شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حذار… السرطان سيفرّقكم عنهم

حذار… السرطان سيفرّقكم عنهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 22 أكتوبر 201610:17 ص
تشد يديها على أطراف السرير، تعض على أسنانها أو ما تبقى منها، تركل الفرشة بكلتا قدميها حاصرةً الألم، مع أن محاولة الحصر لم تُفلح، فكانت دموعها سبّاقةً ولم ينفعها عصر أطراف السرير بيديها. شعرها غزاه الشيب، قصيرٌ كسيدة فرنسية أضلّت طريقها، بدل أن تتمشى في الشانزليزيه، وجدت نفسها على سرير الموت، تتلوّى ألماً. تعتبر عناية حالة من 12 مليون حالة جديدة تُضاف كمعدل سنوي على مجمل عدد الإصابات بمرض السرطان، ولو أن منظمة الصحة العالمية توقّعت ازدياد حالات الإصابة بنحو 70%، ووصول حالات الوفاة لـ19 مليوناً في العام 2025، فإن المرض قد زاد بنسبة 20% خلال السنوات العشر الماضية. ويقضي السرطان بحسب منظمة "الصحة العالمية" على ما يقارب الـ15 مليوناً سنوياً. السرطان مرضٌ يصيب الخلايا، التي تعتبر الوحدة الأساسية في بناء الجسم. تقوم أجسامنا بانتاج خلايا جديدة بشكل مستمر حتى تتم عملية النمو، أو لاستبدال الخلايا الميتة، أو لمعالجة الخلايا التالفة بعد الإصابة بجروح. وتوجد جينات معينة تتحكم في هذه العملية. ويحدث مرض السرطان نتيجة لتلف تلك الجينات، الذي عادة ما يصيب الإنسان في حياته، وذلك على الرغم من قلة عدد الأفراد الذين يرثون جينات تالفة من أحد الأبوين. وبشكل عام، فإن الخلايا تنمو وتتكاثر بطريقة منظمة، ولكن قد تؤدي الجينات التالفة إلى تصرف الخلايا بشكل غير طبيعي، فتنمو الخلايا مكونةً كتلة يطلق عليها اسم ورم. لسوء حظّ عناية، لم يُسعفها الوقت لتشاهدني بثوب التخرج. تابعت مراحل نمو أبناء إخوتها. لم تكن متزوّجة، لكن نجحت بلعب دور الأم للجميع. ربّت وراقبت وتابعت، ولكن عند تقاعدها، شغلها المرض. يُعتبر اكتوبر شهراً وردياً يستخدم للترويج للحملات التوعوية ضد مرض السرطان، سرطان الثدي خاصةً، وتنشط جمعيات عديدة في دفع النساء وتشجيعهن على إجراء الصور والفحوص اللازمة. لكن لا يعرف معنى الألم إلا من عاشه ومن عايشوه معه من مجتمعه الضيق، كعائلةٍ ورفاق عمل. عناية أمضت أكثر من ستة أشهرٍ من أصل تسعة عانت فيها من مرض السرطان في المشفى. كانت زياراتها لمنزلها قليلة. هي في ذاكرتي وجهٌ يأبى أن يتقاعد، تفصيلٌ لا تخلو منه محطات حياتي من طفولتي إلى ما قبل أربعة أعوام. في الذاكرة محطات ترافق صاحبها مدى الحياة، واللحظات التي نعيشها الآن، ستكون بعد قليل مادة دسمة تبتلعها الذاكرة لتبقى مخزوناً يغيّر أو بالحد الأدنى يساهم في تحولات حياتية تسمى "ما قبل و ما بعد".
سيدتي، إجراء الفحوص ليس مخيفا. التردد لن يكافح المرض، بل العزيمة على مواجهته، لا لأجلكن فقط، بل لأجل من سيتألم لفقدانكن أيضا
في صغري، كنت شقياً دائم المشاكل، ألاحق أطفال الحي لضربهم، أو بحثاً عن كرة ضائعة أو لعبة مأخوذة، وكان الجيران يشتكون لوالدي، فأحتار وأفكّر في الهروب، وكانت عناية ملجأي الأخير، طالما أني المذنب في أغلب الأحيان. كنا، انا وأبناء عمي، ننتظر أيام العيد لنسابق الشمس، فما إن تشرق، حتى ترانا مهرولين إلى منزلها لمعايدتها. طبعاً، ببراءة الأطفال، كان الهدف المرسوم هو العيدية المنتظرة وكانت هي تعرف ذلك وتبتسم لنا جميعاً. تعدّ العدّة هي للعيد قبل أسبوع كي لا تكسر صورة رسمتها في أذهان الأطفال، لم تكن متزوجة ولم ترزق طفلاً، لكنها كانت أماً بكل ما للكلمة من معنى، أماً ليس لي فقط، بل لنا جميعاً. كنت أرصد الخبريات المتناقلة عنها قبيل عيد ميلادي، أين هديتي؟ على ما سأحصل هذا العام؟ ثياب؟ لعبة أم مبلغ مادي؟ لكن هديتي كانت ترافق سنوات عمري، فكلما كبرت، كبرت الهدية معي وبنيت على أساسها مشاريع تمتد لعيد مولدي التالي، عند بلوغي سنّ المراهقة بدأت الحيرة تنتابها، فأنا على أبواب الشباب والرجولة وهي لا تعرف أي هدية ستلبي الطموحات المتوقعة لا سيما منها، فتتحايل عليّ لتحصل على جواب: "شو يا عمتي، شو بدك السنة؟". لا انكر أنّي كنت في طفولتي أجيب مباشرة، أما في أواخر السنين معها، كان جوابي "سلامتك"، فتفهم هي أن المطلوب مادي وتعمم ذلك على الباقين، كأن ذلك ميثاق بيني وبينها ممهور بالغمزة ولا حاجة للكلام فيه… آنستي وسيدتي، إجراء الفحوص ليس أمراً صعباً أو مخيفاً، بل سبيلٌ للوقاية، التردّد والخوف لن يكافحا المرض، بل الإرادة والعزيمة على مواجهته، لا لأجلكن فقط، بل لأجل من سيتألّم لفقدانكن أيضاً، قد يبدو ما أكتب أنانياً، لكن الوجع، وجع الموت خاصةً، لا يعرف معنى للمعايير البشرية المعتمدة في قياس المصلحة والأنانية. فاجئي المرض قبل أن يفاجئك. لم تزر عناية طبيباً قط، وإن فعلت، كان الطبيب ليكون ضحية كفرها بالطب واستخفافها به. كان الطبيب مهما بلغ ذكاؤه في نظرها مخطئاً. عُذرها هذا، يُبرّر لها لاحقاً عدم التقيّد بأي من تعليماته. فلسفتها الحياتية بسيطة: "كلها مرّة اللي بدي عيشها، ليه بدّي عيشها على ذوق هيدا و هيداك". وبالرغم من بساطة فلسفتها، يعد تحليلها معقّداً وصعباً... تحب الحياة، الطرب، الرقص، الرحلات، السياحة وتحاول في الوقت عينه الموازنة بين حب الحياة وتوقع ما بعدها. أحسّت بأوجاع شديدة. لا مفر من زيارة الطبيب. اقتنعت بأن ما تعانيه ليس إلا أوجاعاً ناجمة عن تضخمٍ في "المرارة"، فقصدت الطبيب وأجرت العلمية، مع أنها كانت تتذمر من موعد العملية الذي يصادف والموسم الربيعي، أي يؤثر على جدول رحلاتها ومخططات ما بعد الشتاء. لم تزل الأوجاع، مع أن "المرارة" استؤصلت، استئصال المرارة كشف مرارة مرض كان يعمل وينتشر بشكلٍ خفي، السرطان استشرى في جسدها وأحكم طوقه على ما تبقى من عمرها. يبدو أن الحياة ما عادت تبتسم، وأن القادم مؤلم، كانت تعي هي ذلك جيّداً. خيّبت عناية ظني، أحبت الحياة حتى أيقن من حولها أنها خالدة مخلّدة، لكنها استسلمت للمرض، صحيح أنها واظبت على تلقي علاجها، صحيح أنها عانت من العلاجات الكيميائية والشعاعية النووية، لكنها داومت على العلاج رفعاً للعتب لا رغبةً بالحياة. نجح السرطان في تقويض إرادتها على الاستمرار، وأخذها منا. لم يسعفها العلاج الطبي بغياب الزخم النفسي، على الرغم من ابتسامتها الدائمة، إبتسامة استخدمتها كصورةٍ أخيرة تختم فيها الرحلة، لا كدافعٍ وسلاحٍ تقهر به المرض.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image