اتصلت أختي بي راجية بل وآمرة على الأرجح أن أقبل طلب قريب زوجها الذي يدعى على الفيسبوك بشفان برور، بينما اسمه في الواقع هو أحمد. "شفان برور" هو مطرب كردي شهير يغني الأغاني السياسية. فتحتُ الفيس بوك وقبلت طلبه، وكان قد وضع صورة شفان برور على بروفايله وهو يصدح ويغني.
بعد أيام اتصلت أمي وطلبت مني أن أضع لايكاً على صورة المولود الجديد لإبن جيرانها في كفر جنة. قالت أنه صديقي في الفيس بوك، فوضعتُ لايكاً مع تعليق يتناسب وأهمية الحدث. اتصلت بي أمي ثانية لتقول لي بأن إبن الجيران جاء إليها وأخبرها بأنني وضعتُ له لايكاً وتعليقاً، وأنه شكرني بتعليق من عنده. أختي من أمريكا تتصل وتطلب مني أن لا أزفر بالكلام على الصفحة، لأن بيت جيرانها السوريين، الذين لا أعرفهم في الواقع، هم أصدقائي في الفيس بوك.
ويأتيني من دمشق صديقي الأثير أبو رسول معاتباً إياي لأنني لا أضع اللايكات على بوستاته، بل ويدخل من صفحتي ويضع اللايكات على صفحته بسهولة بالغة، ويحلفني ألا ألغيها، بل ويضع التعليقات أحياناً متوخياً أن يكتبها بأسلوبي.
يصعد جاري الصغير عماد إلى بيتنا كي يملأ المازوت في خزانهم على السطح وهو يقول لي: كيفه هردبشت معك؟ وأستغربُ أن عماد إبن السادسة عشر عاماً صديق لي على الصفحة. ما إسمك يا عماد؟ أسأله، فيجيب: شاعر الظلام. إذن شاعر الظلام هو جاري الصغير عماد، وصهري هو قيثارة الظلام على فكرة، بينما جارتنا أم وسام إسمها في الفيس بوك هو “موج البحار البعيدة”، وصديقي بائع الفول أبو أحمد إسمه “صرخة ثائر”.
قال لي عبود السعيد وهو في مقهى الأنترنت بمنبج أن جاره على الكمبيوتر المجاور وإسمه خلف يحادث فتاة مغربية تسمي نفسها طوق الياسمين على سكايب بفخر واعتزاز، بينما تظهر الخمسمائة ليرة واضحة للعيان في جيب دشداشته البيضاء الشفافة (أيام ما كان في للخمسمية وجهة نظر).
على الرغم أن الجميع لديه وجهة نظر على زمان الفيس بوك، ليست كل وجهات النظر وجهات نظر... فهناك من لا يقبلون بهذه الفوضى، وهم من طبقة الكتاب الفاشلين في عصور ما قبل الفيس بوك، لكن فشلهم على الأقل كان مقترناً بلقب كاتب.
أما الآن فالفيس بوك متاح للجميع، لا رئيس تحرير غبي يسمح ولا يسمح، لا مدير عام ينشر لإبن خالته بالواسطة، ولا كتّاب يلعقون حذاء سكرتير التحرير كي ينشر لهم قصيدة يفخرون فيها بذواتهم.
الفيس بوك للجميع، جريدة الناس، كل الناس، من لا يستطيع الكتابة يلطش، أو يقص ويلصق، يعبِّر بكلامه أو بكلام شاعره المفضل، أو بكلام كاتب لم يسمع به في حياته، لكنه رأى قولاً له على صفحة جارته فوضع لايكاً وشاركه، وقامت القيامة في بيت الجيران، هذا الوقح وضع لي لايكاً وشاركني حالتي، والله لأعمل له بلوك، طولي بالك يا بنت الحلال، والله مو قصده شي، أو يمكن قصده شريف ونيته حلال بحلال. المهم يا ابن الحلال ما لك بكل هالكلام، ركَّبنا أنترنت بالبيت، وصاروا الشباب والبنات من رفقاتي يفتحوا موبايلاتهم ولاب توباتهم من عندي وعلى فيسبوك يا معلم، وصرنا نتبادل اللايكات على الهواء مباشرة، أضع لصديقي لايكاً فيسبوكياً فيسألني فيس تو فيس: شو عجبك البوست أبو حسين؟ يريد جواب الواقع أيضاً، فاللايك وحده في هذه الحالات لا يكفي، فأجيبه وأنا أخترع الكلمات المناسبة للايكي الاعتباطي: إي حلو، فيه فكرة جديدة، فينظر إلي بنظرة واقعية ثاقبة ويقول: “إي اكتب هالحكي بالتعليقات”!
يختلط الفيس بوك بالواقع، تختلط اللايكات على الشاشة بالتشكرات على الواقع، الحرية لفلان، الحرية لبنت الجيران، الحرية للأقلام، رسالة على الخاص تشكرني على لايك منسي، ثم يدخل أبو رسول ويأمرني أن أضع لايكاً على صفحة صديق له من المشاهير بعد أن يؤكد محبة وإعجاب هذا الشهير بي، دائماً يضع لك اللايكات يا أبو حسين، بل حتى وأنه يضع اللايكات على تعليقاتك، فنضع للصفحة إعجاباً، ونمر على البوستات المكتوبة على الجدار، نضع لايكاً على عقد قران شخصين لا نعرفهما، ونبارك بنجاح إبن شخصين لا نعرفهما، ونضع لايكاً على صورة فتاة لا نعرفها، بل ربما تكون في الواقع شاباً طموحاً، ونضع لايكاً للشهيد، ونرد على الموبايل:
ـ فتحت لإبني حساب.
ـ بأي بنك؟
ـ بالفيس بوك يا حبّاب.
تم نشر هذا المقال على الموقع بتاريخ 10.12.2013
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...