحياتي ليست ملحمية لأفرضها على أبطال الرواية».ساعة الكتابة، تتجرّد ياسمين من نقابها أيضاً: «أكتب وأنا عارية». تلقي بطبيعتها الصادمة، وتعرج إلى طقوس أخرى: «أبدأ الكتابة وأنا لم أزل في فراشي، وغالباً لا أقدر على الكتابة إلا إذا خلعت كل ملابسي ووضعت موسيقى… وأتوقف حين تعود لي سكينتي بعد تفريغ شحنة حزن. وأول ما أنتهي، أتوضأ لأصلي الصبح». تتوقّف قليلًا، وتبيّن السبب: «الكتابة رزق، وأنا أؤمن بأن الله يوزّع الرزق أول النهار، فأبدأ مبكراً لآخذ حصتي».
أربع سنوات في السعودية
تطارد ياسمين حسن شائعة أن رواية «ماريا»، التي تتصدّر غلافها منقبة لعوب، تسجِّل قصة حياتها. تقول: «سألوني كثيراً في حفلات التوقيع: هل ماريا هي أنتِ؟». والسؤال، بالنسبة إليها، مزعج. لماذا؟ الإجابة تستحق اقتحام حياة «ماريا» بطلة الرواية. تزوّجت ماريا ثرياً عربياً بمهر رخيص، وانتقلت معه إلى السعودية، على طريقة الزواج التجاري، عبر سمسار، وهناك، بعيداً عن بلادها، اعتدى عليها وكان يعاقبها باستمرار على أي شيء وكل شيء. وجعلها «خدَّامة مصرية» لزوجاته، وكان يغلق باب الشقة بالمفتاح، ولا يترك لها مفتاحاً، فالخروج «ممنوع». لم ترَ الشارع لسنوات، لكنها أحبَّت جارها، الشاب المراهق الذي يقف في الشباك، واستمرّ تبادل الأدوار حتى انتصرت «ماريا»، وخرجت إلى الحياة من باب آخر. تلخّص ياسمين الرواية: «مجموعة مطبات مجتمعية ودينية وأسريّة، من خلال الأحداث التي تقع لأختها المريضة، وصديقتها الطبيبة، وعشيقها المراهق، وزوجها الثري العربي». لا يحرج ياسمين أن تقول إنها سافرت مع زوجها إلى السعودية، وقضت هناك أربع سنوات، لكن حين يسألها القرَّاء هل كنت «شَرْوَة الثري الخليجي» لا تنفي ولا تؤكد. تكتفي بكلمة «أمتنع عن الجواب، وأفضّل أن يظلّ التشابه بيننا غامضاً». ولا تخفي اعترافاً عن «جحيم بلد الحرميْن»: «عرضت خلال الرواية آلامي ومخاوفي ومشاعري حين كنت في السعودية، وعرضت أيضاً تفاصيل نظرة الرجل السعودي للمرأة، خاصة الأجنبية، التي يتعامل معها كـ”خادمة” لرغباته».سلفية تكتب الروايات سراً
من أين بدأت علاقة ياسمين حسن بالكتابة؟ فتاة ملتزمة (تصف نفسها)، ارتدت النقاب في أوائل العشرين من عمرها بأمر زوجها، حفظت عشرة أجزاء من القرآن، ودرست «إعداد الدعاة» لتصبح شيخة زاوية السيدات بمسجد قريب في قرية بالجيزة، لأنها لم تعجب بأي داعية على الساحة: «لا محمد حسان ولا حسين يعقوب ولا عمرو خالد ولا معز مسعود دخلوا دماغي». وحين بدأت القراءة، اكتشفت إن هناك كتابات أخرى - بعيداً عن الدين - لم تجرؤ على الاقتراب منها، فهربت إليها وهجرت «الفقه والتفاسير». كتبت ونشرت روايتين موقّعتين باسم مستعار «رفيقة القلم» على مواقع التواصل الاجتماعي، الأولى «نوميدوس» والثانية «صِبَا». وبعد سنين، اعتبرها الناس سلفية تكتب الروايات سراً. كيف أعلنت عن نفسها؟ تقول: «انتهيت من ماريا، وكان لا بد أن أنشرها باسمي، فخيّرني زوجي السابق بين الانفصال، وعدم النشر، فاخترت النشر باسمي. لم أتأخر في نشر الرواية، ولم تتأخر ورقة الطلاق».النقاب - بالنسبة لها - «زي مريح» وليس أكثر من ذلك، ولذلك «ما لا يريحني في أساسيات النقاب لا أفعله»، وتتعامل معه باعتباره «سُنّة نبوية ونوعاً من الاحتشام حتى لا تتعرّض الفتاة للتحرش، وارتديت النقاب برغبتي ودخلت في خناقة كبيرة مع أهلي بسبب رغبتي في ارتدائه ورفضهم». ورغم تجربة الانفصال لأجل نشر رواية، أفلتت من الروائية «ذات الجلباب الأسود» جملة «الشيء الوحيد الذي يدفعني لخلع النقاب هو قرار زوجي»، وتعود إلى المربع صفر: «لن أربط حياتي بحياة شخص لا يؤمن بي، ولا يفهمني، وإن هو اقتنع برأيي ورغبتي في النقاب فسأستمرّ بالتفاهم، وإن لم يقتنع فسأضطر لخلعه... فموافقة الزوج أهم شروط النقاب الشرعية سواء باعتباره فرضاً أو سنة أو فَضْلاً». لأنها تحمل خليطاً عجيباً (ومريباً) من الأفكار، لم يتقبّل «وسط القاهرة» ياسمين حسن. فبرأي غالبية أعضائه، لا تصلح «المنقبة» لتجلس في مقاهيه وتناقش الروايات، وتنقد الأدب، وترفع النقاب عن أفكارها. تعلن «ياسمين» غضبها: «ليست لي شلّة في الوسط الثقافي»، وترفع صوتها بنبرة تعجّب: «أحب الموسيقى والرقص والحياة، لكن الناس تحمل تصوراً غريباً عن المنقّبة إذ يعتبرون أنها إخوانية ومتخلّفة عقلياً».
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...