إذا شاهدت مسلماً ملتحياً، وتبدو عليه مظاهر الالتزام الديني، فإن أول وصف له يخطر في ذهنك هو "سلفي".
ولكن مهلاً... قبل إصدار أحكام تعميمية وقبل استدعاء "الباراديم" النمطي المعتاد، يجب الالتفات إلى أن السلفيين لا يتشابهون. فهم في حقيقة الأمر أطياف وتيارات متعددة، منها المسالم الذي لا يتدخل في السياسة مطلقاً، ومنها التكفيري الذي يعمل لقلب نظام الدولة.
في هذا المقال، نحاول أخذ قرائنا في رحلة داخل العقل السلفي المعاصر، لتبيان أهم ملامح السلفية ولتمييز التباينات بين تياراتها المختلفة.
ما هي السلفية؟
السلفية عموماً تأتي في اللغة بمعنى الرجوع للمتقدمين والسابقين زمنياً، ويُعرف الدكتور عبد الله البخاري النزعة السلفية في كتابه المهم المعنون "ما هي السلفية؟"، أنها "اتباع الصحابة والتابعون ومن اتبعهم بإحسان، وسار على طريقتهم واقتفى أثرهم". ورغم أن هذا التعريف يبين أن أصحاب هذا المنهج يتبعون لعدد كبير من الشخصيات التراثية الدينية، إلا أنه يمكننا القول إن السلفيين عموماً يبجلون أربع شخصيات دينية مهمة في التاريخ الفكري الإسلامي. الشخصية الأولى، هو الصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب، والأهمية الخاصة لابن عمر تكمن في كونه عاصر أحداث الفتن والتقلبات، التي حدثت منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وما تبعها من حروب أهلية بين الصحابة. وكان لابن عمر موقف متميز من الأحداث الجارية حوله، فقد اعتزل السياسة ولم ينضم لأي حزب من الأحزاب المتنافسة على السلطة. الشخصية الثانية، هو الإمام أحمد بن حنبل، الذي تعرض لاختبار صعب في عصر المأمون والمعتصم العباسيين، إبان إثارة ما عرف بفتنة خلق القرآن. موقف ابن حنبل الرافض للاعتراف بخلق القرآن، وإصراره على القول إنه كلام الله وحسب، أدى لإعلاء شأن ابن حنبل، وترسيخ مكانته في العقلية السنية عموماً، والسلفية منها خصوصاً، حتى نجد أن اللقب الذي اشتهر به ابن حنبل هو "إمام أهل السنة". الشخصية الثالثة، هو ابن تيمية، الذي عُرف بشيخ الإسلام، واشتهر برفضه لمظاهر البدع والمخالفات المذهبية الاعتقادية، المنتشرة في عصره، خصوصاً آراء ومعتقدات الشيعة الإمامية، التي تصدى للرد عليها في كتابه "منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية". [caption id="attachment_82255" align="alignnone" width="350"] محمد بن عبد الوهاب[/caption] الشخصية الرابعة، هو محمد بن عبد الوهاب، وهو أقرب الرجال الثلاثة إلى عصرنا الحاضر، ومنه أخذ السلفيون لقبهم الأكثر شهرة، "الوهابيون". وقد اكتسب ابن عبد الوهاب مكانته في العقل السلفي باعتباره "إماماً مجدداً" حارب أشكال الزندقة والبدع، التي انتشرت في بلاد الحجاز في عصره. فكانت أهم معارك الإمام النجدي ضد الحركات والطرق الصوفية التي قدست المزارات والأضرحة، وأحيت الاحتفال بالموالد والأعياد. ويمكن أن نقسم السلفية المعاصرة إلى ثلاثة اتجاهات مهمة متمايزة، وهي السلفية العلمية، السلفية الجهادية، والسلفية المدخلية.السلفية العلمية: الاهتمام بالعلم والدعوة
السلفية العلمية هي ذلك التيار الذي يهتم في المقام الأول بالنواحي التعليمية المرتبطة بعلوم القرآن والسنة النبوية. لذلك فإن العلماء والدعاة المنتسبين للاتجاه السلفي العلمي، يركزون جهودهم في تنشئة جيل جديد من الشباب المسلم الملتزم دينياً، ويطلقون على ذلك المنهج اسم "التصفية والتربية". وهو ما يعرفه الشيخ الألباني بكونه "تصفية الإسلام ما دخل عليه مما ليس منه، من الشرك والشعوذة والسحر والخرافات، والبدع وتفاسير القرآن الباطلة، والأحاديث الموضوعة المكذوبة. والالتزام بالاستقامة والتمتع بالأخلاق الشرعية العظيمة من الصدق والأمانة والوفاء بالعهد والبر والصلة وحسن الجوار والآداب الشرعية". ومن أهم الجماعات السلفية العلمية التي حاولت تطبيق ذلك المنهج، جماعة الشيخ مقبل الوادعي في اليمن، وجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر. وبحسب ما أورد أحمد سالم في كتابه "اختلاف الإسلاميين"، هناك "رافدان أساسيان للاتجاه السلفي العلمي المعاصر". الاتجاه الأول هو الشيخ ناصر الدين الألباني، المعروف بشهرته في تدريس علوم الحديث النبوي، والاتجاه الثاني يتمثل في شيوخ السعودية من أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن العثيمين، واللذين اشتهرا بعلمهما الغزير في مسائل الاعتقاد والتوحيد والأصول.إذا شاهدت مسلماً ملتحياً وتبدو عليه مظاهر الالتزام الديني، ستقول لنفسك مباشرة أنه "سلفي"، ولكن مهلاً...
