قليلة هي الجهود التي تعيد قراءة التراث العربي وفق أحدث النظريات العلمية المعاصرة. فالعوامل التي تحول دون ذلك كثيرة، وأهمها حجم الهدم، والحذف الذي يمكن أن يتعرض له هذا التراث، وما يقابله من حجم الثورة التي ستقوم على الباحثين والمحققين في هذه المقاربات العلمية.
لذا تتمحور مجمل مراجعات التراث العربي في البحث عن المتواري، والمحتجب، والمحذوف، من ذاكرة التراث العربي التقليدية. فجل ما يقوم به الباحثون هو التشكيك في الروايات التاريخية، وتقديم رؤى جديدة، وفق المناهج التاريخية والنقدية والتأويلية التي كرستها مدارس البحث الغربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
يحيلنا هذا إلى مجمل العقول العربية التي استهدفت، والتي تم تصفيتها برصاص التطرف، وسكاكين السلطة. فما يمكن العبث فيه تاريخياً قادر على هدم أنماط من السلطة الراسخة اليوم، إذ بعضها يحمل سلاحاً سنّه التاريخ منذ ألف وأربعمئة عام.
يبدو العلم اليوم وما يجري في كواليس المعامل، أشبه بمعاول هدم لكل أشكال الشفهي والمروي، والأسطوري، فالعقل النقدي العلمي بات يملك من الأدوات التي تمكنه من إلغاء سلطة العقل الغيبي. أي بحث علمي في واحد من المحاور التي يطرح فيها العقل الغيبي تصوره الأسطوري، قادر على نسفها من جذورها بصورة رياضية، تتشابه في توصيفها مع المعادلة القائلة: 1+1=2.
هل نحن ضحية الوهم؟
يمكن تحقيق هذه المراجعات في تتبع واحد من أحدث البحوث القائمة على الذاكرة والعقل البشري اليوم. فالذاكرة مثلت محوراً رئيسياً في تلقينا لتراثنا العربي، وإيماننا بكل ما ورد فيه. إذ هي الوسيلة المعرفية الأولى التي نقلت تاريخ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، قبل أن يبدأ مشوار التدوين والكتابة في القرن الثاني الهجري. كشف العقل العلمي الغربي في سلسلة بحوثه، عن ظاهرة جديدة في حقيقة الذاكرة الإنسانية، أعادت النظر في ما يعرف بـ"فلاش بلب ميمري" Flashbulb Memory، وهي الذاكرة التي تتذكر بالتفصيل الدقيقة أحداثاً بارزة مرت علينا، للحد الذي يمكننا استرجاعها، وتذكر شعورنا في تلك الحالة، والأشخاص الذين كانوا حاضرين معنا، وربما ردود فعلهم، وألوان أثوابهم.بحسب الدراسات، تصل نسبة التغير في الحقائق التي نتذكرها عن حادثة ما إلى 50% بعد مرور بضع سنوات. كيف نثق إذاً برواة التراث؟
هل نحن ضحية الوهم؟ فما الذي يمنع ذاكرة الرواة العرب من تغيير ما يصل إلى 50% من الحقائق التي شهدوا عليها وتتحكم بحياتنا اليوم؟جرى هذا في الوقت الذي كان العالم يستقبل حادثة 11 سبتمبر الشهيرة، إذ قام فريق من العلماء بإجراء بحوث على ثلاثة آلاف شخص من الذين كانوا في موقع حادثة البرجين. وزعوا عليهم استبياناً يسألهم عن تفاصيل الحادث، والوقت الذي استقبلوه فيه، وغيرها من التساؤلات المفصلية حول الحدث، وبعد سنة واحدة عاد فريق العمل البحثي إلى الأشخاص أنفسهم، وطرحوا عليهم الأسئلة نفسها، وعادوا ليحققوا المقارنة بين الإجابات التي حصلوا عليها سابقاً، والإجابات الحديثة. وفوجئوا أن الإجابات اختلفت بصورة واضحة، بفروق وصلت إلى 40% عن الأصل، الأمر الذي دفع الباحثين لاستكمال التجربة، وقياس ما يمكن أن يحدث لو أعيدت التجربة بعد ذلك بثلاث سنوات. عاد الباحثون إلى الأشخاص أنفسهم بعد سنوات ثلاث، ووجدوا أن نسبة التغير في الحقيقة الأولى وصلت إلى 50%، مقدمين بذلك واحداً من أبرز الفتوحات في دراسة الذاكرة. فلم تعد الفلاش بالب ميمري Flashbulb Memory قادرة على تذكر التفاصيل التي تجري للأحداث المهمة في حياتنا، فما هو حال الذاكرة اليومية العابر، التي نحتاجها لتذكر الأحداث التقليدية والبسيطة؟
الوهم الذي نثق به كلما ازددنا في الكذب؟
أظهرت بحوث أخرى أجريت في جامعة "ديوك الأمريكية"، أنه كلما مر الزمن على الحدث المهم الذي نتذكره، ازدادت ثقتنا بنفسنا في تذكر أحداثه، على الرغم من أننا نحذف منه ونضيف عليه بما يصل إلى 50%. تضعنا هذه الفتوحات المعرفية العلمية في دراسة الذاكرة، أمام تساؤلات كبرى ينبغي الإجابة عليها في تراثنا العربي. ما الذي يمنع ذاكرة الرواة العرب من حذف وإضافة ما يصل إلى 50% من الحقائق التي كانوا شهوداً عليها، وما الحل في ظل هذه الحقيقة عن الذاكرة، هل علينا هدم تراثنا؟ أم إعادة النظر فيه، أم اختيار ما يصلح منه، وما لا يصلح؟ لا يبدو التراث العربي عائقاً أمام العقل العربي المعاصر، إن ظل في مساحة التراث الذي يمثل إحدى صور حقيقتنا التاريخية، وأصول وجودنا. إلا أنه يمثل عقبة عالية أمامه عند الحديث عن مفهوم النقل مقابل العقل، أو عند تتبع مجمل النظم التي ترسم معالم حياتنا، والمستندة في واقع الأمر إلى روايات تاريخية عابرة، نقلها الرواة جيلاً تلو آخر، ولم ترسُ حقيقتها مثل النص القرآني، أو بعض الأحاديث النبوية التي جرى التوافق على صحتها والتأكد من أصالتها. تتجلى أهمية مثل هذه التجارب وضرورة تطبيقها على التراث العربي، عند الحديث عن أنماط التطرف والعنف التي يعلو صوتها اليوم. فالكثير من حوادث الإعدام والرجم والسفك التي تنفذها الجماعات المتطرفة تستند إلى روايات منسوبة إلى النبي محمد. والكثير من مرويات سير الرسول والصحابة، منسوجة وفق العقل التقديسي الذي يختلق الأحداث، لتحقيق التنزيه الذي يريد إسباغه على سير الصحابة والأنبياء والرسل، في الوقت الذي لا تحتاج هذه الشخصيات كل هذه المرويات لتكتسب حضورها التاريخي.هل نصدق قصة مصحف النبي "دانيال" مثلاً؟
كثيرة هذه الروايات في تراثنا العربي، ففي المغازي لابن إسحاق، يكتب الأخير حكاية اكتشاف قبر النبي دانيال، والمصحف الذي وجد عند رأسه. ويروي أن مصحفه ترجم إلى العربية، وأن الراوي الذي ينقل له الأحداث، كان شاهداُ على ذلك. فيقول: "لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف وحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس، لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عليهم، برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير بشيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع