بين "نعم" و"لا" انتصر خيار الرفض في استفتاء إيطاليا. هكذا، وبعد أن راهن رئيس الوزراء ماتيو رنزي على شعبيته ووعد بتغيير الدستور - في محاولة أولى تحصل بعد الحرب - واجه رفضاً شعبياً، ووجد نفسه ملزماً بالاستقالة التي وعد بها في حال ربحت الـ"لا" المعركة. اليوم لن يمرّ عادياً على إيطاليا خصوصاً، وعلى الاتحاد الأوروبي وبقية العالم عموماً.
الأسواق الماليّة بدت مربكة، ومن تخوفوا من انتصار "الشعبوية" في حال سقطت الحكومة الحالية، ومن استعادوا رغبة خصوم رنزي الذين يتطلعون إلى السلطة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، أصبحوا أكثر تخوفاً. في المقابل، كل من عبّر عن ملله من الطبقة السياسية ومن "الوعود الفارغة" ومن رغبة رنزي بالتحول إلى "ديكتاتور" فرح بنتيجة الاستفتاء، وعوّل خيراً على "انتعاش الحياة السياسية والاقتصادية".
في أجواء حسم نتيجة الاستفتاء، كما قبله، كان مصطلح "الشعبوية" الأكثر حضوراً. لقد خلق وصول رئيس الوزراء الأصغر في تاريخ إيطاليا روحاً إيجابيّة في الحياة السياسية. وهكذا، بعد تخبط سياسي حاد وفساد وشكاوى تخللت حكم سلفه، اعتُبر صاحب الـ39 عاماً بمثابة "المخلّص".
للمرة الأولى منذ العام 1948، يعد رئيس وزراء بإجراء تعديلات على الدستور الذي وُضع بعد انتهاء الحرب، وراعى في مواده الوضع القائم آنذاك. حين وعد رنزي بالتعديل، قال إن ذلك سيحصل في استفتاء، وفي حال رفض الشعب خطوته سيتنحى من منصبه. لم تكن التعديلات المطروحة هي الأمثل، لكن أصحاب الـ"نعم" نظروا إليها باعتبارها خطوة في كسر جدار "التحجّر الدستوري". رأوا فيها باباً للحفاظ على استقرار حكومي في بلد يشهد فائض تغييرات حكومية بمعدل حكومة وأكثر كل عام. والأهم أنها تمنع وصول حركة "شعبوية" كـ"خمسة نجوم"، التي حصلت على بلدية روما، إلى الحكم، حيث يهدّد زعيمها بأن تكون أول نشاطاته خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي.
وَعدُ رنزي بالاستقالة في حال خسارة الاستفتاء، دفع خصومه الذين يصفونه بـ"المحتال" للتركيز على ذلك بدلاً من تركيزهم على التعديلات الدستورية. وفي ما يخص الأخيرة، كان لهم مآخذ عليها أيضاً، إذ تعزّز من نفوذ الحكومة بشكل "ديكتاتوري". تحمّس أصحاب الـ"لا" لحركة "خمس نجوم"، التي ترتفع حظوظها باستلام الحكم مع سقوط رنزي. الحركة قامت خطوات إيجابيّة عديدة على صعيد الأجور والطلب من الفاتيكان دفع الضرائب والوعود بتحسين المستوى المعيشي ومحاربة الفساد، كما أنها آتية من رحم الشعب، وزعيمها الممثل الكوميدي بيبي غريللو معروف بمسيرته الفنيّة الساخرة من السياسيين. في المقابل، يُعدّ الخروج من الاتحاد الأوروبي أحد أحلام غريللو، وكذلك اعتماد سياسات صارمة للهجرة.
قبل الاستفتاء، كان قد خرج العديد من الباحثين للتحذير من الوقوع في فخ "شعبوية" الـ"خمسة نجوم"، التي تحمل طروحات تدغدغ مشاعر الإيطاليين، لكنها قد تجرّ البلاد إلى هاوية اقتصادية وسياسية. برأيهم، هي تسقط أولاً في الممارسات نفسها التي كانت تسخر منها، وثانياً لا تمتلك الخبرة الكافية لتسيير البلاد، فعدّتها الشعارات الرنانة وحسب.
الشعب دائماً على حق؟
يتردّد مصطلح "الشعبويّة" كثيراً في الآونة الأخيرة. المصطلح قديم نسبياً، لكنه عاد بقوة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ما عُرف بـ"البريكست"، ثم مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، واليوم مع استفتاء إيطاليا. تحضر "الشعبويّة" في خطاب السياسيين، بعضهم يتسلّح بها والآخر يحذّر منها. تفرد الصحف الأجنبيّة صفحات لمناقشتها فتُمعن في عرض سلبياتها تارة، وفي شرح أسباب تصاعدها تارة أخرى. فما هي الشعبويّة إذاً؟ وهل ثمة تعريف واضح لها يتفق عليه خبراء السياسة والاجتماع؟ وما دورها في صعود ترامب وخروج بريطانيا واستفتاء إيطاليا وانتخابات النمسا؟ في البحث، يبدو أن هذه الكلمة حاضرة في كل مكان، من دون أن تحظى بتعريف موحّد، وهذا ما يجعلها أشبه بشماعة لتفسير تغييرات سياسية، أكثر من أن تكون مفهوماً سياسياً. تراها مرة تُستخدم في معرض الحديث عن القومية، وأخرى عن رهاب الأجانب، مرة عن صعود اليسار المتطرف وأخرى عن فوز اليمين المتطرّف، هي تستوعب كل ما هو خارج عن المألوف، وبتعبير يواكب "الترند" أكثر: هي كل ما يكسر "الإستابلشمنت" المسيطر. وفي الأساس، هي آتية من كلمة "الشعب" المعادي تقنياً لـ"النخب". ومع اتساع استخدام المصطلح، وربطه بالتطورات الأخيرة، ليس فقط في أوروبا بل أيضاً في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، والعالم العربي، عاد السؤال القديم - الجديد إلى الواجهة: هل الشعب دائماً على حق هو الذي ملّ من "الإستابلشمنت" الفاسد والمتحكم تاريخياً؟ هل يُعتبر تعطّشه للتغيير بأي طريقة ممكنة وما يأتي به هذا التغيير، هو الخيار الأفضل حكماً؟ لا يسعى الموضوع هنا إلى الإجابة عن أسئلة شائكة من هذا النوع، فهي تشغل الباحثين منذ عقود وتحتمل الوجهين، لكننا نبحث في مصطلح الشعبوية ومقاربته العلميّة، في محاولة لفهم استخداماته التي لا تتخطى في أحيان كثيرة "دسّ السمّ في العسل". قد تحضر مسلّمة "الشعب مصدر السلطات" وتسهّل الإجابة، فهو الأكثر دراية بمصلحته، لكن مع تشابك الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحديثة، قد لا يكون الأمر بهذه السهولة.في تعريف "الشعبويّة"
التعريف الأسرع الذي قد يجده الباحث على "ويكيبيديا" يأتي كالآتي: الشعبوية يمكن تعريفها كإيديولوجية أو فلسفة سياسية أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير لتحييد القوى العكسية… وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات والأرقام والبيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه. في مجلة "فورين أفيرز" نجد ما يلي: "كل تعاريف الشعبوية تشترك في العداء تجاه النخب والحياة السياسية، والمؤسسات القائمة. وتعتبر نفسها أنها تمثل المواطن العادي أو الطبقة المنسية، وغالباً ما تتخيل نفسها الصوت الوطني الأصيل". في حديث لـ"وكالة الصحافة الفرنسية"، يقول الباحث الأميركي مارك فلورباي إن الشعبوية هي "البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدى المؤسسات التقليدية الديموقراطية". ويرفض فلورباي هنا أن تكون الشعبوية محصورة بطبقة معينة كما بيسار أو يمين، فيقول "بإمكان الشعبوية أن تكون من اليسار. انظروا على سبيل المثال إلى الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز". يرى الباحثون أن استخدام "الشعبوية" كرديف لمصطلح "الديمقراطية" في مناسبات عدة أثر سلباً على الأخيرة. وإن بدا أن الشعبويين يمثلون الشعب، وبالتالي إن أي خيار يقدمون عليه يصب في عمق الديموقراطية، يظهر أن لأستاذ السياسة في جامعة "برنستون" يان فيرنر مولر رأياً آخر. يقول "يمكن أن تظهر غالباً كحركة ديمقراطية أو كديمقراطية راديكالية، لكنها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطية". والسبب أن "الشعبويين يقفون على النقيض من فكرة المجتمع المتعدّد"، ومن يعترض عليهم لا ينتمي برأيهم إلى "الشعب الحقيقي". يضيف مولر أن الديموقداطية تعترف بالأرقام فقط، لكن ثمة من يرد عليه في المقابل أن الزمن الاستهلاكي الحديث أدخل الشعب في لعبة الأرقام، وشكل ثقافته على قياسها، فبات يستهلك الحريّة مثلها مثل أي سلعة أخرى، ولا يعيشها بشكل حقيقي. كل ما يذكره المحللون بشأن مخاطر الشعبوية مشروع، لكن المغالاة في جعلها "بعبعاً" تكرّس إحساس المظلومية لدى الشعب، وتجعل هذه التهمة الآتية من "النخب" كدعوة للتمسك بها أكثر، رداً على مساوئ هذه النخب وانتكاساتها. الأمر الآخر بشأن ضرورة عدم المغالاة في استخدام الشعبوية، هو عدم فسح المجال أمام السلطات القائمة لكسب الشرعية دون جهد، فقط لأن شخصاً كترامب وصل للسلطة. في النهاية، ليست هوية هذا الشعب بالثابتة. وحسب مولر، ليس كل من يرفع شعار "نحن الشعب" شعبوياً. الشعار الذي حمله ثوار ميدان التحرير في مصر على سبيل المثال، كان مناقضاً تماماً لشعبويّة الحزب الحاكم واستفراده بالسلطة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين