شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رحلة البحث عن يهود العراق في الأدب

رحلة البحث عن يهود العراق في الأدب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 25 أكتوبر 201606:10 م
في العاشرة من العمر، ارتقيت خشبة مسرح مدرستي الابتدائية في بغداد، لإلقاء أبيات شعر دعت لتحرير أرض فلسطين من قبضة الاحتلال اليهودي الغاشم. قصيدتي القصيرة قوبلت بعاصفة من التصفيق من رفاقي وأساتذتي، الأمر الذي أشعرني بنشوة غامرة. من كان ليتخيل أنني بعد مرور 36 سنة على ما بدا حينها حدثاً مجيداً، سأقوم بكتابة مراجعة لأعمال مؤلفين من اليهود، أستعرض فيها الظلم الذي لحق بهم وبذويهم؟ لكن مهلاً! لو قمنا بتنحية وثائق السفر جانباً، اليهود الذين أتحدث عنهم هنا، ليسوا بأي حال من الأحوال أقل "عراقية" مني، هم أيضاً وُلِدوا في بغداد، وترعرعوا ودرسوا في مدارسها، كما هاجر نحن وهم من العراق (في أزمنة متفاوتة)، حين فقدنا الشعور بالأمان على حياتنا، وحياة أسرنا فيه. لقائي الأول مع محنة يهود العراق، كان عبر سلسلة مقالات نشرها موقع إيلاف لشموئيل موريه (أستاذ فخري في قسم الأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس)، عام 2007. استرجاعات موريه الحميمة، التي قرأتها باهتمام على شاشة الكومبيوتر، عادت بي إلى مرأى الفيلات الجميلة المشيّدة بالآجر، على الطراز البريطاني الكولونيالي، ومروري المتكرّر بها، وأنا أقود سيارتي متوجهاً إلى جامعة بغداد، حيث درست العمارة في التسعينات. عندما سألت عنها، قيل لي إن أصحاب الدور من اليهود الأثرياء هجروها فراراً إلى إسرائيل مطلع الخمسينات، فقامت الدولة بوضع يدها عليها. لم يكن قد مضى وقت طويل على مغادرتي العراق عندما عثرت على مقالات شموئيل موريه. شبح الماضي كان لا يزال يخيّم على حياتي، رغم محاولتي التأقلم مع مستجدات وتحديات الحاضر الكثيرة. كان من الطبيعي أن يمسني الحنين الذي غلف السرد، لكنني لم أستطع أن أفهم كيف يمكن لرجل ذاق مرارة الظلم، وأجبر على الرحيل عن أرض أسلافه دون وجه حق، أن لا يحمل ضغينة على أحد، أو يوجه لوماً حتى. الحكايا الشيقة أثارت اهتمامي، لمعرفة الأسباب الكامنة وراء نزوح اليهود الجماعي من بلاد الرافدين، التي شهدت نشوء أقدم جالياتهم في الشتات، بعد السبي البابلي. لم أكن أتوقع أن أجد رأس الخيط عند والدتي، التي أخبرتني عن صديقة طفولتها اليهودية أيفلين، ووداعهما المبلل بالدموع في دار جدتي. عبارات الوعيد بسحق "اليهود القذرين"، التي هتف بها حشد غاضب مار في الشارع المجاور، ردّدت صداها جدران المنزل ذي السقوف المرتفعة، وأثارت الذعر في نفوس ساكنيه. عزمت على ضم حكاية أيفلين إلى كتابي باللغة الإنكليزية "مسلم على الجسر" A Muslim on the Bridge - Signal 8 Press, 2013، الذي لم أكن قد انتهيت من مراجعته بعد، ثم مضيت في سعيي للعثور على المزيد من الشهادات الحية عما حدث في تلك الأزمنة المضطربة. كنت في زيارة إلى الشرق الأوسط عام 2011 حين اقترحت علي صديقة أردنية من أصول فلسطينية، أن أقرأ "ذكريات عن جنة عدن" Memories of Eden - Northwestern University Press, 2010، عن رسائل بعثت بها فيوليت شمّاش إلى ابنتها ميرا وصهرها الصحافي البريطاني طوني روكا، اللذين قاما معاً بجمعها في كتاب مذكرات مهم ومؤثر، تجولت بين صفحاته. والصور التي رأيتها بدهشة مشاهد لفيلم وثائقي شيّق. شهادة شمّاش وفّرت لي مدخلاً لفهم ملابسات الفرهود (سلسلة هجمات غير مسبوقة استهدفت يهود بغداد، إثر فشل انقلاب موال للنازية عام 1941). جرائم القتل والنهب والاغتصاب بلا تمييز، التي استمرت على مدار يومين متتاليين، لم تؤشر فقط إلى نهاية شهر العسل الممتد لقرون بين مسلمي ويهود العراق، لكنها أسفرت أيضاً عن انتشار سريع للفكر الصهيوني بين شباب الجالية، التي كانت غالبيتها (حتى ذلك التاريخ)، تعارض بشدة مبدأ الهجرة إلى فلسطين، وترفض اعتبار أي بلد سوى العراق وطناً أبدياً لها. شعرت بحاجة لمعرفة المزيد عن مسببات الانشقاق المفاجئ في الولاءات وظروف نشأته وتطوره. خلال تجوالي بين رفوف المكتبة العامة في أوكلاند ذات صباح، طالعني كتاب "الأيام الأخيرة في بابل" Last Days in Babylon - Free Press, 2006، للصحافية مارينا بنجامين، التي تقر في مقدمته أن اهتمامها بالبحث في تأريخ أسرتها بدأ بعد ولادتها لطفلها الأول، وإدراكها للهوة التي باتت تفصل بين ضفتي الماضي والحاضر في حياتها البريطانية، وتطير إلى بغداد بعد عقود من رحيل والدتها وجدتها المرير عنها. تشرع بنجامين في البحث عن الآثار المتبقية لحياة أسلافها في مدينتهم الحبيبة، لكنها تعجز عن العثور على شاهد واحد، يدلّها على قبر جدها في المدفن اليهودي، الذي تعرّض للعديد من الانتهاكات والاعتداءات عبر العقود. رغم ذلك، نجدها ترفض العودة خالية الوفاض من رحلتها، فتقوم بزيارة آخر كنيس شاخص في المدينة، وتنجح (بصعوبة) في إقناع من تبقّى من أفراد الجالية بالتحدث معها. رواياتهم عن المصاعب التي واجهتهم وعوائلهم خلال السنوات الماضية، وتفاصيل الحياة البائسة التي كانوا يعيشونها بعد الحرب الأخيرة، سلّطت الضوء على جوانب محجوبة في تاريخ الجالية اليهودية في العراق، وبقي أثرها ملازماً لي لأيام، بعد انتهائي من قراءة الكتاب.
اليهود الذين أتحدث عنهم هنا، ليسوا بأي حال من الأحوال أقل "عراقية" مني، هم أيضاً وُلدوا في بغداد، وترعرعوا ودرسوا في مدارسها
"عشنا مع اليهود بسلام على مر العصور، فلا يجرأن أحدكم على مسهم اليوم بسوء" كلمات امرأة عراقية بسيطة هبت لإنقاذ جيرانها اليهود
النهج الذي اتبعته حتى ذلك الحين في تقصي الحقائق فقط، أسفر عن ابتعادي الطوعي عن الكتابات الروائية، خشية الوقوع في شرك العلاقات المُتخيّلة فيها. لكنني وبعد أن تمكنت من تجميع كمية لا بأس بها من المعلومات، بت أشعر بحيرة طفل أحاطت به قطع الأحجية المتناثرة من كل جانب، من دون أن يفقه طريقة لجمعها في صورة واحدة مكتملة. أدركت أن الوقت حان لسبر أغوار عالم الرواية، علّني أجد ضالتي المنشودة فيه. معرفتي المتراكمة عن الأحداث والأماكن، والمناخ السياسي السائد، وشخصياته المؤثرة، أتاحت لي الهبوط بسلاسة على مدرج الحقبة الزمنية لرواية "المطيرجي" The Dove Flyer - Halban Publishers, 2010 لإيلي عمير، التي قام بترجمتها إلى الإنكليزية عن النص العبري هيليل هالكين. تدور أحداث الرواية عام 1950، بعد مرور عامين على إعلان إقامة "دولة إسرائيل" في فلسطين، الشارع البغدادي يغلي بمشاعر العداء لليهود، وتبعات ما حدث خلال الفرهود، ما فتأت تتفاقم ككرة ثلج متدحرجة، الأمر الذي أدى لظهور صدع خطير في صفوف الجالية. يُحسب لإيلي عمير هنا، وقوفه على مسافة واحدة من الأطراف المتصارعة، وعدم انحيازه لأي منها على حساب الطرف الآخر. عوضاً عن ذلك، نجده يقدم لنا تجسيداً صادماً وبليغاً للمشهد السياسي والاجتماعي، على امتداد عدد من الصفحات بلسان "الحاخام باشي"، بعد نجاته من هجوم واعتداء حشد من اليهود الغاضبين عليه. مناجاة رجل الدين المنكسر لا تنفس فقط عن حزنه وخيبة أمله في بني جاليته، ناكري الجميل ودائمي الشكوى والتبرم، لكنها أيضاً تعكس إحباطه من تردي الوضع العام، وعجز السياسيين وأولياء الأمر (الباشا نوري السعيد ورئيس الوزراء حينها توفيق السويدي والوصي عبد الإله)، وتقاعسهم عن حماية رعاياهم من اليهود. يتمادى الحاخام باشي في أنين، يقارب الملحمية، فيلقي باللوم على "سيد الكون"، الذي رفع يده عن نجدة "شعبه". أهمية رواية "المطيرجي" (في نظري)، لا تقتصر على قيمتها كعمل أدبي رصين، لكنها تتعداها إلى كونها وثيقة تاريخية نابضة ومؤثرة، نجحت في جعلي أعيش تفاصيل حياة أبطالها، وأشعر معهم بهول الضغوط التي كانوا يئنون تحت وطأتها، والتهديدات المتزايدة الموجهة لهم. كما أنها فتحت عينيّ على حقيقة مفادها أن قرار الرحيل المؤلم، لم يكن بسبب نقص في الحس الوطني عند يهود العراق، أو الخيانة التي وصمتهم بها كتب التاريخ في مدارسنا، قدر ما كان محاولة أخيرة ومستميتة من جانبهم، للنجاة من إبادة جماعية كانت تتربّص بهم. "لقد عشنا مع اليهود بسلام على مر العصور، فلا يجرأن أحدكم على مسّهم اليوم بسوء!". أقتبس في النهاية كلمات شخصية "خيرية" من رواية إيلي عمير، وهي امرأة مسلمة بسيطة، هبّت لإنقاذ جيرانها من اليهود، ووقفت أمام باب دارهم كي تدرء بجسدها عنهم أذى المهاجمين المهتاجين خلال الفرهود. وأتساءل: "... ما الذي حدث لنا، ومن المسؤول عن جحيم اضطهاد الأقليات العرقية والدينية الذي أمسى عليه العراق والشرق الأوسط اليوم؟   ترجمة للنص الأصلي المنشور باللغة الإنجليزية على موقع Arabic Literature تحت عنوان Jewish Exodus from Iraq Revisited.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image