كان لحاتم الطائي صيت وشهرة، وقد أحبه العرب على مدى قرون طويلة، ورفعوه إلى مستوى الأسطورة، فغدا رمزاً للكرم في الوجدان الشعبي العربي، فيقال: "أكرم من حاتم". وما ساعد في رسوخ أسطورة حاتم أنه شخصية واقعية، نسب لها الكرم المادي، والكرم المعنوي. فهو جواد سخي معطاء مادي، وأخلاقياً لا يتسبب بضرر، ويجير اللاجئ، ويغض البصر عن جيرانه، ويحفظ حقوق القربى، إلى آخر سلسلة هذه الصفات التي وضعها العرب في أعلى سلم القيم، والتي حفظتها لنا أشعاره.
ومن الطريف أنه كان من أجمل شباب العرب في الجاهلية حسب وصفه، وبذلك يكون الجمال الروحي قد اكتمل بالجمال المادي البصري، لكأن أحدهما يفترض الآخر ويتممه.
عتبة بنت عفيف، أم حاتم
شهرة الطائي فتحت مجالاً لبقاء قصص أمه وزوجته وابنته حية من صدر إلى صدر، أي شفوياً، وأتاحت لهذه القصص، أن ترد في أحاديث الرواة، مع أننا نادراً ما نعثر على معلومات تسلط الضوء على نساء ناشطات في المجتمع من عصر الجاهلية، إذ كان هناك ميل لحذف ذكرهن مع بدء عصر التدوين، لأن المصادر الإسلامية صنفت مثل هذه التواريخ من خلال عملية إقصاء إيديولوجية، معتبرةً الممارسات الجاهلية، في غالبية الأحيان، سلبية. القليل الذي نعرفه من أخبارهن، وصلنا محكوماً على نطاق واسع بإيديولوجية ذلك العصر، (التي كانت تتماشى مع أعراف سياسية واجتماعية اعتمدت النظام الأبوي). وقد يكون الاستثناء الأهم، هو أن كتب التراث، كما في حالنا اليوم، كانت تعتمد في انتقائها على المواد المثيرة، والقصص الاستثنائية (لنساء ورجال)، ليس فقط لما فضلّه المؤرخون، بل لما كان يدور في مجالس الناس، وفي أحاديثهم وحكاياتهم الشعبية، وقصتنا هنا مثال لذلك. كي تكتمل الأسطورة، فنيا وسردياً، اتفق أن أم الطائي عتبة بنت عفيف (في بعض الروايات عنبة)، عُرِفت قبل زواجها من أبيه بأنها كريمة إلى حد الإسراف. ولهذا السبب يتكرر عند الرواة، ولو بذكر سريع، أنه ورث الكرم عن أمه. فقيل إن عتبة كانت ذات "يسر وسخاء"، لا ترد سائلاً أبداً. وحين طلب منها إخوتها أن تمسك وتقتصد، كي لا تتلف كل ما تملك، أبت وأصرت على كرمها. فتقول القصة إنهم حاروا بأمرها، فحبسوها في بيت، يطعمونها قوتها، لعلها تكف عن صنيعها، وأخرجوها بعد سنة، وقد ظنوا أنها تركت ذلك الخلق، ودفعوا لها صرمة (مجموعة صغيرة) من الإبل، من مالها، وقالوا لها: استمتعي بها. وبعد فترة قصيرة، جاءتها امرأة من هوازن اعتادت المجيء إليها كل عام، وشكت لها سوء حالها، وطلبت منها عطاء، فقالت لها عتبة: دونك هذه الصرمة، خذيها كلها، فقد مسني من الجوع ما آليت ألا أمنع سائلاً، ثم قالت: لعمري لقد ما عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائمي اليوم اعفني فإن أنت لم تفعل فعضّ الأصابعا فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم سوى عذلكم، أو عذل ما كان مانعا وماذا ترون اليوم إلا طبيعة فكيف بتركي يابن أم الطبائعا تقدم لنا القصة فرصة للاطلاع على جانب من الحياة الجاهلية، قلما تم إبرازه، أو الإضاءة عليه: كرم عتبة له بعدٌ اجتماعي هامّ، فهي كانت سيدة قوية مستقلة، لها مالها الخاص، ولها حرية التصرف به. وأما سجنها فهو رمزي يدل على "اختبار" معدن أخلاقها، ونتج عنه أنها ازدادت اقتناعاً بكرمها، وآلت على نفسها ألا تمنع سائلاً. ومن الطريف أنها شاعرة أيضاً، وإن لم تكن من طبقة الفحول، فهل ورث حاتم الشعر عنها كما ورث الكرم؟ ولعل استقلال الرأي، بالإضافة إلى كرمها، هو الميزة المهمة التي تشير إليها الرواية.حاتم وابنته سفانة، اثنان على مال واحد