قبل إصدار أحكام تعميمية ونمطية معتادة، يجب الالتفات إلى أن السلفيين لا يتشابهون... جولة في العقل السلفي المعاصرومن هذين الاتجاهين، نهل جميع الشيوخ السلفيين العلميين المعاصرين في شتى الدول العربية. فالشيخ أبي إسحاق الحويني مثلاً، وهو أحد أهم وأشهر رموز السلفية في مصر، درس علم الحديث على يد الشيخ الألباني. وشيوخ الدعوة السلفية بالإسكندرية من أمثال ياسر برهامي ومحمد إسماعيل المقدم، وغيرهما، تأثروا كثيراً بشيوخ السعودية. وتعتبر السلفية العلمية من أكثر أنماط وأطياف السلفية انتشاراً في العالم الإسلامي عموماً، والدول العربية خصوصاً، فامتاز منهجها التقليدي بالبعد عن أمور السياسة من جهة، والالتزام بالمناهج التربوية الدعوية العلمية من جهة أخرى، وهو الأمر الذي وفر لها إمكانية التوسع والانتشار دون الدخول في صدام مع الدولة. لكن حدث انحراف عن ذلك الخط التقليدي في الفترة التي أعقبت ثورات الربيع العربي، إذ بدأت بعض الجماعات السلفية العلمية في انتهاج منهج حركي سياسي، فشاركت في الانتخابات النيابية والرئاسية، وشكلت أحزاباً سياسية. ومن أهم الأمثلة على ذلك جماعة الدعوة السلفية بالإسكندرية في مصر، التي انبثق عنها حزب النور، والذي كان له حضور واسع في المشهد السياسي المصري في ما بعد ثورة 25 يناير 2011.
السلفية الجهادية: الحاكمية والتكفير
يُعتبر مفهوم الحاكمية من أهم المفاهيم المركزية المؤسسة لفكر السلفية الجهادية. والمقصود بالحاكمية هو أن الله وحده له الحق في الحكم، وقد استند الجهاديون للعديد من الآيات القرآنية التي تعرضت لمفهوم الحاكمية. ومن تلك الآيات "إن الحكم إلا لله" وهي الآية نفسها التي استند لها الخوارج عندما خرجوا على حكم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وانقلبوا عليه. ويظهر مفهوم الحاكمية بشكل واضح في كتابات العديد من منظري السلفية الجهادية المعاصرين، ولعل أول هؤلاء وأهمهم، هو "سيد قطب" الذي توسع في شرحه لمفهوم الحاكمية في كتابه "في ظلال القرآن"، والذي جاء فيه أن التصور الإسلامي يؤكد على "أن الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة. وعن هذا التصور تنشأ الحاكمية لله وحده". ويرتبط بالحاكمية مفهوم آخر، لا يقل عنه أهمية في العقلية الجمعية للسلفية الجهادية المعاصرة، وهو مفهوم "الجاهلية". فبحسب آراء منظري السلفية الجهادية، ومنهم "محمد عبد السلام فرج" في كتابه "الجهاد الفريضة الغائبة"، إن المجتمع المسلم يجب أن ينصاع لحكم الله بشكل كامل، ويرتضي أحكام الشريعة الإسلامية ويعمل بها جميعاً بدون استثناء، وأنه في حالة رفض ذلك من قبل الحكام، فإنه يجب قتالهم لكونهم "في ردة عن الإسلام، وتربوا على موائد الاستعمار. فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء وإن صلوا وصاموا وادعوا أنهم مسلمون". ومن أهم الجماعات السلفية التي انتسبت إلى الفكر السلفي الجهادي، الجماعة الإسلامية في مصر، التي قام عناصرها بتنفيذ العديد من عمليات الاغتيال في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، قبل أن يعلن قادة الجماعة <a التراجع عن موقفهم المعادي للدولة، ويطالبون أتباعهم بترك السلاح والاتجاه للعمل السياسي السلمي عام 1995. كذلك، فإن تنظيم قاعدة الجهاد، والمعروف إعلامياً باسم تنظيم القاعدة، يُعتبر واحداً من أهم تجليات السلفية الجهادية المعاصرة، فقام هذا التنظيم بالعديد من العمليات الإرهابية داخل الدول العربية وخارجها، ولعل حادثة تفجير برجي مركز التجارة العالمي في أميركا في 11 سبتمبر 2001 أشهر تلك العمليات وأكثرها تأثيراً وصخباً. كما أن تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام، داعش، يعتبر الإصدار الأكثر حداثة للفكر السلفي الجهادي. ورغم اتحاد جميع تلك التنظيمات في الأهداف الفكرية العليا "الحاكمية وقتال الدولة"، إلا أنه يوجد بينها وبين بعضها العديد من التناقضات والاختلافات الفكرية.السلفية الجامية: الخضوع المطلق للحاكم
على النقيض التام من السلفية الجهادية، تأتي السلفية الجامية، فإذا كانت الأولى ترى تكفير الحاكم المسلم الظالم وضرورة الخروج بالسيف والسلاح عليه، فإن الثانية ترى حتمية طاعته والصبر على أحكامه الجائرة. ويُنسب هذا الاتجاه إلى الشيخ "محمد أمان الجامي"، كما يعرف هذا الاتجاه في بعض الأحيان باسم "السلفية المدخلية" نسبة إلى الشيخ "ربيع بن هادي المدخلي" الذي كان من أبرز تلاميذ الشيخ الجامي. وقد ظهر هذا التيار أول ما ظهر في السعودية، فمع اجتياح قوات صدام حسين للكويت عام 1990، قامت السلطات الحاكمة باستدعاء قوات أمريكية للوقوف في وجه الجيوش العراقية، التي كان من المحتمل تقدمها في الأراضي السعودية. وأثارت تلك الخطوة غضب العديد من الشيوخ والمتدينين داخل السعودية وخارجها، إذ رأوا فيها مخالفة للنصوص الدينية التي تنهي عن إدخال المشركين للجزيرة العربية، وأمام تلك الظروف تعالت أصوات الشيخ الجامي وتلاميذه وأتباعه، للإنكار على المعترضين، واتهمتهم بمعصية أولي الأمر والخروج عن الحاكم الشرعي المفترض الطاعة. ورغم أن التيار السلفي الجامي أو المدخلي لم يظهر كتيار مستقل ومتمايز إلا في فترة زمنية قريبة نسبياً، إلا أن ذلك التيار اعتمد في أسسه وأصوله على تراث هائل من الأدبيات الإسلامية، التي تشمل تأويلاً تعسفياً للعديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تلك التي شرعنت حكم الحاكم الظالم، وأخرجت المجتمع والشعب من معادلة الاختيار السياسي للسلطة التي تحكمه. وقد توسعت أفكار الجامية المدخلية، في الكثير من البلاد العربية. ففي مصر نجد أن عدداً من الشيوخ الذين تأثروا بأفكارها ومبادئها، من أمثال "أسامة القوصي" و"محمد سعيد رسلان"، و"محمود لطفي عامر"، واستطاع هؤلاء تكوين قواعد شعبية واسعة لهم. وقد لعب السلفيون الجاميون دوراً مهماً، بعد ثورات الربيع العربي. فكان لهم دور كبير في إفشال تلك الثورات، بعدما أذاعوا مبدأ البعد عن السياسة وترك الدولة للساسة ورجال الحكم، وتحريم المشاركة في العملية الانتخابية الديموقراطية، والتأكيد على عدم شرعية المعارضة والاحتجاجات المناهضة للحاكم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...