كانت سفانة بنت حاتم "من ذوات الفصاحة والبلاغة والجود"، وقد اشتهرت بعد الإسلام بمقابلتها الشهيرة مع النبي محمد بعد أسرها من قبل جيش المسلمين، وطلبها أن يعفو عنها بصفتها ابنة حاتم الطائي. وقد حصلت على العفو. تصفها الروايات بأنها كانت ذات "عقل ووقار"، وهذه الثنائية هي بمثابة ما يعرف بـ"توبوس"، أي تعبير يستخدم بصفة رمزية، مثل قول الرواة "عاش فلان 77 عاماً"، والقصد ليس بالضرورة العمر بحد ذاته، بل التدليل أن الشخص عاش طويلاً. وهنا وصف سفانة يدل على أنها كانت تستوفي معايير الامتياز الاجتماعي في العصر الجاهلي. وكان أبوها يهبها الكثير من الإبل، فتجود بها على السائلين. وقال لها حاتم مرة: يا بنتي! لا يصح أن يجتمع كريمان على مال واحد، فينتهي ما عندهما من المال، فإما أن تمسكي وأبقى أنا على حالي، أو أن أمسك، وتبقين على حالك. فقالت: والله لا أمسك أبداً، فقال لها: وأنا والله لا أمسك أبداً، فما الحل؟ قالت: فلا نتجاور. ثم قاسمها ماله، وتباينا.نادراً ما نعثر على معلومات عن نساء ناشطات في المجتمع الجاهلي. هذه القصة عن 3 أجيال أثرتها أحاديث وأمثال وبنيت حولها أسطورة
حاتم الطائي الذي أحبه العرب ورفعوه إلى مستوى الأسطورة، وامه عتبة وابنته سفانة اللتان لم تتجاهلهما الأسطورةالملاحظة الأولى الهامة اجتماعياً، هي أن حاتماً كان يكنى بسفانة، وللأمانة بابنه عدي أيضاً، وكان أكبر من شقيقته. ولكن الغالب أن يقال "أبو سفانة!". وفي حدود ما أعلم، ليس في السادة أيام الجاهلية من كني بابنته سوى المهلهل: "أبو ليلى"، وهو لم يكن لديه أولاد ذكور. في القصة، يضع الحوار سفانة ووالدها في تقابل بديع، وتتساوى شخصيتاهما سردياً. فكل منهما يتمسك برأيه وقراره. وبعدما كانت سفانة امتداداً لكرم أبيها، حين كان يهبها المال فتجود به، تمنحها القصة استقلالية عندما يقاسمها حاتم ثروته ويفترق أحدهما عن الآخر. وبذلك، تتمم القصة التقابل السردي في تباعدهما. بتحليل أبعاد القصة اجتماعياً، نرى كيف لعبت سفانة، كجدتها عتبة وأبيها حاتم من قبلها، دوراً ناشطاً من خلال كرمها، والذي يمكن اعتباره "أعمالاً خيرية" في معايير عصرنا.
الأم والابن والنسب الأمومي
يبقى سؤالنا "أيهم أكرم" في عنوان المقالة رمزياً: فليس الهدف أن نقارن درجات كرمهم، أو أن نقيس أخلاقهم، وإنما وددت أن تكون سلسلة قصصهم فرصة للتحرر من المنظور الذي تعودنا تبنيه في نظرتنا للجاهلية. كما التأكيد أن ثقافة الجاهلية تنطوي على تعددية واختلاف، لا يمكن حصره في حكم واحد. وإذا كان التراث حجة لاستمرار تقييم المرأة في التاريخ من خلال منظور ضيق في المجتمع العربي، فإن تحدي سردياته الإقصائية، حتماً ضروري لتصحيح ذلك. وهنا لا بد من التنويه بأن كون الحديث عن "النساء" يتقاطع مع اهتمامات مجتمعات العالم الغربي، فإن ذلك لا يلغي ضرورة معالجته في مجتمعاتنا العربية، ولا ضير أن نستثمر دراسات وأبحاثاً وتساؤلات جديدة، أياً كان مصدرها، لنطرح نقاشات مثمرة عن عصورنا الكلاسيكية. في هذه القصص ثلاثة أجيال تتشارك بسمعة عطرة، ربما حصد حاتم النصيب الأكبر منها، ومع أنها تأخذ أبعاداً اجتماعية وأخلاقية مستقلة مع كل جيل، إلا أنها تجتمع معاً في نسق لم نتعود نسبه الأُمُومِي: امرأة وابن وحفيدة. سيرة الأجيال الثلاثة أثرتها أحاديث وأخبار وأمثال، لعل أشهرها ما يحكى عن أعرابي نزل ضيفاً عند حاتم لثلاثة أيام، لم يقدم له سوى اللبن والتمر، ولم ينحر له حاتم، ولم يعطه مالاً. وبعد انصرافه، تنكر حاتم، ولاقاه في الطريق، فسأله عن إقامته عند حاتم، فاسترسل الرجل في المديح، وفي أنه نحر، وأجزل في العطاء. فقال له حاتم مستغرباً: "لماذا لا تقول الحقيقة يا رجل، أنا حاتم، ما نحرت لك، وما أعطيتك شيئاً. فقال الرجل: "يا حاتم! كل العرب يقولون عنك ذلك، فمن سيصدقني إذا قلت غيره؟". لا تهمنا واقعية هذا الخبر، بقدر ما تهمنا دلالته، وهي أن الناس، والرواة والقراء أيضاً، منذ ذلك العصر حتى اليوم، يفضلون إثارة الأسطورة ويشاركون باستمرارها وشعبيتها. وها نحن اليوم، في القرن الواحد والعشرين، نكتب عن الطائي لقرّاء رصيف22، ونتغنى بأخباره، وكأنه قد تنبأ بذلك في مطلع قصيدته الشهيرة، حين قال: "أماوية إنّ المال غادٍ ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر" وقد صدق، فقد بقي له، كما تمنى قبل مئات السنين، تشويق قصصه وإعجابنا المتجدد بأخلاقه وذكراه.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاتربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ يومينبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي